أن تكون حيًّا أو تكون ميتًا: قراءة في قصة الأموات للكاتب الأيرلندي جيمس جويس
6 د
نقف اليوم مع “The Dead – الأموات”، وهي قصة قصيرة نُشرت للمرة الأولى عام 1914 ضمن مجموعة قصصية تدعى Dubliners أو “ناس من دبلن”، وكانت آخر قصص المجموعة وأطولها، وقد حصدت تقييمات ممتازة من النقاد حتى وصفها بعضهم بأنها أفضل قصة كُتبت بالإنجليزية على الإطلاق، ثم حُولت إلى مسرحية ثم فيلم ثم مسرحية موسيقية، وفي عام 2018 نقلتها دار “مسكيلياني” إلى العربية بترجمة “عبد المنعم المحجوب”. كاتب القصة “James Joyce – جيمس جويس” هو روائي وشاعر أيرلندي له العديد من الإنجازات الأدبية المترجمة إلى لغات عديدة.
قصة الأموات: ما نفيد من الأدب
لا ينفعنا الأدب بالكثير. وباستثناء التسلية المحتقَرة بشكل واسع في أوساط الأدباء والنقاد، وباستثناء الفوائد النفسية والانفتاح على مختلف الثقافات والشخصيات والخبرات، فإن الكتابة الرمزية، التي ينتمي إليها نص “الأموات” لكاتبه “جيمس جويس”، هي ممارسة نخبوية مبنية على استبعاد قطاعات القراء لا ضمها ولا رفعها، وقوامها تضعيفات خيالية لا تفيد الناظر في نفسه أو الآخرين، فضلًا عن أن تكون ذات عون في فهم العالم والتعامل مع معضلاته.
من جهة أخرى، وإذا وسَّعنا منظورنا لنشمل الأدب الكلاسيكي، نعرف أن جزءًا كبيرًا من قيمته -بين أجزاء كثيرة- في أسبقيته. أذكر أنني في بداية دخولي عالم الأفلام كنت أُنصح كثيرًا بمشاهدة أعمال معينة قبل غيرها، لأن مواضيعها وحبكاتها التي جعلت منها ظواهر تاريخية وأكسبتها قيمتها الفنية، قد استُهلكت من بعد في أعمال عديدة. هذا تراه واضحًا جدًّا في الأعمال البوليسية، لكن الواضح أيضًا أن بعض الأعمال تظل حاملة لقيمتها الأصلية مهما تكرر إنتاجها.
- نرشح لك قراءة: خمس كلاسيكيات عالمية يجب أن تقرأها
إذًا نحن أمام أمرين: التبجيل لما سبق، والذي لا أشك أنه جزء من الشعور العام برفض الحاضر والفزع إلى الماضي، والثاني الاعتقاد بأحقية مطلقة للقديم. لكن الأفكار العامة أوسع من أن تُحتكر، والقضايا الإنسانية الكبيرة تعرض زوايا نظر متعددة تحرم كاتبًا واحدًا (أو سياقًا كتابيًّا واحدًا) من الاستئثار بها.
الطبقة الأولى
كل هذه أفكار لا تخدم تحليلي لقصة “الأموات” بالضرورة، والتي سأعترف هنا بأنها لا تنتمي إلى نوعي المفضل. ليس فقط لغموضها وعرضها حياة شديدة العادية والإملال يبدو من بين ثغراتها ومضات باهتة (لكن غير منكورة) من مأساة تستحق النظر، بل لأنها تأتيك حاملة هذا الإرث من التقدير الذي يطالبك بالاجتهاد في فهمها، وحبها، بل تقديسها، ثم -بالطبع- تحميلها كل المعاني التي يمكن أن يحتملها نصٌ كان يسهل اعتباره شخصيًّا محمولًا بالحنين، حساسًا لا يحاول القفز إلى ما وراء الطبقة الأولى من المقاصد.
ربما هو أثر مرحلتي الفكرية المقترنة لزامًا بمرحلتي العمرية. أنا في الثالثة والعشرين ولئن بقيت عشرة أعوام لأعيدن قراءة القصة، مدفوعًا بقراءتي إياها وعنها وكتابتي خواطري التي حفَّزَتها، ومنفتحًا كل الانفتاح على احتمال أن أجد بين سطورها ما يحملها إلى قلبي وعقلي. من الغباء الاعتقاد بأن ما تكوِّنه من تصورات وطرق تأمل في هذه السن قابل للاستمرار، ومن المثير للفضول في الوقت ذاته انتظار ما سيتفتق عنه مرور السنوات. ربما سأكون حينئذ أقل اهتمامًا بالمشاعر والعلاقات البشرية، وأكثر التفاتًا لمقارنة الخلطة بالعزلة والغياب المصاحب للموت بالحضور الذي يفترض أنه قرين الحياة، على هذا النحو المتجرد المنتقل بالكلية من الحياة الحقيقية إلى التي ابتكرها “جيمس جويس” هنا.
روح الرضا العام
يجب أن نتعامل مع الكلاسيكيات باستخفاف من حين لآخر، سواء بشكل إجمالي أو تفصيلي، ليس فقط لأن بعضها يستحق الاستخفاف ويستمد قيمته من عوامل (تاريخية ونفسية وقومية وغيرها) لا تتصل أساسًا بالقيمة الفنية، بل لأن إسباغ روح الرضا العام عن الكلاسيكيات، والإعجاب الاستباقي، والمبالغة في تحميلها الدلالات ودس الرسائل المتكلفة بين سطورها، وتجريدها من غرض الأدب الأهم الذي هو النفاذ إلى القارئ بحكايات مقنعة وفعّالة وجاذبة للاهتمام؛ هذا كله لا يدع مجالًا لتقييم موضوعي.
ثم هو لا يختلف عن الاحتكار الديني لفهم النصوص الشرعية، ولا يثمر غير تحجر الحكايات القديمة على صور غير قابلة للتدقيق، مغلفة باعتذارات محكمة متعالية، كما يوسِّع الثغرة بين قارئ الكلاسيكيات والقارئ العادي الذي نسخر من قراءاته وننصحه بترك الأدب الرديء واللجوء إلى نوع مستغلق صفتُه (وأنا عامد إلى تكرار اللفظ ما استطعت) الإملال، وشاغله الأخير الانتباه لكون القارئ جزءًا رئيسًا في العملية.
غابرييل
ما الذي يحكيه لنا “جيمس جويس” في قصة الأموات؟ عدد كبير من صور التعاملات البشرية الصغيرة في إطار هو حفل نظمته عجوزان كريمتان. السرد يتنقل بين الشخصيات ولا يعطي أيها حقه أو زمنه الكافي، الوصف مبتسر والشخصيات كثيرة على القصة القصيرة ذات الثمانين صفحة، نقاشات عن الموسيقى ومجاملات اجتماعية ومحادثات الحفلات القصيرة، وبعض الخلافات الصغيرة والصدامات التي يتضح بعد وقت أنها أكثر تركيزًا على شخصية “غابرييل”.
يمكن أن تؤمن بعبثية السرد الذي بدأ بالحفل وقدم رواده واحدًا بعد واحد، بعدما قدم آل البيت والخدم، ثم أنهى الحفل بتتبع شخص معين تأكد عند هذه اللحظة -بعد تلميحات خفية على طول النص- أنه مركز الحكاية والمعنيُّ بها. قد يضطرك هذا إلى إعادة القراءة للتأكد من أنك تتبعت كل ظهور لـ “غابرييل” في النص، إذ بدون استعادة خط سيره لا يستقيم الفهم.
ضآلة الفارق
من خلال القليل الذي عرفتُه، واضح أن كثيرًا من المواقف قصد بها الكاتب الحديث عن نفسه وزوجته من خلال “غابرييل” وزوجته. هناك مقارنات عديدة بين حياة الكاتب وحياة “غابرييل”؛ مسقط رأس زوجته وطريقة تعرفه إليها وحزنها القديم، وحتى الصحيفة التي يكتب فيها. ربما لم يبدأ به لأنه لم يرد أن يبدأ بنفسه، وربما لم يقدمه باعتباره “البطل” على سبيل النقد للفكرة ذاتها، أو للتلميح إلى كونه جزءًا من هذا الواقع الذي يكمِّله لكن يقع خارجه.
قد يترجح الثاني إذا علمنا أن معضلة “غابرييل” التي تتضح في آخر الرواية هي تعرضه للإهمال من الآخرين. في مقابل كياسته وتقديمه لنفسه بصفته رجلًا يمثل خير التزام بالقواعد، ساعيًا بلا مواربة إلى إيجاد مكان في العالم (أظهر نقاط التعبير عن هذا خطبتُه المؤثرة الصادقة)، فإنه يقابَل بالصدود على أشد الأنحاء إيذاء لكن أقلها مباشرة: بدءًا من البنت الصغيرة التي قابلت تبسطه بجفاء جارح كدَّر عليه (لانفتاحه المفاجئ على الألم البشري) صفاءه للحظة، ومرورًا بالمرأة التي اتهمته بخيانة وطنه بطريق المزاح، وانتهاء بزوجته التي اتضح أنها تطوي صدرها على حب عميق قديم لا يسمح له بموضع.
لقد رأيت أن استعادة “غابرييل” لـ “الأموات” في نهاية قصة “جيمس جويس” كان تابعًا لتلاشيه الشخصي. تهيبه من اللحظة التي تموت فيها خالته وتخيله للجنازة الوشيكة بلا ريب، هذا نتاج إدراكه ضآلة الفارق بينه والأموات لما تكاثرت عليه الخيبات فأدت إلى هذه النظرة الخالصة، الصافية والوحيدة، إلى المرآة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.