أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟ قصة يوسف إدريس الشهيرة عن الضعف الإنساني
7 د
نذكر أن مجموعة “بيت من لحم” نشرتها مكتبة مصر في 137 صفحة سنة 1971 للمرة الأولى (الغلاف في صورة المقال لطبعة مؤسسة هنداوي)، وضمت عددًا من الحكايات قصتنا هي الثانية في ترتيبها بعد الحاملة لاسم المجموعة.
نرشح لك قراءة: بيت من لحم للكاتب يوسف إدريس: عن القصة بين خيالية الأصل وواقعية المغزى!
أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟ عن القصص والتلقي
إن “يوسف إدريس” لمحترف بارع، وهو في كثير من قصصه -من بينها “أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟”- يوصل هذا الانطباع الذي يوصله من يتمطى: القصة بيته وهو فيها مرتاح، لذا ترى تحركه متأنيًّا وتركيزه على عوامل نجاح النص كبيرًا. هو أيضًا يبدو كمن قرأ القصة عشر مرات حتى أمست قصة داخل قصة كالحلم داخل حلم: ترى هذا في تحرك الأسطر وتقديمه للقصص بوصفها تجارب لا تهم نتائجها كثيرًا.
لعل هذا الانطباع ما يستفز شانئي الرجل خاصة إذا تحدث عن الجنس، وبشكل أخص حالَ وضعه في سياقات التدين والمساجد ونحوها. أتفهم جهة النظر في الحقيقة لكني لا أعلم كيف يتفاداها الكاتب، وما هذا إلا لأني جربت الكتابة عن آثام الناس وعقدهم والمناطق المحرمة من عقولهم وحيواتهم فبان لي أن المناطق متصلة، وأن هذا العزل يمكن فرضه في الحقيقة فيصمد ما شاء الله أن يصمد، أما القصص المبنية أصلًا على الصدام؛ على تشابك المواقف والنتائج غير المتوقعة للمعادلات المفتعلة، تلك مسارات يكاد يستحيل على الصادق تجريدها مما في الواقع من تناقضات.
إذن، لماذا يتعامل الناس مع القصص كأنها مصدر تهديد؟ لماذا يقع لقارئ أن يرى هذه الحروف دنسة مدنسة للمسجد والدين والدعوة والصلاة؟ إن الإنكار المبدئي مفهوم، والنفس تنفر مما يسيء لعقيدتها، والفصل الذي نطالب الناس به بين التعامل مع القصة والواقع خياليٌّ عسير المنال، لصعوبة الانتقال ولأن القصة وإن تفرقت عن الحقيقة فهي نابعة عنها متأثرة بتراكمها.
أما السبب فهو تعقد نظر الناس للمذنبين في الحقيقة، ترى هذا في حفلات التنمر الجماعي على مواقع التواصل التي تكرمت علينا بإظهار الحجم الحقيقي لقبحنا. ثم إن الواحد إذا لم يحظ بأمانه وكان تلقيه للدين غير مستقر أساسًا، وقع له بالتأكيد الشعور بالخطر إزاء أحرف رُصت على ورق.
لكن جهة العذر واضحة، فإن عرض السوء شيء والتعمق فيه آخر، ذكرُ وجود الشر أمرٌ وتشريح حالة بكل التدقيق أمرٌ مختلف تمامًا. وقد تربينا على أن تكون الكتب وعظية يهزم فيها الطيب الشرير ويفوز الصالح بالحسناء، ثم عُلِّمنا في الواقع أن الحقائق بين أبيض وأسود والقفز للنتائج موهبة والتحديات يسيرة على كل ذي عينين.
المشكلة الحقيقة التي يقودنا إليها تلقي هذه القصص هي معرفة مدى بدائية تصور الناس عن الناس: عن اختبارات الحياة وتفاعلات الخلق وتباديل المواقف وتوافيقها وغرابة الاتصال بين المدخلات والمخرجات في كثير من الأحداث.
إن تكن سلطتك معدومة على الواقع خارج نطاق سيطرتك، وعلمك منقوصًا بما يقع وراء خبراتك والحكايات الجارية تحت بصرك وسمعك، فالأحرى بك ألا تجادل في أحقية غيرك بتمرير خيالاته على النحو الذي يلائمه، ولتعلم أن القصص كما الوقائع تفشل كثيرًا في إنتاج عبرة صالحة أو تأكيد معلوم.
أمر آخر يهمني هو الناس لا يلتفتون إلا للجنس في كل كتابة اتخذته محورًا لها، أرى هذا جليًّا في تعامل الناس مع القصص الشهيرة وحتى كتاباتي المجهولة. هذا التقييد لا يمكن أن يسفر عن خير، والأهم أنه دالٌّ على ضيق نظر صاحبه وغياب وعيه بمفهوم القصة. الكتابة تحدٍّ، فهي لم تخلق لإشعارك بالأمان ومناسبة حدودك. والتجاوز الخيالي للخطوط التي لا يسمح الواقع بتجاوزها (المفارقة أن هذا الحجر أحد أشياء يهجوها النص) قدرٌ معقول من التحرر. والواقعة واقعة وليس أبدية، والحالة حالة وليست بقاعدة.
نرشح لك قراءة: يوسف إدريس.. فيلسوف القصة القصيرة والمشاعر الإنسانية!
لنواكب ما نحيا
ألم يقع لك مرة -ولو في طفولتك- أن كنت ساجدًا وراء إمام فخطر ببالك أنه قد يترك المصلين ويرحل؟ ثم: ماذا لو رحل؟ كيف نعرف ومتى نتصرف؟ هذه السيطرة على المتبوعين إلى حد نسخ حركاته بدقة، ودون سَبق أو مساواة، وبإنصات لقراءته وصبر على إطالته؛ ليست متاحة في السياق اليومي تقريبًا، وبالتالي فإن تزاحم الأفكار بشأنها طبيعي حسن الدلالة ما لم يخرج عن السيطرة.
قلت سابقًا إن “يوسف إدريس” يرى ما لا نرى؛ يطلع على الحوادث من جهات مغايرة لجهاتنا، وأضيف هنا أنه يحسن التعبير عن خيالاتنا العابرة وتوظيفها خير توظيف. برب السماء، أي شيء أقوى برهانًا على براعة الكاتب وأهليته من وجوده داخل رأسك؟! نقول إن الكتابة تقربنا وهذا أصدق مثال على المقال: بدءًا من ذكر عادة في منشور فيسبوكي يتضح لاحقًا أن كثيرين يلزمونها، وحتى انتقاء “يوسف إدريس” فكرة تافهة عبرت عقلي وأنا ساجد قبل أعوام وتطويرها إلى حد يكاد يضاهي الواقع في قوته! نقول إننا نكتب لنواكب ما نحيا وليس برأسي صورة أفضل للمواكبة من هذه.
بالطبع قصة “أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟” محاولة للسيطرة على عدد كبير من المتغيرات، كما هي حال قصص كثيرة للرجل، وهو في هذا -مع أنه يبدو عالمًا بالناس وحكاياتهم- لا يمكن أن يكون موثوقًا منزهًا عن التحيز دومًا.
نرشح لك قراءة: أفضل كتب يوسف إدريس تشيخوف العرب وأديب الواقعية المصرية
ما يلي النهاية
قصةُ “أكان لا بد…” هي حكاية هزيمة؛ الصالح الذي غلبه الفساد المحيط. لكنها لا تتعدى ذلك فإن ما بعد النهاية كثير، ربما لم يسطره “يوسف إدريس” هنا إلا تلميحًا بالقدر الذي يسمح به النص، لكن خاتمة القصة لا تقع من نفسي موقع نهاية العالم كما يحدث لكثير من القراء. كل ما في الأمر أن الجزء الذي اختار الكاتب قطعه من حياة هذا المعين عشوائيًّا انتهت على هذا النحو.
أهو يسير؟ لا. فإن القصة بدأت بسيرة الرجل في الحي، بعلاقته بساكنيه وتعرضه للفتن وأشدها فتنة النساء، بعزوفه غير المبرر عن النكاح وخلطه ظاهر الحمق بين دورَي النبي والداعي، باختراقه عالمًا خطيرًا بلا تحصين بعد الاستعلاء الذاتي الدفين، وبانتصاراته الصغيرة التي لم تعنِ شيئًا (كتلذذهم بحلاوة تلاوته)، وبرفضه الاعتراف بالخسارة. المقصود أن هذا الجرد للتجربة يوحي -يوحي فحسب- بأن النهاية محتوية لها، وأن ما يتبعها حتمًا خارج عنها.
وهذا مؤسف طبعًا، لكني أعد مزيدًا من الخسائر بعد موقف ترك الساجدين المحرِج من أجل اقتراف الزنا، وبعد الهزيمة، وزوال المثل الأعلى الهلامي لأولئك الغارقين في المعاصي، وانتهاء مشروع إصلاح الحي قبل ابتدائه، والانضمام المهين لكتيبة الحالمين بيأس بـ “لي لي” أيًّا كان ما تعبر عنه، وبعد النزول من المنبر العالي إلى الوحل ثم تلقي الرفض. لا أحسب رغبة الشيخ في القصة في الاندماج بالقطيع جاءت انقيادًا للشهوة فقط، بل قد شاء الفرار من برد العزلة إلى دفء الصحبة.
نرشح لك قراءة: الحشيش في الرواية العربية: إذا حضر اجتمع حوله الجميع
إيشاك
هو خطأ يرتكبه الصالحون إذ يظنون التعامل مع المذنبين لا يفترض أن يجري إلا في طريق الدعوة، فلا يكون تفاعلك معه إلا إخبارًا بذنبه واعتراضًا على أسلوب حياته وتعديدًا لغلطاته وترفعًا ضمنيًّا عنه بخيريتك. والأمر أوسع من ذا، والتعامل الإنساني يقره الشرع وراء هذه المساحات الضيقة، وخيار تحقيق التوازن بين إنكار المنكر وعدم الانجرار إلى معاقرته، وبين عيش حياة طيبة لا تثقلك فيها الوحدة ولا تستمد حرارتها من مقتك الآخرين ومقتهم لك؛ خيارٌ واقعي رغم صعوبته.
لا تنس أن لحظة إيشاك الشيخ على فعل الإثم كانت أقرب لحظاته إلى ربه وعلمه بضعفه وقلة حيلته وافتقاره إلى العون، لدرجة أن “يوسف إدريس” نفسه تأثر فيما بدا فافتعل النكتة التي هي قوام القصة وجرَّ الحشاشين السكارى من بيوتهم إلى الصوت الصادق، مختلقًا الأرضية التي ستسمح بالتعقيد النهائي لقصة “أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟”.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.