دراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية: أيُّ دور للعلوم الإنسانية في عالم ما بعد الثورة الصناعية؟
10 د
لماذا ندرس الفلسفة في عصرنا الحالي؟ كيف يمكننا الاستفادة من العلوم الإنسانية في واقع تحركه التطورات العلمية؟ ما الفائدة الممكنة من الفلسفة بينما يحاول الإنسان إيجاد لقمة العيش؟ ما الذي يجعل من العلوم الإنسانية ضرورة في عالم سيطرت عليه الآلة كيف حولتنا التكنولوجيا المعاصرة إلى مستلبين غير قادرين على فعل ما نحب؟
كل الأسئلة السابقة وغيرها الكثير مما يتوارد في الأذهان عندما ننطق لفظة الفلسفة، فقد درجت العادة على اعتبارها دلالةً عن كل كلام لا معنى له، وكل جدال لا فائدة منه وزائد عن الحاجة، فالعصر الحالي هو عصر التطورات التكنولوجية، عصر ما بعد الثورة الصناعية ولا مكان فيه للفكر التأملي.
هنا تبدو الحاجة ضرورية لتوضيح الحقيقة، فقد أدت النظرة السلبية المبنية على أحكام مسبقة وغير مدروسة سببًا في فقدان الاهتمام لدى أبناء هذا الجيل بدراسة الفلسفة، على اعتبار أنها دراسة لن تؤدي لنفع حقيقي في حياتنا، فنحن في زمن بات فيه كل شيء مرتبطًا بمقدار المنافع التي تتحقق على أرض الواقع، ولأننا اعتدنا أن نُدّرِسَ الفلسفة بوصفها دراسةً نظريةً بحتة، دراسة بعيدة عن تطبيقات العالم المعاصر، فقد أصبحت محض خيال لا فائدة منه حسبما يرى الكثيرون.
هل دراسة الفلسفة ضرورةٌ أم مجرد ترف؟
يعتبر الكثيرون أن دراسة الفلسفة حكرٌ على المترفين، أولئك الذين لا يبحثون عن لقمة العيش، أما أغلبية الناس فهي تحتاج إلى علمٍ يعطيها القدرة على إنتاجِ النقود في واقع بات مؤلمًا، وهذا يدفعها لاعتبار دراسة الفلسفة مجرد ترف لا حاجة له.
لكن الحقيقة هي أن دراسة الفلسفة ضرورة لأي إنسان ولا يمكن الاستغناء عنها، فهي فن المعرفة على حد تعبير الفيلسوف فيخته، إنها الفن الذي يعطينا القدرة على التفكير المنظم والمنطقي، وهذا النوع من التفكير يحتاجه كل الناس، الطفل والشاب والطالب والموظف والعالِم وغيرهم، فالفلسفة ليست مجرد فكرٍ تأملي كما درجت العادة على اعتبارها، إنها الآلية التي تنظم التفكير وتجعله قادرًا على طرح الأسئلة الصحيحة والدقيقة بهدف الوصول لأجوبة شافية.
وقد يذكرنا ذلك بما قاله الفيلسوف الابستمولوجي الفرنسي الشهر غاستون باشلار عندما سئل في إحدى المقابلات التلفزيونية: من الأفكار الشعبية ما يقال عن الفلسفة بأنه لا فائدة منها، فما هو رأيك في ذلك؟ فكان جوابه: إن الفلسفة وسيلة للتفكير الإبداعي، فإذا أردت التفكير دون إبداع فليس عليك استخدام الفلسفة.
أوليست كلُ الأعمال في الحياة تحتاج إلى فكر منظم ومنطقي؟
إن الإجابة عن هذا السؤال توصلنا بالفعل إلى أهمية وضرورة الفلسفة، فالفلسفة تساعدنا على ترتيب الأفكار وتصنيفها، كما أنها تؤسس للفكر المجرد المعتمد على العقل، وهو ما يعتبر اليوم الأداة الأساسية في الكثير من العلوم المجردة كالرياضيات مثلًا.
تقول إحدى الفتيات: عندما كنا ندرس الفلسفة في المدرسة كنت أستمتع ضمن الحصة الدراسية بشكل كبير، ولكنني لم أعرف أبدًا ما هي الفائدة الفعلية خارج حدود الصفوف الدراسية، فيما بعد وعندما دخلت في الحياة العملية بدأت تدريجيًا أكتشف أن كل ما تعلمته من الفلسفة يظهر على أرض الواقع ضمن سلوكيات مبنية على تفكير هادئ ومنظم، وعلى قدرة في ضبط النفس واستبدال الغضب برويّة، لقد علمتني الفلسفة حسن استخدام عقلي، وربما تكون هذه إحدى مهمات الفلسفة.
التأمل الفلسفي وفرضيات العلم الحديث
يُعرّفَ الفيلسوف برتراند رسل الفلسفة بأنها: فرضيات حول أمور لا يمكن الحسم فيها بطريقة نهائية من الناحية المعرفية، وهذا يضعنا أمام البحث في حقيقة الفرق بين الفلسفة والعلم، فعلى حد تعبير رسل: العلم هو ما نعلم والفلسفة هي ما لا نعلم، ولهذا فإن الأسئلة تمر دائمًا من الفلسفة إلى العلم، وهذا يعني أن كل أنواع الأسئلة التي كانت تعتبر فلسفية في وقت ما تحولت لتصبح فرضيات علمية فيما بعد.
وعموما تبدأ قصة تحوّل الأسئلة الفلسفية إلى فرضيات علمية من بحث الإنسان الدؤوب عن الحقيقة، فقد حاول الإنسان منذ وجد على كوكب الأرض أن يجد أجوبة حول الأسئلة الكبرى، وحول الأحداث والظواهر التي لم يكن قادرًا على مواجهتها، فسعى دائمًا للتأمل والتفكير بها بهدف الحصول على أجوبة تجعله يتغلب على الويلات التي كان يتعرض لها، وفي اللحظة التي بدأ فيها الإنسان طرح تساؤلات بعيدة عن الخرافة والأساطير، ولدت الفلسفة ليبدأ من خلالها بوضع فرضيات تأملية حول نشأة الكون والحوادث التي تحصل فيه.
وتخبرنا الفلسفة عن الكثير من النظريات التي ساهمت ببناء فرضيات علمية فيما بعد، فالحركة الدائرية التي اعتبرها أرسطو أكمل الحركات هي ذاتها التي تحدثنا عنها الرياضيات، ونظريات فيثاغورث في الهندسة ما زالت حتى يومنا هذا أساسًا وضرورة لدارسي الهندسة المستوية، وما جاء به ديمقريطس حول نظرية الذرات أصبحت فيما بعد فرضًا علميًا بامتياز وأُثبتَ من خلالها أن الذرةَ هي البنيةُ الأساسيةُ لأي مادة، وهناك أمثلة لا تنتهي عن ذلك فها هو نيونن الذي أسس لنظريته في الجاذبية الأرضية ينطلق من تأملات فلسفية، وأينشتاين الذي عبر وبكل صراحة عن أثر الفلسفة في نظرياته العلمية.
فائدة الفلسفة
للفلسفة فائدة لا نستطيع إغفالها، ولا يمكننا أن نعتبرها مجرد ترف لا معنى له، وليس من الصحيح حصرها بأقدم تعريف لها فقط وهو محبة الحكمة، بل إنها ما يعطينا القدرة على توظيف إمكاناتنا بالشكل الأمثل، وهي التي تفسح المجال لنا لإعادة التفكير بما اعتقدناه مستحيلًا، كونها تسهم في توسيع نظرة الإنسان عن العالم إلى مستوى الافتراض، على حد تعبير رسل، وهذا يعني الإبقاء على التكهنات المتعلقة بالمسائل التي لا يستطيع العلم التطرق لها في وقت ما، والتي تتحول كما سبق وذكرنا إلى فرض علمي.
من ناحية أخرى، ساهمت الفلسفة منذ بدايتها في معرفة الإنسان لذاته، وهذا أفسح المجال كي يستطيع الإنسان فهم مكنوناته الداخلية وتحليلها بهدف حل المشكلات التي تعترض طريقه، وتؤثر في اتخاذه للقرارت الهامة في الحياة، أوليست العبارة التي تناقلتها الأجيال "اعرف نفسك بنفسك" دليلًا على تقدير الذات وقدرتها على معرفة مكنوناتها؟ وهذا ما سيفضي كما قال سقراط يومًا إلى فكر عقلي منظم ودقيق، وقدرة على توليد الأفكار والانتقال فيها بتسلسل منطقي، مما يقلل هامش ارتكاب الأخطاء مع الوقت، فمن يضع الأسئلة الصحيحة يستطيع الوصول لإجابات دقيقة حول ما يحدث بدءًا من حياته الشخصية.
في المقابل تساعدنا الفلسفة على فهم معارفنا بشكل دقيق، فهي تجعلنا ندرك قلة معارفنا فنسعى لبناء معارف جديدة، وهذا ما يدفعنا لنكون أكثر وعيًا وتواضعًا أمام ما نمتلكه من معرفة، فيبعدنا ذلك عن مشاعر الكراهية وفعل الشر، فالمعرفة خير على حد تعبير سقراط، وفاعل الشر جاهل، لأنه لا يفهم معنى الخير حقًا، وربما يكون من المناسب هنا استخدام تعبير الفيلسوف رسل: (الحب حكمة والكره حمق) فالفلسفة تساعدنا على محبة ذواتنا بالدرجة الأولى ومن ثم محبة العالم.
كل ما سبق من فوائد للفلسفة يصبح عرضةً للتشويش والإساءة في مجتمع سيطرت عليه الآلة، وحولته إلى مجرد مستهلك لا يرغب في امتلاك المعرفة، بل يرغب في امتلاك الآلة التي تحميه من بذل أي مجهود مهما كان، وخاصة المجهود الفكري، فاليوم لم تعد المعرفة ضرورية للكثير من الناس طالما هم قادرون على استخدام كافة وسائل التكنولوجيا دون أي جهد، وهذا يضعنا أمام تحديات جديدة، ويضع على عاتق الفلسفة مهمة إعادة الوعي لمجتمعات فقدت وعيها تحت وطأة الاستهلاك، فما هي تلك المهمة؟ وكيف ساهم المجتمع الصناعي والتكنولوجي في تغيير حالة الإنسان من مستكشف باحث مبدع إلى مستهلك مستلب كسول؟
المجتمع الصناعي... استلاب أم حرية؟
يعاني الإنسان المعاصر من حالة اغتراب حقيقة ضمن مجتمعاته، فرغم أنه سعى عبر قرون طويلة كي يكتسب القوة من خلال اكتشافاته ومخترعاته التي سهلت الحياة عليه، إلا أن وبال التطور والتقدم التكنولوجي بدأ يتحول تدريجيًا ليصبح عبئًا حقيقيًا في حياته، فقد قسمتنا التكنولوجيا إلى قسمين أساسيين: أفرادٌ قلائل يخترعون كل الأدوات التكنولوجية ويطورونها، ومستهلكين كثر يعيشون اليوم على استهلاك ما تقدمه لنا التكنولوجيا.
مع هذا الواقع الاستهلاكي تنهار منظومة العمل، إذ تغدو الآلةُ أهمُّ من الإنسان وتحل مكانه، وتتخلخلُ القيّمُ الأخلاقيةُ وتصبح قيمة الإنسان العليا مرهونةً بما يملك، فيتحول إلى كائنٍ مُستلَبٍ غير قادرٍ على الخروج من دوامة الاستهلاك، فقد أفقدته الأدوات التكنولوجية القدرة على الإبداع، وأصبحت أدواره سلبية مبنية على التلقي والرغبة بالامتلاك.
هنا يعيش الإنسان جوهر الاغتراب، فينفصل عن مجتمعه أولًا بكل مكوناته، ويغدو وحيدًا في واقع غريب عنه، فيحدث الانفصال بينه وبين منتوجه ويستلب منه، ليجد نفسه تدريجيًا مغتربًا عن ذاته أيضًا، هذاالاغتراب الذي حدثنا عنه ماركس عندما قام بتوصيف اغتراب الإنسان العامل عن منتجه الصناعي الذي بذل جهده ليخرجه إلى الواقع.
في هذا السياق قد يكون تيد كازينسكي خير مثال في حديثنا عن أثر المجتمع الصناعي والتكنولوجي على الإنسان، وقد تستغربون عندما نخبركم عن هذه الشخصية، إنه عالم الرياضيات والمدرس الجامعي في أمريكا، والذي أخذ على عاتقة مناهضة التكنولوجيا وآثارها في المجتمعات المعاصرة، ليتحول إلى أخطر مجرم مسؤول عن التفجيرات في أمريكا لأكثر من عشرين عامًا، بحجة أنه يحارب كافة من يدعمون صعود التكنولوجيا، تلك التكنولوجيا المسؤولة عن زيف الحضارة، والتي يمكنها أن تتسبب في دمار الإنسانية، فمن وجهة نظره كل ما يصنعه ويخترعه الإنسان اليوم يشكلُ خطرًا على وجوده وحياته، ولذلك فقد وجد كازينسكي حجته ليبرر أفعاله الإجرامية والعنيفة طوال عشرين عامًا من الزمن.
نحن لا نريد أن يفهم القارئ هنا أننا نبرر ما فعله كازينسكي، بل بالعكس تمامًا فليس هناك ما قد يكون مبررًا لأفعال إجرامية بهذا الشكل، ولكننا أردنا من خلال طرحنا لهذا المثال أن نبين كيف أثرت التكنولوجيا في تشكيل ذوات من هذا النوع، ذوات قادرة على استخدام العنف بكافة أشكاله حتى عندما تريد غايةً قد تكون في أساسها نبيلة ومحقة.
لقد أدى الاغتراب الذي يعاني منه الإنسان إلى نماذج غير من متزنة من البشر، فالبعض ينطوي وينعزل ضمن واقعه بعيدًا عن كل شيء، لتصبح حياته عبارة عن لوح إلكتروني، أو هاتف محمول، والبعض الآخر ينهار نفسيًا ليتحول مع الوقت إلى مجرم عنيف كما حدث مع كازينسكي، وقد ينقل العالم الافتراضي إلى واقع، فيطبق في الواقع ما يراه في الأفلام، ويعيش ضمن إطار يتضمن علاقات مشوهة، وهناك طرف ثالث ما زال حتى اليوم يحاول جاهدًا أن يعيد إلى الإنسان رغبة الاستمرار رغم كل شيء، دون عنف أو انفصال عن الواقع، وهنا يعود دور الفلسفة ليظهر مرة أخرى، فما هو هذا الدور؟
الفلسفة... والمجتمع الصناعي
ضمن أحد اللقاءات التي جمعت الكثير من الفعاليات الاقتصادية والفكرية، تم التحدث عن انهيار منظومة التعليم، وتخلخل القيم، وإدمان الشباب على وسائل التكنولوجيا، وفقدان رغبتهم بالمعرفة. وبعد تفكير مطولٍ حول السبب كان الإجماع واضحًا في أن عدم وجود فلسفةٍ واضحةٍ للسياسات المتبعة في أي مجتمع ستكون نهايته الدمار.
نعم إننا اليوم بأمس الحاجة لبناء فلسفات تعيد للإنسان قدرته على فهم ذاته، فلسفات تسهم في إعادة الثقة له بقدرته على الإبداع والإنتاج، تعلمه كيف يواجه خوفه آثار التطور الصناعي، كما واجه يومًا ما خوفه من الطبيعة، ليتحول ما أبدعه إلى سبب للاستمرار في الحياة وليس في الموت، ربما وقتها تتغير نظرته لمفهوم الحضارة.
في النتيجة... يقع على عاتقنا اليوم أن نتشارك المسوؤلية في مساعدة الناشئة على تجاوز الضغوطات التي يعانون منها، وفي بناء بنية فكرية لديهم تعزز قيمة العمل بدل الاستهلاك، وتبني القدرة لديهم على اختيار ما يحبونه كي يحققوا النجاح في حياتهم، إنها الطريقة الوحيدة لإعادة النظر في كل شيء.
في الحقيقة يذكرني كل ما سبق باللحظة التي اتخذت فيها قرار دراسة اختصاص الفلسفة في يوم من الأيام، تلك اللحظة التي كانت مليئة بالغبطة والفرح، وبالأشواك في الوقت نفسه، فردات الفعل القاسية كانت منذرةً بتجربةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، تلك التجربة التي انتقدها الكثيرون، ولكنها أثبتت في النهاية، أن اتخاذ قرار من هذا النوع قد يكون أكثر نفعًا وضرورة من أي قرار آخر، فأن نقوم بدراسة ما نحب وبالنجاح فيه، أكثر أهمية من أن نقوم بدراسة ما لا نحبه، فما معنى أن تكون طبيبًا فاشلًا لأنك اخترت أن تدرس أحلام أبويك لا أحلامك، وما الفائدة من أن تكون مهندسًا غير متمكن لأنك أجبرت على اختيار مهنة لا تريدها، إن الفلسفة يا أصدقائي وإن لم تكن خياركم في الحياة، قد تساعدكم على اختيار المهنة التي تحبون، لأن النجاح في اختيار مهنة نريدها سيكون سببًا في نجاحنا الفردي، وهذا النجاح الفردي سيتحول لنجاح مجتمعي عندما يستطيع الجميع أن يعيش ما يرغب.
وتبقى الرغبة في اكتساب المعرفة والغوص في غمار المجهول حلمًا فطريًا للإنسان، ولذلك لن تفقد الفلسفة أهميتها في أيّ وقت.
اقرأ أيضاً: الانتحار في الجامعات.. لماذا يتخذ الطلاب قرارًا بإنهاء حياتهم؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.