هذا ما تبدو عليه الحياة عندما تفقد حاسة الشم

بضع حبيبات من البن تضرب صفحة مياهٍ ساخنة فتفور المياه مشكّلةً رغوةً سمراء تتصاعد أبخرتها لتلامس وجهك النعسان. تحمل فنجانك ودلّة القهوة وتسير بهما نحو النافذة، تفتحها برفق لتتدفق نسماتٌ من هواءٍ نضر لم يترك الدخان ولا الضوضاء عليه أثراً. تملأ رئتيك منتعشاً حتى ينتفخ صدرك وتزفر كل أعباء الحياة مرةً واحدة، مرحباً بيوم جديد. مرحباً بصباحٍ تلوّنه حاسة الشم.

تخيّل أن تستيقظ يوماً ولا تستطيع شمّ شيءٍ من هذه الروائح، لا القهوة، لا هواء الصباح، لا ياسمينتكم ولا حتّى رائحتك أنت. كيف ستبدو الحياة بلا روائح؟

في الواقع فقدان حاسة الشم ليس أمراً نادر الحدوث. تكرّر سماعنا به في الفترة الأخيرة كأحد أعراض الإصابة بكوفيد 19، وكعارضٍ لمرضٍ أرعب الكوكب، وبدا الأمر ثانوياً لم يعره الكثيرون أهمية. فما معنى ألّا تستطيع الشم لفترةٍ ما، مقارنةً بعدم القدرة على التنفس أو الحمّى الشديدة؟! لكنّ الأمر لم يكن بهذه البساطة، وحمل معه أبعاداً أخرى سأستعرضها لاحقاً أمّا الآن:

قد يشعر البعض أن الشم حاسة ثانوية أقرب للرفاهية، فهي الحاسة التي تعطي الحياة لوناً إضافياً ليس إلا، لكن في الواقع فقدان حاسة الشم قد يسبب خطراً على الحياة خاصةً وإن كنت تعيش وحيداً. يتعدى الأمر ألا تدرك أن الحليب أو الطعام فاسد ليصل إلى أن يتسرب الغاز دون أن تدرك أو ينشب حريق دون أن تشعر أو أن تستخدم مواد كيميائية شفافة دون أن تستطيع تمييزها.

اقرأ أيضًا: أسرار وخبايا مدهشة لا تعرفها عن جسدك!

فعندما تفقد القدرة على الشم تودّع معها حاسة التذوق. قد تحافظ على قدرتك على تذوق النكهات الأساسية الحلو، المالح، الحامض والمرّ، لكن ما تفتقده هو القدرة على التفريق بين فروع النوع الواحد، كالتفريق بين الفراولة والموز وبين الشوكولا والفانيليا.

بمعزلٍ عن احتمال تناول طعام فاسد، كثير الملح أو شديد التوابل، فإن عدم القدرة على شم أو تذوق الطعام قد يتسبب بفقدانك للشهية أو تناولك كميات مفرطة من الطعام. فتناول الطعام لن يعود تجربةً ممتعة ولكن حفاظاً على البقاء.

ستبدو عبارة هذه الرائحة تذكّرني بالحلويات التي كانت جدّتي تصنعها في أول أيام العيد أو رائحة عطر فلان ذكّرتني بشخصٍ عزيز غريبةً عنك. لأن ذكريات الرائحة يتم إنشاؤها بطريقة مختلفة عن الذكريات الأخرى. فعندما تشم شيئاً ما، يثير استجابةً في الجهاز الحوفي وهو ما يدعى الجزء العاطفي من الدماغ.

كما قد لا تفهم سبب تجهّم الوجوه عند دخولك إلى المصعد حاملاً مرطباناً من مخلل الملفوف أو قد تنسى أنّه مضى على استحمامك ثلاثة أيّام إن لم يكن شعرك دهنيّاً.

وتصبح إعلانات العطورات التي تكسب الأشخاص جاذبيةً لا تقاوم عند الجنس الآخر غير مفهومةٍ بالنسبة لك، ولا تدرك سبب تسمية فيلم آل باتشينو رائحة امرأة.

فهو أشبه بأن تشاهد الحياة من شاشة تلفاز بالأبيض والأسود بعد أن كنت تتابعها على شاشات Full HD. رائحة اللّيمون مثلاً تحسّن المزاج، رائحة اللافندر، النعنع والياسمين روائح تساعد على الاسترخاء. وكم من رائحةٍ تلعب على مزاجنا طوال اليوم دون أن نلحظ!

فبينما الجميع على طاولة المائدة ينتقدون أو يثنون على أطباق الطعام تجد نفسك غير قادرٍ على التعليق أو حتى فهم ما يتحدّثون عنه، ستجد نفسك تنعزل وتكره الاجتماعات شيئاً فشيئاً.

اقرأ أيضًا: كوكو شانيل قصة نجاحها وتحوّلها إلى أيقونة الموضة العالمية التي يعرفها الجميع حول العالم

تعددت أسباب فقدان حاسة الشم، فهناك فقدان حاسة الشم الخلقي، حيث يولد الشخص غير قادر على الشم، وهي حالة نادرة، في حين يعد فقدان الرائحة المكتسب الأكثر شيوعاً وتتعدد أسبابه بين نزلات البرد، الاحتقان المزمن للأنف، انسداد الممرات الأنفية بالأورام الحميدة، الشيخوخة، السكري، الإصابات الدماغية وغيرها. كما يمكن أن يكون الفقدان عارضاً جانبياً لعلاجٍ ما مثل العلاج الكيماوي ويتم استعادته بعد فترة.
يمكن أن تكون هذه الخسارة كاملة أو مجرد ضعف في حاسة الشم. يمكن أن يكون هذا الفقد مؤقتاً ويمكن أن يصبح دائماً.

في حالة فقدان حاسة الشم بسبب فيروس كوفيد 19، غالبية المصابين استعادوا قدرتهم على الشم بينما لم تستعدها بعض الحالات حتى الآن ولا يوجد دراسة واضحة بينت السبب في هذا التفاوت أو متى من المتوقع أن يتمكن المريض من استعادتها.

إلى يوما هذا، لا يوجد تقدير جيد لعدد الأشخاص الذين يعانون من فقدان الشم ولا يوجد علاج لفقدان حاسة الشم الخلقي. يمكن للأطباء علاج الالتهاب أو انسداد الأنف الذي قد يتسبب في فقدان الشم المكتسب إذا لم يكن الضرر كبيراً جداً. ووفقاً لمجموعة New York Otolaryngology Group، يمكن علاج نصف حالات فقدان الشم عن طريق العلاجات غير الجراحية. كما يمكن تقليل أعراض وآثار فقدان الشم في معظم الحالات الأخرى باستخدام استراتيجيات التأقلم، غير أنّ الباحثين يدرسون أيضاً الخلايا الجذعية، لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم تحويلها لخلايا عصبية شمية جديدة أم لا.

قد لا تحظى حاسة الشم بالأهمية التي يحظى بها البصر أو السمع عند الكثيرين، إلا أنّها تمكّنك من التفاعل مع البيئة المحيطة بمزيدٍ من الإحساس والتناغم. إن كنت ممّن يهوون الطبخ ستدرك ما أقول عندما تشتم نوعاً ما من التوابل ويتبين لك من الرائحة فقط أنّه سيضيف نكهةً مميزةً غير تقليدية لوصفتك. إن كنت ممن يحبّون صناعة العطور ستجد أن العطر نفسه.

إن فقدتم حاسة الشم يوماً، شاركونا تجربتكم وأخبرونا كيف تبدو الحياة دون روائح، قد يكون للأمر إيجابياته في يومٍ صيفي في باصٍ مزدحم.

اقرأ أيضًا: كيف تتوقف عن الشعور بالتعب المستمر وتتحول إلى وضع النشاط؟