الإحساس بالنهاية رواية للكاتب جوليان بارنز: عن هيمنة الماضي على الحاضر
6 د
الرواية التي نتوقف معها اليوم من كتابة الروائي البريطاني المعاصر “Julian Barnes – جوليان بارنز”، والذي يعد كاتبًا ذا أهمية كبيرة. وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر ثلاث مرات، قبل أن يفوز بها عن رواية “The Sense of an Ending – الإحساس بالنهاية” التي سنمر عليها في هذا المقال، كما كتب بعض روايات الجريمة تحت اسم مستعار.
رواية “الإحساس بالنهاية” نشرت للمرة الأولى عام 2011، وفي 2012 نقلها للعربية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بترجمة “خالد مسعود شقير” ومراجعة “حسين علي الديحاني”.
الكتابة والتأريخ في الإحساس بالنهاية
أتحرك بمؤشر فأرة الحاسوب إلى علامة الرسائل على فيسبوك، أفتح القائمة وأقلب النظر فيها، أواصل النزول وتواصل علامة التحميل الدائرة بلا كلل إظهار المزيد من النتائج. كل هؤلاء راسلتهم وهذا طبيعي. غير الطبيعي، والمفزع والذي ما يزال يذهلني بعد ست سنوات على الموقع، أن هذه المراسلات موثقة وسهلة المنال، حاجرة بحقيقيّتها على الخيال وغير قابلة للتعديل.
قديمًا، قبل هذا العالم المتشابك المولع بالتوسع في كل الجهات الممكنة، كان الماضي مختبئًا كما اعتاد أن يكون، قابلًا لشتى صور التأويل والترقيع والتخمين: لعبة مسلية. حتى التأريخ الذي يخلفه لنا الأدب شخصي ومحرف، حتى السير الذاتية استمرار لمحاولة الإنسان الأزلية تخمين الماضي والنفاذ من بين ضبابه إلى ما يحدده الحاضر حصرًا.
كتابة الرواية ككتابة التاريخ، ولعل هذا الملمح الأساسي في ابتداء “جوليان بارنز” روايته “الإحساس بالنهاية” بنثر خواطر متعلقة بكتابة التاريخ، منتقدًا موثوقيته المزعومة ويقينه المكذوب، عاقدًا مقارنة تبدو عابرة للوهلة الأولى بين حوادث التاريخ الكبيرة (حُكم “هنري الثامن” مثالًا) وبين حادثة قريبة العهد هي انتحار طالب في مدرسة جماعة الأصدقاء الذين تبدأ الرواية بهم.
حينئذ نرى “أدريان”، أذكى طلاب المجموعة، يشكو من قلة المعلومات المتاحة عن واقعة جرت حال حياتهم وبالقرب منهم، واستحال مع ذلك القطع بصورة مأمونة دقيقة التفاصيل عنها، فأدى هذا إلى النتيجة الطبيعية المعتادة وهي اللجوء للإشاعات التي تمتاز بنمو سريع، والسماح للتخمينات -التي عُلم أولًا ضعفها عن القيام بملأ المكان الشاغر- بالتكاثر وكسب الوزن.
أهذا هو التاريخ؟ وبشكل أهم: أهذه هي الكتابة؟ هل ثم فارق حقيقي بين الناظر إلى حال نفسه والناظر في حال غيره ما دام النظر إلى الموضع الغامض نفسه المسمى بالأمس؟
نرشح لك قراءة: موت فوق النيل: عن رواية سيدة الأدب البوليسي أجاثا كريستي
مأساة الأمس واليوم
بالعودة إلى ما بدأت به؛ إلى هذه المحادثات شديدة الرسوخ، إلى خيار الذكريات في الموقع الذي يعيد لك ما كتبته قبل عام وعامين وخمسة، إلى كل هذه الذوات المؤكدة التي لا سبيل لجحدها أو مناورة وجودها وانتمائها إلي وصدورها عني، إلى العالم الذي يزداد خشية مع مرور الزمن فيزداد رغبة في السيطرة على الأحداث بتقييدها. هذا هو المقابل التام لما يتحسر منه “جوليان بارنز” على لسان بطل روايته الذي لا يفتأ يشكك فيما يحكي، وكأن تقدم العالم غرضه تحقيق الأماني السرية للناس (لاحظ كيف أن البطل لا ينفك يقارن الستينيات بالعالم الجديد)، على نحو لا يكاد يزيده سعادة.
في الحقيقة -ولعلي في خطأ أو تناقض- مأساة الأمس التي يعبر عنها كاتب “الإحساس بالنهاية” أهون بكثير من مأساة اليوم، فإن فيها على الأقل إقرارًا بهشاشة الأمس وعدم أهميته، ثم ضعف اتصاله بالحاضر وعيب اعتماد الإنسان عليه باعتباره وسيلة تحديد ما يتبعه. إن هذا العناء في النظر إلى الذكريات المنقوصة ومحاولة إكمالها، ثم الارتياب في دلالتها، هو خير تأكيد على الرضا باستمرارية الحياة، وافتقار الماضي إلى الحلول، وتفرد اليوم الحالِّ بالتأثير على الغد، ربما بالاستعانة بنظرة في مرآة السيارة الخلفية؛ نظرة موسمية مهمة لكن ضيقة وعابرة وبعيدة، غير شاملة وغير تامة الوضوح.
في “الإحساس بالنهاية” نرى مسار الحياة المكررة؛ رؤية يسهل أن يرتبط بها كل عائش فكر بطبيعة الحال فيما مضى، وآلمه -كما سيؤلم الناظرَ بتمعن هنا- كيف أن مراحل المسار تبدو منفصلة وكأنها حفنة ذوات مختلفة، كل مرحلة منها كالنص الشرعي الناسخ لما قبله: أكمل منه ومختلف عنه، لكن لا ينكر وجوده بالكامل. يكون التصالح مع هذا أصعب إذا كان في صورة رسائل وكتابات إلكترونية غاية في الدقة والواقعية، وكما في الرسائل فإنك مُعرَّضٌ أبدًا لإغراء إلغائها عاجزٌ عنه.
إن هذا التغير الذي يعبر عنه الماضي؛ سلسلة الانتقالات تلك بين الأفكار والأهواء والأصحاب والأحلام، هذا هو ما ينعكس على الحاضر فيترك في نفس الإنسان ارتباكًا ويفقده الشعور بالأمان والقدرة على الثقة في النفس والزمن. التذكر في هذا السياق ليس إلا مقاومة؛ جزءًا من عملية الإنكار المميزة بأمل عريض في الخلاص.
من أجل الحقيقة
“كم مرة نحكي قصة حياتنا؟ كم مرة نتكيف، نجمل، نقوم بتنازلات حكيمة؟ كلما طالت الحياة، قل عدد هؤلاء من حولنا الذين يفندون روايتنا، يذكرون أن حياتنا ليست فعلًا حياتنا، بل مجرد القصة التي حكيناها عن حياتنا. حكيناها لآخرين، لكن، بشكل رئيسي، لأنفسنا”.
في الجزء الأول من “الإحساس بالنهاية” يخبرنا “أنتوني” بطل القصة بالأحداث الأصلية، والتي تبدأ متمحورة حول مجموعة من أربعة أصدقاء مدرسة أكثرهم إثارة للاهتمام “أدريان”. يصحبنا من هذه النقطة، من وصف أفكارهم ومرورهم بالمراهقة وحتى انفصال حيواتهم مع انتقالهم من المدرسة إلى الجامعة.
في الجزء الثاني نشاهد القصة نفسها من منظور “أنتوتي” الذي صار الآن ستينيًّا لا يملك إلا النظر إلى الوراء. ومن خلال واقعة تشده إلى الأمس وتعيد اتصاله بالماضي، نجد بطل “الإحساس بالنهاية” مدفوعًا إلى إعادة فحص مسلماته وتحليل ذكرياته إلى حد التشكيك فيها. يقارن نسيان مرضى ألزهايمر بالنسيان العادي، يتناوب عليه السخط على التوثيق الذي يحدد شخصية أمسه والحيرة التي يسببها التوغل في أدغاله المتشابكة.
قد يكون في هذا السرد هجاء لفكرة الكتابة نفسها. فإذا كنا عاجزين عن القطع بالصحة في تدوين ما تبصره أعيننا ويجري تحت أنوفنا، كيف نزعم الثقة في شيء -كهذه الرواية- يتلو قصة مر على وقوع أحداثها عقود؟ أيمكن أن يكون ما نكتبه تسجيلًا لا للأشياء بل لنظرتنا إليها؟ أيمكن ألا يتَّسم تسجيلنا بشيء بعد الذاتية، الأنانية والمثيرة للرثاء، فيما نتظاهر بلا توقف أن سعينا إنما هو من أجل الحقيقة؟
عدم استقرار
في الستين يفحص المرء الخط الذي بلَّغه موضعه، يختبر هشاشة التعرض للشك وقابلية ماضيه للتفنيد حيث لم يعد التصحيح متاحًا: هل حقق ما أراد؟ هل ارتكب الكثير من الأخطاء، وكم منها يمكن الندم عليه ندمًا صادقًا فضلًا عن تصحيحه؟ هل هو راضٍ عن حياته؟
يستمد الإنسان ثباته من ثبات ماضيه؛ من كذبة محكمة يسميها قصة حياته، يتلوها على نفسه والآخرين حتى تستقر، فما الذي يقبع حقًّا وراء هذه القصة؟ وإذا كان اتصالنا بالحوادث القديمة متزعزعًا على هذا النحو، مليئًا بالثغرات واهنًا، ألا يفسر هذا حالة التزعزع العام التي هي مأساة الإنسان؟ ربما لأجل هذا يختتم “جوليان بارنز” رواية “الإحساس بالنهاية” بجملة يلخص بها كل شيء: هناك تراكم. هناك مسؤولية. ووراءهما هناك عدم استقرار. هناك عدم استقرار عظيم.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.