على سيرة الحب: لا تكنِ مثل أوفيليا ضحية هاملت في مسرحية شكسبير
“راح بكير.. تركنا صغير.. هدوئك غريب والروح بعيد.. تحت التراب حطّوا الحبيب.. ونقشوا عليه اسم وتاريخ” أغنية راح بكير – فرقة جدل.
يدعي هاملت أمير الدنمارك الجنون كجزء من خطته للتأكد من صحة قصة الشبح، فيحاكيها من خلال مسرحية تعرض على أمه وعمه، من خلال ارتباك عمه يتأكد من شكوكه، ويقرر الانتقام منه وقتله. ومن هنا بالأخص يظهر تردد هاملت واضطرابه الشديد، فكم من المرات سنحت لهاملت الفرصة ليقتل عمه، ولكنه يتردد ويتراجع في آخر لحظة؛ لتكون شخصية هاملت من أكثر الشخصيات تركيباً في تاريخ الأدب العالمي.
اقرأ أيضًا:
رواية صاحب الظل الطويل وجزئها الثاني عدوي اللدود: رحلة حياة نتتبعها عبر الرسائل
قبل البدء: من هو هاملت أمير الدنمارك؟
“أكون أو لا أكون.. تلك هي المشكلة
أيكون العقل أسمى وأنبل
إذا احتمل قذائف القدر الحائر وسهامه
أم إذا جرد سلاحه على بحر خضم من الكوارث
فيقاومها حتى يقضى عليها
الموت رقاد”.
هاملت أمير الدنمارك هو الشخصية الرئيسية (البطل) لمسرحية تحمل نفس الاسم للكاتب الإنجليزي شكسبير، وهي إحدى مأساته الأربع الأشهر في الأدب (هاملت، عطيل، الملك لير، ماكبث) وكعادة الأعمال في عصر النهضة الرجوع إلى التراث اليوناني اعتمدت المسرحية على أسطورة شعبية اسكندنافية شهيرة لشاب يعاني من الاكتئاب بسبب موت والده وزواج أمه من عمه فلم يستطع التوافق مع قسوة الموقف وفقد عقله، كتبت المسرحية عام 1601.
تردد البطل وقلقه واكتئابه الظاهرين في الجمل المقتبسة أعلاه عن لسانه هم ملخص شخصية هاملت التي أدت إلى تحقيق شروط المأساة في المسرحية، أو بمعنى أصح كان الصراع واضح في قصة هاملت سواء الصراع الخارجي مع عمه او الداخلي بينهم وبين نفسه. فشخصية هاملت كغيره من أبطال التراجيديا له سقطاته وغلطاته، كانت سقطات هاملت متعددة وعلى عدة مستويات فسواء التردد في الأخذ بالثأر أو القتل الخطأ لبولونيوس أو حتى معاملته السيئة وهجره لحبيبته أوفيليا كلهم أخطاء.
بسبب أخطاء هاملت أمير الدنمارك وصراعه تحققت النهاية المأساوية ولاقى حتفه. ولكن: ما هي بالتحديد سقطة هاملت في علاقته بحبيبته أوفيليا، ما شكل الصراع النفسي في علاقته بها؟
أوفيليا، وردة مايو الحزينة..
“وبستنى الليل يروح لشوف عيونك.. وبترجّا السمى تبوح بسر فنونك.. وبتمنى الحظ يموت وما يعود يعود.. وبستغرب عطرك يفوح من غير وجودك” _ مين شاف حبيبي– فرقة جدل.
ظهرت أوفيليا لأول مرة في المسرحية في حوار لها مع أخوها لايرتس الذي يحذرها من علاقتها بهاملت، يخاطب لايرتس أخته باللغة التي تفهمها فيشبه هاملت: “بزهرة البنفسج التي تفتحت في الربيع قيل الأوان، فهي يانعة لكنها ليست دائمة”.
أوفيليا فتاة رقيقة حالمة محبة لهاملت بعمق، ومع ذلك فهي كأي فتاة نبيلة طوع أبوها وأخوها، وبمجرد ما طلبوا منها قطع التواصل مع هاملت نفذت الأوامر. وفي نفس الوقت تحملت قسوة وجفاء هاملت معها -التي كانت جزءاً من خطة انتقامه- ولكن القشة التي قصمت ظهر البيع بالنسبة لها كانت موت والدها على يد حبيبها هاملت.
أصيبت أوفيليا بحالة نفسية يمكن تلخيصها في “التوحد مع الطبيعة” فأصبحت تحمل الزهور وتجوب بلا هدف تنشد أغاني حزينة حتى قادت نفسها لحتفها، غرقت أوفيليا في البحيرة محاطة بالزهور في مشهد صوره شكسبير بشكل بالغ الرقة والهدوء، وكأنها وجدت السلام أخيراً.
“فسقطت هي وأكاليل أزهارها في الجدول الذي بكى حزناً عليها. انبسطت ملابسها لحظات وحملتها كالحورية فأخذت تغني مقاطع من ترانيم قديمة، كما لو كانت لا تحس بمحنتها أو كأنها مخلوق نشأ في هذا النصر واعتاد عليه” _ حوار عن لسان الملكة أم هاملت، ترجمة جمال عبد المقصود.
أوفيليا ضحية علاقاتها السامة مع هاملت
دمر هاملت أوفيليا على مستويين، وهما:
جفا هاملت مع أوفيليا وسوء معاملته لها هو المستوى الأول من الأذى الذي سببه لها، تغييره المفاجئ معها وتصرفاته غير المفهومة أربكت أوفيليا وأحزنتها كثيراً. ولم يكتفِ هاملت بهذا القدر بل وجه لها الكلام اللئيم كلما سنحت له الفرصة ووجه لها إيحاءات بعهرها، كما استغل قصة حبه ورفضها له ليحبك قصة جنونه.
الحقيقة أنه يمكن تفسير موقف هاملت المعادي لأوفيليا من خلال مفهوم عملية “الإزاحة” في التحليل النفسي، والذي يمكن اختصاره إلى أنها عملية لاشعورية من خلالها ينقل الإنسان المشاعر السلبية والأفكار المحرمة الممنوعة من الموضوع نفسه محل المشكلة لآخر مقبول اجتماعياً.
هاملت أزاح غضبه وعدوانه تجاه الملكة أمه الذي لم يكن قادر على البوح به لعدة أسباب منها طلب الشبح بالترفق بأمه، مكانتها كملكة وجب احترامها بالإضافة إلى حبها في قلبه ففي النهاية هي أمه، إلى أوفيليا المسكينة المحبة له التي لن ترد إهانته أو ترفضها حتى، فكانت أوفيليا لهاملت هي مجرد صورة لأمه يمكن بكل سهولة إهانتها وتفريغ غضبه بها.
ويظهر ذلك في حوار هاملت التالي مع أوفيليا:
“أوفيليا: وهل سيقول لنا ماذا يعني هذا العرض؟
هاملت: نعم، ومعنى أى عرض تعرضينه له. ومادمت لا تخلجين من العرض عليه، فلن يخجل من أن يقول لك ماذا يعني؟
أوفيليا: إنك شرير، إنك شرير. سأنتبه إلى المسرحية.
هاملت: هل هذا تقديم أم حكمة شعرية كتلك التي تنقش على الخواتم؟
أوفيليا: إنه قصير، يا مولاي.
هاملت: كحب المرأة”. ترجمة جمال عبد المقصود.
أما المستوى الثاني هو قتل هاملت أمير الدنمارك لوالد أوفيليا عن طريق الخطأ ظناً منه أنه الملك ومختبئ في غرفة الملكة، منذ الظهور الأول لشخصية أوفيليا في المسرحية ظهرت علاقتها الوطيدة الطيبة مع أبوها. فمن الواضح أنه العائلة الوحيدة المتبقية لها في ظل غياب الأم وسفر أخوها للدراسة بالخارج، فكان موت أبيها هو نهاية سلسلة أذى هاملت لها؛ لأنها وببساطة بعدها فقدت عقلها ولقيت حتفها بناء عليها. حتى بعد موتها لم يدرك هاملت الأذى الذي قدمه لأوفيليا، وظهر عليه أشد علامات الاستغراب من عداوة أخيها معه.
يبدو أنه وفي النهاية بسبب تردد هاملت وشخصيته المعقدة أنه أنتقم من الأشخاص الخطأ سواء عن عمد أم لا، فبدلاً من عتاب أمه أهان أوفيليا وصب غضبه عليها، وبدلاً من قتل عمه الملك مغتصب عرشه قتل بولونيوس أبو أوفيليا.
تصور شكسبير عن المرأة في مسرحية هاملت
وفقاً لتعاليم الكتاب المقدس، سبب الخطيئة الأولى للإنسان هي المرأة؛ فحواء هي من أغوت آدم ليأكل التفاحة المحرمة. وبما أن المجتمع الأوروبي هو مجتمع ديني متشدد فمن الطبيعي أن يتم النظر للمرأة على أنها أقل شأناً ويتم تهميشها. فخارج البلاط الملكي وجدران الأديرة والكنيسة كانت المرأة في الأغلب لا تنال حقوق عادية بداية من الميراث والتعليم وصولاً حتى حق الحياة نفسها، فمن المعروف انتشار حالات الوفيات للسيدات خلال الولادة؛ بسبب عدم تلقيهن الرعاية الطبية المناسبة.
شكسبير هو ناتج هذا المجتمع الذكوري، وابن بار لتعاليم الكنيسة والبلاط الملكي، لذلك ظهرت أوفيليا في المسرحية كرد فعل أو مجيب لأوامر وطلبات رجل آخر، أو حتى أثيرة حبها لهاملت، فكعادة معظم نساء العصر صورت أوفيليا كشخصية ليست لها إرادة حرة.
أوفيليا ما بعد النص والمسرح
“وملّيت الدار ورود لحين رجوعك.. وصلّيت للرب تعود وبوس عيونك.. وياريتني ابطل اشوف.. وما يضل علساني حروف بس ألمس طيفك.. مين شاف حبيبي” _ مين شاف حبيبي – فرقة جدل.
مما لا شك فيه أن شخصيات شكسبير بشكل عام وهاملت بشكل خاص خالدة في التاريخ، وبعد أكثر من أربعة قرون حتى الآن هي مصدر إلهام للكثير، إلا أن شخصية أوفيليا بشكل خاص بقصتها الحزينة كانت مصدر إلهام للكثير حتى خارج حدود الفن. فهناك حالة طبية شهيرة تسمى “Ophelia’s syndrome – متلازمة أوفيليا” التي تطلق على زملة أعراض داء هودجكين (سرطان الغدد اللمفاوية)، الأعراض عبارة عن فقدان ذاكرة تدريجي، هلوسة بالفصحى، أعراض اكتئاب وتصرفات غريبة بشكل عام الأمر المشابه كثيراً لحالة أوفيليا بد موت والدها ومن هنا جاء سبب التسمية.
أما في الجانب الفني فشخصية أوفيليا كذلك تم استخدامها بشكل منفرد بمعزل عن مسرحية هاملت أمير الدنمارك للكاتب شكسبير الشهير، فمثلاً في السينما صدر حديثاً فيلم بعنوان Ophelia عام 2018 يتناول القصة من منظور أوفيلي، بجانب بالطبع الأفلام الكثيرة التي تحمل عنوان وقصة هاملت ومنها من حاز على الأوسكار.
وكان الفن التشكيلي ذا النصيب الأكبر من الاستلهام من قصة أوفيليا، الحزن والمأساة في حكايتها وبالأخص في نهايته ومع وصف شكسبير له بهذا الشكل الرقيق كانوا المحرك للكثير من الفنانين التشكيلين ليعبروا عنها من خلال لوحاتهم. فكان مشهد انتحار أوفيليا أكثر ما تم تصويره، كما كانوا يتفننون في إظهار التفاصيل في لوحاتهم بالأخص في نوع الورد المحيط بأوفيليا.
وآخيراً عزيزتي القارئة، الحب والعشق والتعلق بالحبيب من ألطف وأجمل المشاعر التي يمكن أن يشعر بها الإنسان، ومحظوظ هو حقاً من يجد الحب في حياته. ولكن توخي الحذر من أن تكون نهاية حبك مثل نهاية حب أوفيليا لهاملت، ويتم الزج بكِ في معارك لستِ طرف فيها وفي خضمها يقضى عليكِ.
لك أيضًا:
روائع المسرح العالمي: سلسلة تثري المكتبة العربية بنصوص من عيون التراث المسرحي!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.