كي لا يكون العالم الذي برأسك أكبر من العالم الذي رأسك به: عش اللحظة الحالية لا في عالمٍ موازٍ
5 د
ولنا في الخيال حياة
تتجلى إحدى الميزات الإنسانية الفريدة في قدرتنا على شرود الذهن- وهي فترات من الوقت ينحرف فيها انتباهنا عن المهمة الحالية للتركيز على بعض الأفكار التي لاعلاقة لها بالمهمة- لهذه الميزة بعض الفوائد مثل زيادة الإبداع في بعض الحالات، كأن تكون موسيقيًّا أو رسّامًا أو فيزيائيًّا مثلًا، لكنها في نفس الوقت تتضمن بعض النتائج السلبية مثل الأخطاء في مهمتنا الحالية.
كثيرًا ما نعيد صياغة المواقف في أدمغتنا، نعيش حياةً أخرى منفصلة عن الواقع الحقيقي، نتمنى أن يعود الزمن لنقل ما لم نقله في موقفٍ ما أو لنفعل ما لم نقم به أو العكس، وكثيرًا ما نخسر لحظتنا الحالية بسبب الندم على الماضي أو الخوف من المستقبل، من الخسارة، من الأذى، من الفشل أو بسبب كثرة الأمنيات والأحلام الوردية، ونخسر تبعًا لذلك اللحظات والساعات والأيام وربما العمر (احضنوا الأيام لتهرب من بين أيديكم).
نعيش الحياة مرتين
يحضرني ديستويفسكي بقوله “العالم الذي برأسي أكبر من العالم الذي رأسي به“، ماذا يعني؟
يعني أن دماغك يغلي كمرجل ويطفق بالأفكار صغيرها وكبيرها طوال الوقت، تتمنى أن يتوقف عقلك عن التفكير لبرهة لكنه يأبى ذلك، لا توجد لحظة واحدة في يومك خالية من التفكير بالذي جرى والذي سيجري، من الحزن على الماضي أو القلق بشأن المستقبل، من الصراع الداخلي فيما ينبغي وفيما لا ينبغي، من الانشغال بحياة الآخرين، من رسم حياة من نسج الخيال من تمني أن تكون مكان غيرك طوال الوقت وترتيب أحلامٍ وبناء أبراجٍ عاجية.
إنه مجرد عالمٍ خاصٍ وهميّ يخفي عنك رؤية الحقيقة، تذهب للخروج مع أصدقائك فتعاني من مشاكل في الاندماج، إنهم يضحكون ويتمازحون وأنت في دنياك الأخرى، تحاول الاندماج في الحصص الدراسية أو المحاضرات الجامعية، تركّز بضع دقائق ثم يركّب دماغك أجنحةً ويطيرُ بعيدًا. تحاول الاستماع إلى مشاكل أحدهم فيسيطر عليك الشرود وتقوم بحركاتٍ بلهاء وإيماءات وألفاظ مثل “أها”، “صحيح” لتبدو أنك تحت السيطرة.
هل يهيمن عليك الاحساس بالذنب؟ هل تذهب لتجربة طعام جديد في مطعم ما فتشعر بالذنب؟ أصدقاؤك يستمتعون بالطعام وأنت غارقٌ في التفكير ربما بامتحانك المقبل! ماذا سيحصل هل ستجتاز الامتحان اذا فكرت به طوال الوقت؟
أفكار أفكار طوال الليل والنهار، إن كان هذا ما يحصل معك فهناك خللٌ ومشكلة لأنه في عالم موازٍ. هناك أناس يستمتعون بنسمات الربيع وثلج الشتاء وقطرات المطر ومواعدة الأصدقاء وحفلات العائلة، لا يستطيعون أن يسرّحوا شعرهم دون سماعِ أغنية وليس لديهم للهمّ مكانًا مهما ضاقت بهم الظروف، بكل بساطة إنهم يعيشون الحياة كل لحظة بلحظتها.. نعم إنها قوّة الآن..
الحاضر المستمر
في اللغة الإنجليزية يوجد فعل نسميه الحاضر المستمر “present continuous” وهو الفعل الذي تقوم به في اللحظة الحالية، من هنا يمكنني القول عِش في الزمن الحاضر المستمرّ، عش في الحاضر واستمر به. ابنِ حاضرًا جميلًا واستمر به وسيكون المستقبل أفضل.. لم القلق؟ نحن فقط نخسر التركيز على اللحظة الحاضرة إن الماضي يسرمد نفسه عند فقدان الحضور، نعم إن نوعية وعيك في هذه اللحظة هي ما يحدد ملامح المستقبل.
بهجة الوجود
لا تهتم بثمرة افعالك، أنت فقط أعرِ انتباهك إلى أفعالك نفسها أما الثمرة فستأتي من تلقاء نفسها. إن سبب الإجهاد في معظم الأوقات هو أنك “هنا” وتريد أن تكون “هناك” أي أنك في الحاضر وتريد أن تكون في المستقبل. فإذا وجدت نفسك عاجزًا ولاتحتمل البقاء في اللحظة الحالية أي- إنكار الآن- وتقاومها بشتى الطرق، هنا لديك ثلاثة خيارات: إما أن تُبعد نفسك عن الحالة، أو تغيرها أو تقبل بها كليًّا.
إنه من غير الشائع أن يمضي الناس كل حياتهم منتظرين للبدء في الحياة، الانتظار ما هو إلا حالة ذهنية تعني بالأصل أنك تريد المستقبل، أي أنك لا تريد الحاضر، لا تريد ما حصلت عليه لكنك بالمقابل تريد ما لم تحصل عليه. إن عرفان الجميل للحظة والامتنان لها والامتلاء بالحياة الآن هو ما يجعل الحياة جميلة فماذا لو ربحت العالم وخسرت روحك؟
من وجهة نظر التطور
لطالما واجهنا نحن البشر ومنذ سالف العصور مشكلة حقيقية وهي القلق بشأن الموت. كانت هذه المعضلة تتسبب بخوف وقلقٍ شديد وموهنٍ في بعض الأحيان، ولإدارة هذا الخوف طوّرنا منذ زمنٍ سحيقٍ أفكارًا مجردة أكثر إيجابية مثل الحياة الأبدية ولقاء الأحبة بعد الموت، لأن الإنسان يسعى دومًا إلى الخلود ولطالما عذبته فكرة الفناء أو الموت.
وكذلك فإن العديد من الأديان مثل الهندوسية والبوذية طورت بعض الأساليب مثل التأمل الذي يقلل من التوتر حسب علم وظائف الأعضاء، وأيضًا لدينا اليوغا والتاي تشي والكيغونغ، هذه الأساليب بإمكانها إزالة الخوف من الموت.
بالعودة في الزمن إلى ما قبل 200 ألف عام، كان حجم الدماغ البشري يتراوح بين 400- 500 سم³، وكان الإنسان قد أكل النباتات في بداية حياته، ثم توجّه لتناول اللحوم لأنها كانت وسيلة أكثر فاعلية للحصول على البروتين الضروري للبقاء، وأدى هذا النظام الغذائي المستمر من البروتين الحيواني إلي زيادة حجم أدمغتنا من 400- 500 سم³ إلى 1500-1700 سم³، أي أن حجم الدماغ زاد حوالي ثلاث مرات.
كان لهذه الزيادة فائدة كبيرة بزيادة سعة ذاكرتنا، حيث بدأت قدرتنا على التفكير المجرد في التطور منذ حوالي 95000 عام، وأشار إلى ذلك بقايا طقوس الدفن حيث مارس الإنسان هذه الطقوس عندما أصبح واعٍ بنفسه، وبإمكاننا القول إن تطورنا في التفكير المجرد واللغة كان من أهم الأحداث على وجه الأرض. فهذا ما سمح للبشر بالسيطرة على الأرض والعيش براحة وازدهار مقارنةً بالمخلوقات الأخرى.
العيش في الحاضر أسلوب حياة
إنه ليس بدعة أو نصيحة بل أسلوب حياة يدعمه العلم ويوصي به علماء النفس بالأخص لأولئك الذين يعانون من القلق والتوتر في حياتهم اليومية.
ما العمل الآن؟ توقف عن القراءة من فضلك وانظر فقط إلى ما حولك لفترة وجيزة. حسنًا قد عدت، لربما تكون في غرفتك أو على الشرفة أو ربما في المطبخ! ماذا حدث؟ عندما نظرت حولك لاحظت أشياء، نعم لاحظتها دون التفكير فيها أي أنك قد قمت بتحويل انتباهك بعيدًا عن أفكارك وركزت فيما يحدث حولك. هذا مجرد تمرين يمكنك القيام به عدة مرات في الأسبوع على أن يحدث بتلقائية ودون تكلّف، يمكن أن يساعدك هذا التمرين جنبًا إلى جنب مع التأمل المنتظم في استثمار حياتك بالإضافة إلى الاستجمام في الطبيعة، فهي وسيلة أخرى للتعرف على السكون، وربما المشي أو اليوغا أو الرقص أو البستنة. أنت وحدك من يمكنه أن يجد المخرج.
عش اللحظة ولا تحرم روحك من لذّة الحياة إنها الكنز الثمين بين يديك فقط استسلم لها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.