الانترنت الميت.. نظرية مؤامرة أم حقيقة؟
9 د
في عام 2022، قام إيلون ماسك، بإتمام صفقة استحواذه على منصة تويتر (X حاليًا) بصفقة بلغت قيمتها مليارات الدولارات، مما أثار موجة كبيرة من الجدل والتكهنات في الأوساط الإعلامية والاقتصادية. وفي مشهد لافت وأيقوني كذلك، دخل ماسك مقر الشركة لأول مرة بعد إتمام الصفقة وهو يحمل مغسلة بيده، في حركة غريبة أثارت العديد من التساؤلات حول الرمزية التي أراد ماسك إيصالها. البعض رأى في هذا الفعل تعبيرًا ساخرًا عن "تنظيف" المنصة، بينما فسره آخرون كنوع من الاستعراض الذي يعكس شخصيته المثيرة للجدل.
لكن مما يريد تنظيفها أصلًا؟
للجواب على ذلك علينا أن نتذكر أنّه قبل إتمام الصفقة، مرت بسلسلة من مفاوضات شاقة وطويلة كادت أن تطيح بها برمتها. فقد كانت قضية الحسابات الوهمية (البوتات) على تويتر واحدة من النقاط الحساسة التي أبدى ماسك بشأنها مخاوف جادة. كان ماسك قلقًا من أن تكون هذه الحسابات المزيفة أكثر انتشارًا مما كانت تعلنه الشركة، وهو ما قد يؤثر بشكل كبير على القيمة الحقيقية للمنصة. هذا القلق دفعه إلى التهديد بالانسحاب من الصفقة، ما لم يتم تقديم بيانات موثوقة وشاملة حول مدى انتشار هذه البوتات.
هذا الموقف يفتح باب التساؤل حول البوتات بشكل عام في الانترنت ككل وليس فقط في تويتر أو X حاليًا، حيث تصاعد الجدل منذ سنوات حول تأثير هذه البوتات، وعن كمية المحتوى الذي تُنشئه ونسبته من كل المحتوى الموجود اليوم.
يجادل البعض أن نسبة المحتوى المُنشئ اليوم بواسطة الروبوتات وبوتات الذكاء الاصطناعي ، يبلغ 50 % وربما في سيناريو أكثر سوداويةً قد يصل إلى 80% من مجمل المحتوى الموجود على الشبكة. وهذا يعني أن الكثير مما نراه على الإنترنت، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الإخبارية، قد لا يكون إلا نتاج خوارزميات مبرمجة بدقة لإيصال رسائل معينة، أو لتوجيه الرأي العام بشكل غير مباشر.
هذه المخاوف والجدال والنقاش، يُطلق عليه اليوم اسم "نظرية الانترنت الميت".
فهل حقًا الإنترنت كما نعرفه قد يكون "ميتًا"، وهل بالفعل تنشئ البوتات محتوى أكثر مما ينتجه البشر، وهل فعلًا النسبة قد تصل إلى 80% ؟؟!!
أصول نظرية الإنترنت الميت
اعتقد أنك عزيزي القارئ قد لاحظت مسبقًا بعض الغرابة التي تحدث اليوم في الانترنت، وخصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي. فكيف لمنشور سخيف على موقع فيسبوك أن يحصد آلاف الاعجابات والتعليقات، وكلها متشابهة؟ على شكل "تم" مثلًا.
هذا التعليق الغريب الذي على شكل "تم" أو ما شابه، الذي يأتي عادةً من حسابات أغرب، يثير التساؤل حتمًا، ولكن ما يحدث اليوم، قد بدأ في جذب الانتباه حوالي عام 2021، مدفوعًا بشكل كبير بالنقاشات عبر المنتديات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. لعل أهم هذه النقاشات قد تمّ على منتدى Agora Road's Macintosh Cafe، من خلال منشور طويل يصف النظرية في موضوع بعنوان "نظرية الإنترنت الميت: معظم الإنترنت مزيف"
يجادل مؤيدو النظرية بأن الإنترنت، الذي كان يومًا ما مساحة نابضة بالحياة للتفاعل البشري، قد استولت عليه الروبوتات والمحتوى الآلي تدريجيًا. يعتقدون أن العديد من المواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وحتى نتائج محركات البحث، أصبحت الآن مشبعة بمحتوى تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي مصمم للتلاعب بالمستخدمين، والتأثير على الآراء، وتوليد الإيرادات من خلال الإعلانات.
في محاولة للغوص أكثر في عمق النظرية قامت الصحفية Kaitlyn Tiffany بالغوص أكثر بحثُأ عن تفاصيل أكثر حول النظرية لذلك قامت بالتواصل مع بالتواصل مع صاحب المنشور المذكور سابقًا، وهو حساب يدعى IlluminatiPirate.
على مدى الأشهر التالية لنشر المنشور، سيصبح هذا المنشور هو المرجع الأساسي لأولئك المهتمين بالنظرية. المنشور طويل جدًا، وبعضه معقد جدًا ولا يستحق العناء؛ يدعي الكاتب أنه جمع النظرية من أفكار شاركها مستخدمون مجهولون في قسم الظواهر الغريبة في موقع 4chan ومنتدى آخر يُدعى Wizardchan.
في بريد إلكتروني حصلت عليه الصحفية المذكورة، قال IlluminatiPirate، الذي يعمل مشرفًا لعمليات في شركة لوجستية في كاليفورنيا، إنه "يؤمن حقًا" بالنظرية. ويقترح أن الإنترنت مات في عام 2016 أو أوائل 2017، وأنه الآن "فارغ وخالٍ من الناس"، وكذلك "معقم تمامًا". يدعي IlluminatiPirate أن معظم المحتوى الذي يُفترض أنه من إنتاج البشر الذي تراه عبر الإنترنت تم إنشاؤه في الواقع باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتم نشره بواسطة البوتات، وربما بمساعدة مجموعة من "المؤثرين" المدفوعين من قبل مختلف الشركات التي تتآمر مع الحكومة. بالطبع، نية المجموعة المتآمرة هي السيطرة على أفكارنا وجعلنا نشتري الأشياء.
لعل ثورة الذكاء الاصطناعي التي تحدث اليوم قد عززت هذه النظرية، وخاصة أن بعد ما رأى chatgpt النور، فإنّ البوتات لم تعد غبية، وإنما عبارة عن أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة قادرة على إنشاء محتوى مقنع يشبه المحتوى البشري. وبالتالي يزيد صعوبة تميزه أكثر من ما سبق. أهم محاور هذه النظرية أنّ هذه الأنظمة لا يقف وراءها مجموعة من الهواة وإنما كبرى الشركات والحكومات وغيرها من الكيانات القوية بهدف السيطرة على السرد على الإنترنت، وإسكات الأصوات المعارضة، والحفاظ على تفاعل المستخدمين مع المحتوى الذي يخدم مصالحهم.
تخيّل إذًا أن المحتوى اليوم يُنشئ بواسطة بوتات الذكاء الاصطناعي، والتفاعل عليها يتم بواسطة بوتات الذكاء الاصطناعي كذلك، في دورة كاملة بدون تدخل البشر نهائيًا. أقل ما يُمكن القول أن الانترنت قد مات فعلًا.
إذًا لنفترض أنّ الانترنت مات فعلًا! هل هذا الأمر خطير؟
من النظرة الأولى، قد يبدو الدافع وراء إنشاء هذه الحسابات الوهمية واضحاً، وهو زيادة التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي مما يؤدي إلى إيرادات إعلانية. إذا أنشأ شخص ما حسابًا يحصل على تفاعل مفرط، فقد يحصل على حصة من إيرادات الإعلانات من الشركات القائمة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل ميتا وتويتر.
لكن الأمر يتجاوز الربح المادي، بل هو أخطر من ذلك بكثير. فمع زيادة عدد المتابعين لهذه الحسابات التي يتم تشغيلها بواسطة الذكاء الاصطناعي (بعضها مزيف وبعضها حقيقي)، فإن العدد الكبير من المتابعين يمنح الحساب شرعية أمام المستخدمين الحقيقيين. هذه الشرعية تجعل من كل ما يُنشر ذو موثوقية ويجعلها حسابات ذات مصداقية.
هذا أمر مهم للغاية، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الآن المصدر الرئيسي للأخبار للعديد من المستخدمين حول العالم. في أستراليا، تُشير بعض البحوث أنّ 46% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي هي مصدرهم الرئيسي للأخبار العام الماضي. هذا الرقم ارتفع من 28% في عام 2022، متجاوزًا المصادر التقليدية مثل الراديو والتلفزيون.
اجمع هذه النسبة مع عدد الحسابات الهائل غير الموثوقة على مواقع التواصل الاجتماعي، لترى حجم المعضلة الحقيقي.
في عام 2018، حللت دراسة 14 مليون تغريدة على مدى عشرة أشهر في 2016 و2017. ووجدت أن الروبوتات على وسائل التواصل الاجتماعي كانت متورطة بشكل كبير في نشر المقالات من مصادر غير موثوقة. حسابات ذات عدد كبير من المتابعين كانت تضفي الشرعية على المعلومات المضللة، مما جعل المستخدمين الحقيقيين يصدقون، ويتفاعلون ويشاركون المحتوى المنشور بواسطة الروبوتات.
دراسات أخرى أظهرت تأثيرًا في الرأي العام خطير للغاية، حيث تم العثور على هذا النهج في التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي بعد أحداث إطلاق النار الجماعي في الولايات المتحدة في عام 2019، وجدت دراسة أن المنشورات التي تم إنشاؤها بواسطة الروبوتات على منصة X (سابقًا تويتر) تساهم بشكل كبير في النقاش العام، حيث تعمل على تضخيم أو تشويه السرديات المحتملة المرتبطة بالأحداث المتطرفة.
بالمختصر يُمكن القول أنّ انتشار المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الروبوتات له عدة تداعيات على الإنترنت ومستخدميه. واحدة من أكثر المخاوف أهمية هي تآكل الثقة. أنا اليوم على الصعيد الشخصي (وأعتقد أنه رأي كثر آخرون) لا أثق بشيء أراه على الانترنت وأبحث عن أي خبر أو "تريند" في عدة مصادر حتى أكون ثقة ولو كانت قليلة عن أي موضوع . الأمر آخذ بالتطور بشكل سلبي للغاية، فمع زيادة المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الروبوتات، يصبح من الصعب بشكل متزايد على المستخدمين التمييز بين التفاعلات البشرية الحقيقية وتلك الآلية.
للأسف لا يحمل معظم المستحدمين للانترنت اليوم نفس المقدار من الشك، وكثر يتقبلون المعلومة من أي مصدر على أنها حقيقة مطلقة، ولا يمكن أن نتصور كيف يمكن أن يكون لذلك عواقب حقيقية ومخيفة، كما رأينا ونرى يوميًا في حملات التضليل المختلفة التي تهدف إلى التأثير على الانتخابات، وزرع الفتنة، أو الترويج لأجندات معينة. يمكن لقدرة الروبوتات على تضخيم السرديات المحددة أن تجعل من الصعب على المستخدمين العثور على المعلومات الدقيقة أو سماع الأصوات المعارضة.
هناك قلق آخر يتعلق بتأثير ذلك على الإبداع والمحتوى الأصلي. مع توليد الروبوتات المزيد والمزيد من المحتوى، هناك خطر أن يصبح الإنترنت مشبعًا بمادة منخفضة الجودة ومكررة. يمكن أن يجعل ذلك من الصعب على المحتوى الإبداعي والمبتكر أن يبرز، حيث يضيع في سيل المنشورات والمقالات ومقاطع الفيديو الآلية. في هذا السيناريو، قد يصبح الإنترنت أقل من كونه مساحة للتعبير البشري وأكثر من مجرد مستودع للضجيج الذي تولده الآلات.
هل نظرية الانترنت الميت صحيحة؟
كغيرها من نظريات المؤامرة، لا يُمكن دحضها مئة بالمئة كما لا يمكن بالتأكيد التحقق من صحتها، فلا يوجد أي دليل ملموس أو مصادر موثوقة نستطيع أن ندرسها أو نحللها، وإنما عبارة عن مخاوف ومنشورات هنا وهناك. ولكن ما يُمكن أن نجادل فيه أن نسبة 80% من المحتوى على الإنترنت يتم إنشاؤه بواسطة الروبوتات قد يكون مبالغًا فيه وضرب من الجنون، فحتى هذه اللحظة يبدو أن البشر لهم الحصة الكبرى من المحتوى المنشور على الشبكة. أساسًا أعتقد أن قياس النسبة هو أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيل أصلًا.
هذا هو بالمناسبة رأي معظم كتاب المقالات التي قرأتها عن الموضوع، حيث يجادل هؤلاء بأن النظرية أقرب إلى النظرية السخيفة أو المبالغ فيها، بالرغم من وجود مخاوف حقيقة قد تم ذكرها فيما سبق.
نستطيع أن نعتبر الروبوتات حتى اليوم عبارة عن أدوات لا أكثر، هي برامج آلية مصممة لأداء مهام محددة، غالبًا على نطاق وسرعة تتجاوز بكثير قدرات البشر. يمكن استخدامها لأغراض متنوعة، بدءًا من الأنشطة الحميدة مثل فهرسة المواقع لمحركات البحث، وصولاً إلى المهام الخبيثة مثل نشر المعلومات المضللة، وشن الهجمات الإلكترونية، أو تضخيم التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن مقدرة هذه البوتات على خلق حلقة من المحتوى خالية تمامًا من البشر، المنشئ فيها هو روبوت والذي يرد ويعلق هو روبوت أيضًا، ما هي إلا تخوف مبالغ فيه ولا يوجد أي دليل حقيقي عليه.
مستقبل الإنترنت
لنأخذ الجانب الإيجابي من نظرية الإنترنت الميتة، على الرغم من عيوبها، وهو ضرورة تعزيز الشك والتفكير النقدي فيما نتلقاه عبر الشبكة. فالحقيقة المطلقة هي أن ليس كل ما يُنشر صحيحًا. بل إن غالبية ما ينشره البشر، قبل الروبوتات، قد يكون معلومات قابلة للصواب أو الخطأ، وهنا يأتي دورنا في أن نكون أكثر حذرًا. علينا أن نركز على أهمية زيادة الوعي وتعزيز التفكير النقدي أثناء التنقل في العالم الرقمي. مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي والأتمتة، من المحتمل أن تلعب الروبوتات دورًا أكبر في إنشاء المحتوى والتفاعل مع المستخدمين. وهذا يقدم تحديات وفرصًا على حد سواء.
من جانب، قد يؤدي تزايد المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الروبوتات إلى تجربة إنترنت أكثر تجانسًا وأقل أصالة. قد يضطر المستخدمون إلى أن يصبحوا أكثر يقظة في التمييز بين المحتوى الحقيقي والمحتوى الآلي، وقد تحتاج المنصات إلى تطبيق تدابير أكثر صرامة لاكتشاف وتقليل نشاط الروبوتات.
ومن جانب آخر، يحمل الذكاء الاصطناعي والأتمتة إمكانية تحسين الإنترنت بطرق جديدة ومثيرة. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال لإنشاء محتوى أكثر تخصيصًا وملاءمة، وتحسين الوصول، وتسهيل أشكال جديدة من الإبداع والتعبير. سيكون المفتاح هو إيجاد توازن بين الاستفادة من هذه التقنيات والحفاظ على الطابع الإنساني للإنترنت.
كما يزعم إيلون ماسك أنه استطاع "تنظيف" X من غالبية البوتات على المنصة، فعلينا أن نقوم بالمثل، بتنظيف أذهاننا من الكثير من المعلومات الزائفة والهراء الذي يفرضه علينا الإنترنت اليوم، وأن نكون أكثر حذرًا وحرصًا فيما نستقبله.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.