عالم الغوانِ كما لم تراه من قبل: مسرحية طقوس الإشارات والتحولات للكاتب سعد الله ونوس
15 د
وصفت عبلة الرويني الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس في كتابها حكي الطائر بأنه “مشروع مسرحي عربي متكامل”، نظرًا لتنوع موضوعات نصوصه واختلاف اتجاهاته في الكتابة، حيث اتسمت مراحله الأولى بارتكازها على الوعي التاريخي، ثم انتقل بأسلوب كتابته نحو الأهواء والذات وصعود الأنا.
فكانت المرحلة الأولى تتسم باليقين وإيمانه الشديد بإمكانية التدخل في التاريخ، لذا كان دائمًا يستهدف علاقة السلطة بالمحكوم/المجتمع، ثم أدرك ونوس أن هناك مشكلة أعمق من السلطة والمجتمع هي الولوج داخل النفس البشرية وتتبع أهوائها ورغباتها الدفينة.
ومنها قسم الباحثين والمسرحيين كتابات ونوس إلى ثلاثة مراحل:
- المرحلة الأولى: اتسمت مسرحياته باللغة الشعرية والكتابة الرمزية.
- المرحلة الثانية: فهي التي اعتمد في كتابته حينها على التراث والأخذ بالأشكال المسرحية الجديدة.
- المرحلة الثالثة: وهي مرحلة إصابته بمرض السرطان وعمل حينها على كسر الحواجز والتابوهات الاجتماعية والسياسية واتجه أكثر نحو الأهواء النفسية والمكنونات الشخصية. بدأت منذ عام 1992 وحتى عام 1997 كتب سعد الله ونوس فيها أكثر من نص من بينهم “طقوس الإشارات والتحولات” تحديدًا في عام 1994.
النص المسرحي طقوس الإشارات والتحولات للكاتب سعد الله ونوس
تبدأ أحداث مسرحية طقوس الإشارات والتحولات بتعريف الخلاف الناشب بين المفتي ونقيب الأشراف، ومنه إلى مشهد مخل لنقيب الأشراف “عبد الله” مع الغانية “وردة”، وبقدوم “عزت بك” قائد الدرك ومعاونيه الذين يحملونه مكبلًا على بغلة رفقة الغانية وقد ارتدت ثياب نقيب الأشراف، ويطوفون بهما في موكب للفضيحة بأزقة المدينة.
مما يثير غضب المفتي، ليس دفاعًا عن عبد الله ذاته، بل انتصارًا لمكانة منصبه ولحرمة مركز نقابة الأشراف وعدم إهانة كبار الدولة، وللخروج من ورطة الإهانة، يدبر المفتي مكيدة إبدال الغانية المسجونة بامرأة نقيب الأشراف، ويذهب شخصيًا إليها، لكنها ستقبل ذلك مساومةً بالطلاق من عبد الله، هكذا تنتصر الحيلة على عزت بك قائد الدرك، ويسجن بدلًا من عبد الله الذي أصبح حرًا ومطلقًا لزوجته، ومتنازلًا عن نقابة الأشراف.
أما الزوجة المطلقة/ مؤمنة فتسير في طريق الغواية بعد أن اقتحمت عالم “وردة” لتصبح غانية وتساعدها على الغواية، ويتحول اسمها إلى ألماسة، تظل تدافع عن مصيرها أمام أبيها الذي حاكمته تاريخيًا لمجونه وفسقه، واعتبرت تجربتها نتاجًا لفسقه المكتوم وفضائحه المسكوت عنها.
أما المفتي فيقع في حب ألماسة ويعرض عليها الزواج ولكنها تقابله بالرفض، يذاع خبر ألماسة، وتصبح هي أيقونة العصر في اللباس والعطر، لسان كل متحدث، وعلى صعيد آخر عبد الله الذي تاه في الطرقات يتبعه الصبيان باستهزاء.
ويصدر المفتي فتاوى متعددة، تحرم التزين على طريقة ألماسة أو تسمية البضائع باسمها، وتحريم قراءة الكتب غير الدينية، وتحريم الغناء والرقص، ومهاجمة أماكن صنع الخمر وإحراقها.
وتنتهي المسرحية بقتل ألماسة على يد أخيها صفوان، أما المفتي فيعفى من منصبه، ويشق ثيابه ويلزم بيته ملتحقًا بطريق عبد الله النقيب الذي زهد وتصوف في حب الله.
سنقوم في هذا المقال بتحليل الشخصيات النسائية في النص المسرحي طقوس الإشارات والتحولات للكاتب سعد الله ونوس وما عانت من إضطرابات نفسية:
عرف علم النفس الاضطرابات النفسية للمرأة بأنها: قلق ما يصيب التفكير أو الإنفعال أو السلوك لديها، أو يعني سوء توافق المرأة مع ذاتها ومع الواقع الاجتماعي الذي تحيا فيه، مما يُحدث لديها إما فقدان اتزان أو فقدان الثبات الانفعالي.
أولًا – شخصية وردة
اسم وردة يعطي دِلالة نحو وجود زهرة جميلة تشير إلى التفتح والازدهار، كما أنه ساد في العرف أن الوردة تُهدى كرمز للمحبة في الأعياد والمناسبات.
تعتبر وردة هي افتتاحية النص المسرحي، حيث تبدأ أولى جملها الحوارية وهي في وضع مخل مع عبد الله نقيب الأشراف، ليؤسس الكاتب إلى أي بيئة تنتمي وردة ومن أي مهنة ترتزق، وتبدأ حوارها بأغنية تحمل كلمات مغوية لعبد الله.
ثم تبدأ الأحداث في التعرف بشخصية عبد الله في حالة العشق والهيام، حيث لم يبدأ النص بتعريف شخصية عبد الله ولا وردة في أماكن أخرى بل بدأ من مشهد اندفاع وانطلاق الرغبات وسيطرة الغرائز بداية من إرشاداته الأولى التي وصف فيها شكل الطعام:
“بينهما طبق كبير عليه أصناف من المازة والمشروبات” ص9.
ثم وصف سلوك كل منهما أثناء اللهو وإقامة العلاقة الحميمة فيما بينهما، لتسود الغريزة على حالة المشهد العامة بين الطعام وممارسة الجنس، وتظهر وردة وهي تطلب من عبد الله أن يزيل الهيبة والوجاهة، لتُحدث نوع من أنواع التبادل في الأدوار، وترتدي عمامته التي تعتبر هي رمز للأشراف، وتصبح وردة هي المسيطرة على المشهد بأكمله، وهي من تسيطر على عبد الله وتأمره بخلع ملابسه، وتوجه حركته.
ومن ذلك المشهد تظهر سيطرة المرأة، ودوافعها في قلب الأدوار، حيث إنها تشعر بهيبة النقيب طالما لبس ملابس الأشراف، وفي الوقت ذاته تشعر بمدى حقارة ذاتها بأنها الغانية وليست من الأشراف، ومع ارتداءها لملابس عبد الله تظهر ميولها نحو الانتماء إلى هذه الطبقة وما تتمتع به من سلوك شريف، أي يظهر ذلك الفعل الرغبة الأولى الدفينة في نفس وردة.
دِلالات وتأثير مكان السجن على المستوى النفسي للشخصية
ومن ذلك الانطلاق وحرية الحركة التي ظهرت عليها وردة يتحول وضعها في المشهد التالي لها بوجودها في السجن، ويعتبر السجن داخل النص ليس مجرد ذلك المكان المغلق على صاحبه، بل له دِلالة قوية في التكوين النفسي للشخصيات، وجود شخصية وردة في السجن، وهو المكان التالي لها بعد ذلك المكان المليء بالشجر والأزهار، الذي ظهرت فيه مع عبد الله في المشهد الأول في افتتاحية المسرحية.
وفي السجن تعترف وردة بمشاعرها الحقيقية تجاه عبد الله وأنه ليس مجرد زبون من زبائن الغانية، بينما هي تعشقه، ثم يتطور المونولوج ليفصح عن بواطن شخصية وردة حيث باتت تصف فيه الرجال، بأن لهم أساليب ملتوية حين يقررون الهرب من امرأة، وتقول لعبد الله بعدها:
“لست أول خيبة، ولم تكن الأخيرة” ص43.
مما يؤكد على معاناتها الماضية مع الرجال، وهو ما يسمى في علم النفس بمستدعيات المواد النفسية الشعورية واللاشعورية، “فهي حالة من حالات التداعي تلقي بالأفكار والمشاعر المختبئة، حين تواجه الشخصية موقف مشابه”
ولم يقتصر الاستدعاء عند وردة حد المقارنة بين عبد الله وباقي الرجال السابقة له في حياتها، بل شرعت وردة في استدعاء أسباب سلوكها ذلك الطريق العاهر وكأنها تستدعي حكاية من زمن فات وولى:
“كان ياما كان، كان هناك بنت صغيرة.. باعوها أهلها إلى أسرة ميسورة، كان رب الأسرة شيخًا جليلًا،.. كان الشيخ الجليل يلحظني بعناية وقبل أن أحيض كان قد كشف لي الطريق،.. كان يفسق بي، وهو يعلمني طبقات الفسق ومراتبه” ص45.
ومن ذلك المقطع يتضح أن وردة لم يكن لديها رغبة منذ الصغر في سلوك الغانيات، بل أُرغمت عليه من قِبل ذلك الشيخ الذي وصفته، لذا فالدافع عند وردة هو دافع اضطراري لم تختاره.
لذا فارتكاب الفواحش عند وردة حدث بسبب وجود الشيخ الذي كان حافزًا لسلوكها هذا المسلك، حيث شكل العديد من علماء النفس تعريفات عدة حول مفهوم الحافز، فوصفه يعود إلى نظرية نفسية تعرف باسم “التكيف الحافزي”، وعرفها تولمان عام 1926:
“أن السلوك يسير قدمًا بفعل مهدئات نفسية نهائية يتجه نحوها الفرد، أو مزعجات نفسية نهائية يحاول الفرد الابتعاد عنها وتشكل هذه الحوافز القواعد الأساسية لسلوكه”.
كما أكد عالم النفس ودورث على استبعاد مفهوم الغريزة ليؤكد على وجود الحافز وقصد منه “دافع السلوك الذي ينشط نمطًا معينًا من السلوك ذاته”.
أي أن وجود الشيخ في حياة وردة منذ الصغر كان حافزًا لها أن تكون غانية عندما تكبر، وبإختفاء الحافز وهو الشيخ لما كان للسلوك وجود من الأساس، وهو أن تصبح غانية.
كما أن للسجن دِلالة لغوية تعني القيد والحصار، وفي نفس المكان المغلق تعترف فيه وردة بماضيها وتكشف عن اضطرارها لسلوك مسلك الغوان، أي أن كان للمكان أثر نفسي جعلها تدرك مكانتها الحقيقية وتبعد عن حالة التماهي التي كانت عليها وتحاول تصديقها في خلوتها مع عبد الله عندما كانت ترتدي عمامة الأشراف.
كما أن للسجن تعريف في علم النفس يختص بعلاقة المسجون بالمكان وأثر السجن على السجناء يعرف باسم “سيكولوجية الأثير”، حيث يساهم الأثر في الإفصاح عن مكنونات داخلية للشخصية كان لا يمكن أن تصرح بها ما دامت حرة طليقة.
وهذا ما قدمته وردة، فهي لم تفصح عن ماضيها إلا داخل الأثر، فالمكان كان له أثر في استدعاء حالة الحصار التي كانت تعانيها في ماضيها مع الشيخ، لذا شرعت في الحكي عنه.
ثانيًا -شخصية مؤمنة/ألماسة
اسم مؤمنة هو اسم يدل على الإيمان والتقوى، وعادة ما يتم ربطه بالإيمان الديني والكتب السماوية، بينما أن الإيمان في ذاته من الممكن أن يكون إيمانًا بعقيدة ما، أو سلوكًا معينًا، أو شيئًا أو حتى بشخصية.
يقدم الكاتب شخصية مؤمنة، تنتمي إلى سلالة الأشراف بزواجها لنقيب الأشراف عبد الله، بينما من بداية ظهورها وهي تعترض حديث المفتي بوصفه للحريم بالخفة، وتعترض على مدى استهتاره بالنساء، كما تعترض على كونها ملك لرجل بعينه:
“ما أنا إلا أمة، أو ملك من أملاك الرجل الذي تعاديه” ص38.
ثم يظهر في حديثها مع المفتي ميولها نحو حياة الغوان، بعدما يعرض عليها المفتي أن تحل محل الغانية بالسجن حتى يتم إنقاذ زوجها نقيب الأشراف:
“وهل الفرق بين الزوجة والغانية طفيف إلى هذا الحد!” ص36، “سأكون تلك التي قبضوا عليها وهي شبه عارية” ص36، “أما بالنسبة لي، فأن الهاوية تهزني من جذوري، يرعبني السقوط ويغويني في الوقت ذاته، وبين الرغبة والرعب اهتز اهتزاز الشجر في اليوم العاصف” ص37.
ومن بين هذه المقاطع تظهر رغبات مؤمنة الكامنة، التي شعرت عند عرض المفتي بأن الفرصة قد جاءت لها لكي تفعل ما لم تقوى على فعله طوال السنوات الماضية، ووضع الكاتب إرشادة واحدة قوية تؤكد على أن مؤمنة راغبة في حياة الغوان عندما وصفها:
“عيناها شاردتان” ص36.
أي كأنها تحلم وتتخيل نفسها مكان تلك الغانية التي باتت تحلم بها طوال عمرها، كما أن مؤمنة استخدمت في حوارها ألفاظ نفسية دقيقة على عكس وردة بين (الرغبة، الغواية، الهاوية، السقوط).
نظرًا لانتمائها إلى طبقة أعلى أعطت لها الفرصة في القراءة وهذا ما وصفته للمفتي في المشهد الخامس، بأنها مثقفة قراءت في الكثير من الكتب، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد عند وردة رغبات أخرى مُستترة بينما لم تكن قادرة على وصفها بدقة مثلما وصفتها مؤمنة.
فالرغبة في علم النفس كما يعرفها فرويد هي التي تكمن في اللهو الذي يعتبر مكونًا من بين مكونات النفس الثلاث (الهو، الأنا، الأنا الأعلى)، والهو ينطوي على كل ما هو حسي، ليشمل الرغبات والميول التي من الممكن أن ترفضها السلطات في كثير من الأحيان.
وعند مؤمنة كانت السلطة أكبر من رغباتها، فكانت سلطة مجتمعية تحصرها في نمط الأشراف وسلوكهم، وتمثل هذه السلطة عند فرويد الأنا الأعلى: وهي الجانب السلطوي الذي من الممكن أن يكون داخل الشخصية كالضمير، ومن الممكن أن يكون خارجها كالقوانين والأعراف والعادات والتقاليد، وغرض الأنا الأعلى هو ضبط وتنظيم دوافع ورغبات الهو.
كما أن المفتي ونقيب الأشراف يمثلا لدى مؤمنة أنا أعلى يحجم دوافعها واتباع رغباتها أيضًا، ولكن عندما وجدت الفرصة في اتباع رغباتها تأتي عن طريق الأنا الأعلى (المفتي)، لم تتردد في التراجع، بل شعرت وكأن الفرصة تمد إليها يدها وتناديها، حين قالت للمفتي:
“أنت تدفعني إلى منزلق خطير”. ص 39.
ليكون المُفتي هو المُساعد الأول مؤمنة في بلوغ الرغبة الكامنة بداخلها.
دِلالات وتأثير مكان السجن على المستوى النفسي للشخصية.
تمثل حياة مؤمنة بالنسبة لها السجن بعينه، فوصفت نفسها أثناء الحوار بأنها “سجينة البيت” بينما رأت في جسد الراقصة الحرية والطلاقة عندما ذهبت إلى السجن.
ليتكون عند مؤمنة ثنائية (السجن/ الحرية)، فالسجن كمكان مادي في النص يعتبر مكان محوري تمت فيه عملية تبادلية بين وردة ومؤمنة، عن طريق الملابس.
ومن ثم كان الشرارة الأولى لشعور مؤمنة أن هذا هو مكانها الطبيعي، لذا فلم يمثل مكان السجن لمؤمنة أي نوع من أنواع القيد، بل شعرت بقمة الإنطلاق وشرعت في الرقص.
حيث جاء السجن بدوره كاشفًا لكل ما تنطوي عليه الشخصيات النسائية، فكشف عن اضطرار وردة في أن تصبح غانية وعن مدى حبها لعبد الله، وكشف عن مدى سعادة مؤمنة في إحلالها محل الغانية ورقصها وكأنها تحلق دون أي قيود على الرغم من وجودها داخل الزنزانة.
تبادل الأدوار بين وردة ومؤمنة
يوجد بالنص نوعين من أنواع تبادل الأدوار بين وردة ومؤمنة:
تبادل الأدوار ظاهريًا
تم ذلك التبادل الظاهري في السجن بين وردة ومؤمنة حيث تحل مؤمنة محل وردة، ويحدث ذلك التبادل عن طريق تبادل الملابس، وعلى الرغم من أن الملابس هي مجرد رداء ظاهري إلا إنها كشفت عن دواخل كل شخصية وكانت تمهد للنتائج التي ستصل إليها كل منهما، ومن ثم خروج وردة من الزنزانة، ودخول مؤمنة إليها.
ووفقًا لدِلالة السجن عند كل منهما يتضح أن تبادل الأدوار الظاهري كانت تمهيدًا لتبادل أدوار أعمق فيما بينهما، أي ما حدث بينهما في فضاء السجن هو بمثابة إحلال كل منهما محل الأخرى وفقًا للدور الاجتماعي، ويندرج معها الدور السيكولوجي أيضًا وفقًا لما ارتده كل منهما حدث تكييف بين جسديهما وملابسهما، لمست الملابس ما هو كامن في شخصية كل منهما مما أدى إلى حدوث تبادل أدوار على المستوى أعمق.
تبادل الأدوار باطنيًا
يظهر في المشهد الثاني من الجزء الثاني، عندما ذهبت مؤمنة لوردة في منزلها وطلبت منها الانضمام إلى كار الغوان، ثم تحولت من بعده مؤمنة إلى ألماسة، لم يظهر في المشهد أي جمل حوارية ممهدة لذلك التحول، بل جاءت كل التمهيدات في الجزء الأول من النص (المكائد)، وتحولت مؤمنة إلى ألماسة في الجزء الثاني من النص وهو (المصائر) أي أن ألماسة هو مصير مؤمنة المحتوم الذي لا رجوع فيه.
وجاءت دِلالة اسم ألماسة في النص ذاته، عندما وصفتها وردة بأنها تريد أن تسميها اسم يبرق في حرفه ولفظه ويشع في معناه.
والتبادل هنا لم يأت ظاهريًا فقط مثل ما سبقه، فلم تأخذ وردة دور مؤمنة في حياتها العامة، بل جاءت عن طريق أخذ مؤمنة مكان وردة في مجال الغوان.
وهذا ما ظهر في الجزء الثاني من النص (المصائر) والنتائج التي ترتبت على موافقة وردة بدخول مؤمنة إلى عالمها، وما ترتب على ذلك في أن تكون ألماسة هي النجمة الساطعة بين جميع الغوان، وتصبح وردة بذلك لا وجود لها بوجود مؤمنة.
أثر وجود الرجال في مراحل تكوين كل من ورد ومؤمنة
الشيخ محمد: وهو والد مؤمنة حيث يعتبر هو الشخصية التي أرغمت وردة على أن تكون غانية، وهو نفسه من أيقظ بداخل مؤمنة الرغبات الجنسية وعشق حياة الغانيات منذ الصغر.
ويتضح ذلك من خلال المشهد الخامس من الجزء الثاني من النص، في مواجهة مؤمنة له بعد أن أصبحت غانية وذاع صيتها باسم “ألماسة”.
“ألماسة: نعم أيها الرجل التقي إني مسكونة، مسكونة بالأشباح التي كانت تتخفى في القمة، مسكونة برائحة الشهوة التي كانت تملأ أعطاف البيت،…إنها نار شهوتك التي لا تفتر.. أنها نار عينيك اللتين كانتا تلحقان بي في الدار وبيت الخلاء ومحل النوم والخلوة،.. أنت من مزق حيائي، وأنت من زرع الغواية في نفسيط. ص95.
“وردة: ألم يكن الشيخ الجليل، أبوك هو الذي علمني طبقات الفسق ومراتبه قبل أن أحيض”. ص87.
أي أن للشيخ دور مؤثر في طفولة كل من مؤمنة ووردة، ووفقًا لتتبع هذه الفترات عند فرويد فنجد إنها هي المراحل الأساسية التي يبدأ فيها الطفل بإدراك واستكشاف جسده، وتبدأ بالمرحلة الفمية أو The Oral Stage، ثم المرحلة الشرجية The Anal Stage، والتي تبدأ في عمر السنة وتستمر حتى عمر الثلاث سنوات.
ولكن يبدو أن الشيخ بدأ يؤثر في كل من وردة ومؤمنة بين مرحلة الكمون عند فرويد، والدليل على ذلك وصف وردة تلك المرحلة بأنها مرحلة ما قبل الحيض أو البلوغ، وتعتبر هذه المرحلة هي مرحلة الكمون التي تبدأ من عمر الست سنوات حتى سن البلوغ، حيث تتحول الاهتمامات من مشاعر اللذة الذاتية إلى تكوين علاقات وصداقات تقوي التفاعل الاجتماعي مع الآخرين
ولكن في حالة كل من وردة ومؤمنة لم تتحول المشاعر الذاتية لحالة كامنة بل زادت في إثارتها بسبب أفعال الشيخ، مما أحدث اضطرابات نفسية لاحقتهما على مدار مراحلهما التالية.
عبد الله هو المتلقي لكل منهما بعد الاضطرابات التي لحقتهما في مرحلة الكمون إثر أفعال الشيخ، أي أنه تلقى كل منهما في المرحلة التي تليها والتي تسمى عند فرويد بالمرحلة التناسلية، التي تبدأ مع سن البلوغ، حيث تصبح الرغبة الجنسية خلال مرحلة البلوغ وخلال أكثر نشاطًا، ويهتم فيها الفرد بشكل أكثر بالجنس الآخر.
وبما أن المرحلة السابقة لم تكن متزنة في أساسها إذن لم تتزن أيضًا المرحلة التناسلية في ممارسة الجنس، فتصبح وردة غانية تمارسه بشكل مستمر مع أكثر من رجل من بينهم عبد الله، وتصبح مؤمنة تمارسه مع زوجها عبد الله بينما تطمح في ممارسته بشراهة مثل الغانية مع آخرين.
النتائج التي وصلت إليها كل من وردة ومؤمنة
المقصود بالنتائج هنا هي النتائج التي لحقت كل من الشخصيتين داخل النص، حيث بُني النص على مرحلة أولية مهدت لبواطن وغرائز كل منهما في (المكائد) وهو الجزء الأول من النص، وكانت المكيدة عند كل منهما مكيدة تورطت فيها لم تختارها مؤمنة ولا وردة بسبب ماضي كل منهما، بينما النتائج أو المصائر هي التي تم اختيارها من قِبل كل منهما.
وردة هي من وافقت بدخول مؤمنة إلى كار الغوان، وهي من علمتها وسمتها ألماسة، ليترتب على ذلك بزوغ نجم ألماسة وهبوط نجم وردة.
وردة: أسمعوا يا ناس.. ولا تعرف ما الذي يغضبني!، سرقت عزي، وأطفأت ضوئي، وها أنت تتسببين بهدر دمي.
أي أن لم يصل صيت ألماسة حد أخذ شهرة وردة وعزها، بل لاحقت الأذية بوردة بسبب ألماسة. ص 134.
ألماسة هي من اختارت مصير الغانية، وسلكته كاملًا حتى بعد إعلان المفتي إهدار دمها، لم تهتز لأنها تريد أن تلقى نهاية الغوان أي ما كان شكلها.
فإن ألماسة أخلصت لمهنتها بكل ما تحمله من مصائر، ولم تفكر ولو للحظة واحدة في الهرب من مصير الغانية الذي اختارته بكامل إرادتها.
وهذا ما يشبه المذهب الصوفي، الذي سبقها وسلكه عبد الله وتصوف في حب الله، ومن بعده لحقه المفتي وتصوف في حب ألماسة، وكذلك ألماسة نفسها التي تصوفت في حب حياة الغوان، حيث تعرف الصوفية بأنها:
“حالة طوعية ذاتية يختارها الإنسان، تعكس رغبته في زُهد تملك الأشياء، ومنها تتخلى النفس عن الكثير من الأشياء وتُقلص حلقة الضروريات إلى أدنى حد ممكن”.
فترك عبد الله الدنيا وما فيها وأطلق على حالته أنه طلق الدنيا الطلاق الأصغر وفي انتظار الطلاق الأكبر وهو الموت، والمفتي الذي تخلى عن مبادئ الفتوى في مقابل حبه للماسة، وكذلك ألماسة التي تخلت عن حياة الأشراف والحياة الأمنة مقابل حياة الغوان وما بها من تهديدات لحقتها كفتوى هدر دمها.
لك أيضًا:
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
كيف استطيع الحصول على الرواية ؟