كروان طه حسين في رواية دعاء الكروان: صورة للمرأة ومرآة لتناقضها وحريتها ورغباتها
15 د
يُصنف عنوان النص كواحد من أهم المداخل الواقعة على الصفحات الأولى للعمل الأدبي، ومع الوقوف أمام عنوان رواية دعاء الكروان للأديب طه حسين يظهر أنه يحمل لفظين:
اللفظ الأول: هو الدعاء، وبالبحث في قاموس اللغة العربية يتضح أن ما يرادف الدعاء هو ” الابْتِهال، التضرُّع”، أو إنه هو “ما يُقدم من توسلات”. أما عن اللفظ الثاني: الكروان فهو ذلك الطائر المغرِّد طويل الرجلين.
الكروان هو: هو طائر طويل الأرجل، يستخدم منقاره للبحث عن الطعام، وغالبًا ما يتغذى على الحشرات والديدان والقواقع في المراعي الرطبة، ويأكل سرطان البحر والديدان والرخويات، وغالبًا ما يعشش على الأرض بعيدًا عن الماء، يعيش في مناطق القطب الشمالي في أوروبا وآسيا وأستراليا والجزء الجنوبي من أمريكا الشمالية والجنوبية، وله العديد من الأنواع والأشكال، مثل: الكروان ذات اللون الرمادي، المصبع، الألبينو، وكل نوع له خصائص شكلية مميزة، وعلى الرغم من الاختلافات الشكلية، إلا إنه هناك خصائص مشتركة بين أغلب الأنواع
وهي الخصائص التي سيتم استعراض بعضها وربطه بموضوع رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين ضمن مقال اليوم:
رواية دعاء الكروان صورة لواقع المرأة
وبالعودة للربط بين الكلمتين المذكورتين في العنوان يكون التفسير المبدئي لعنوان الرواية “دعاء الكروان” هو ابتهال أو تضرع طائر الكروان، ومع الولوج لأحداث الرواية نجد أن الحدث الرئيسي حول “رد فعل” آمنة تجاه فعل قتل أختها هنادي، مما يثير التساؤلات أكثر حول العنوان وعلاقة طائر الكروان بالأمر.
ولكن مع قراءة نص رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين يتضح أن للكروان وجود قوي في الرواية، بل ودور من الممكن اعتباره شخصية من شخصيات الرواية، وإذا ساع التأويل ذلك سيتم الإثبات في السطور القادمة أن هناك صفات عدة يشترك فيها مع بطلة الرواية الرئيسية “آمنة”، سنحاول التطرق لأكبر قدر منها وإدراك مدى تشابهها مع صفات آمنة بطلة الرواية.
اقرأ أيضًا:
أولًا: الكروان طائر مهاجر يبحث عن ظروف معيشية مناسبة
ويعتبر ذلك العنصر هو أول العناصر الملحوظة تشابهها بين آمنة والكروان، لأن آمنة قامت بفعل الهجرة ثلاثة مرات في الرواية، مرتان عن طريق الغصب ومرة قامت بها بمحض إرادتها.
- الهجرة الأولى: هجرتها مع أمها وشقيقتها من قريتهن بعد قتل الأب.
- الهجرة الثانية: هجرتها للمدينة وبيت المأمور، بعد وقوع هنادي في شباك المهندس واعترافها للأم.
- الهجرة الثالثة: هجرتها بكامل إرادتها من القرية وعودتها للمدينة مرة أخرى بعد وقوع حادثة قتل هنادي.
يظهر فعل الهجرة في المرة الأولى إنه لم يقتصر حد آمنة وحدها فحسب، تشترك فيه معها الأم زهرة والأخت هنادي أيضًا، حيث أن بعد وقوع حدث قتل الأب هاجرن الثلاث مكانهن الأصلي للبحث عن ظروف معيشية جديدة ملائمة، لوضعهن الجديد، لأنهن أصبحن “ثلاث نساء بدون رجل” وسمعة الرجل المقتول غير حسنة.
النظام الأبوي ونساء رواية دعاء الكروان
ويمكن أن تلك الصفة هي بدء الربط بين وجود الكروان وأبطال الرواية، فكلاهما اشتركا في فعل الهجرة، بينما هجرة الكروان تختلف عن هجرة النساء، فالنساء هاجرن لأنهن فقدن وجود النظام الأبوي من جهة، ومن جهة أخرى لأن للنظام الأبوي صور أخرى تمثلت في شخصية “الخال” وجميع رجال القرية، وهم من فرضوا عليهن الهجرة. أي أن الهجرة قامت في أساسها على فقدان ذلك النظام، وتمثلاته في أفراد وشخوص آخرين.
وهذا ما يسمى في النظريات النقدية النسوية باسم “النظام الأبوي أو البطريركية – Patriarchy” والذي يعرفه Manuel Castells – مانويل كاستلز العالم الاجتماعي بأنه: سلطة لرجل المُتحكمة في التنظيم الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة. كما يعرف المجتمع الأبوي بأنه: هو المجتمع الذي يعطي زمام الأمر للرجل؛ ظنًا في ارتقائه وتفوقه البدني والاجتماعي عن المرأة.
ويشير النظام الأبوي إلى: تلك العلاقات التي تتبع فيها المراة الرجل، وتعدد صور هذه العلاقات وفقًا لجنس كل منهما واختلافهما البيولوجي، ومن ثم التنظيم لعملية الإنجاب وفقًا للضوابط والشروط التي يضعها المجتمع للأنثى ويقولبها بداخلها.
أي أن سبب هجرة الكروان إذا كانت تكمن في فطرته، بحثًا منه عن الأمان، ففي الرواية قد صدرت من النساء الثلاث ليس بالفطرة بل بما يمليه عليهن المجتمع وفقًا لما يقتضيه من أعراف بات يتداولها حول مكانة المرأة في كنف الرجل واختبائها تحت عباءة سلطته، وعن رفع سلطته عنها وما سيحل بها إذا بقيت من دونه.
حكم المجتمع على نساء دعاء الكروان
وبذلك فإن حكم المجتمع على نساء الرواية كان حكمًا مُسبقًا مبنيًا في أساسه على مهام فرقها المجتمع لكل من الذكر والأنثى دون سبب واضح، وهو ما يطلق عليها النسويات “الأدوار التقليدية للجنسين” حيث تملي المجتمعات على نوعي بني البشر بعض المهام التي يجب أن يتحلى بها كل منهما، وما سيترتب على ذلك إذا خلف أي منهما مهامه التي كُلف بها.
لذا فرقت النسويات بين مصطلح الـ SEX ومصطلح الـ GENDER.. فالـ SEX: هو الذي يشير إلى التكوين البيولوجي للذكر والأنثى، بينما الـ GENDER هو الذي تشير إلى البرمجة الثقافية كالمذكر والمؤنث، وبتعبير آخر لا تولد النساء مؤنثات ولا يولد الرجال مذكرين، بينما مفردات الجنس هذه قد قام المجتمع بتشكيلها، وهو ما تسميه النسويات باسم البرمجة الذكورية، حيث ترى النسويات أن المجتمع الذكوري قد يفرض بعض المهام ويختص بها الرجل ويفرض البعض الآخر ويختص بها النساء، من أجل الحصول على أهداف عدة من قِبل الرجال.
فقد لاحظن النسويات أنه قد جرى استخدام الاعتقاد بأن الرجال يتفوقون على النساء لتبرير الاستحواذ على مراكز القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمحافظة عليها، أي الحفاظ على إضعاف النساء.. فالمكانة المتدنية التي احتلتها النساء في المجتمع الذكوري، قد تكونت ثقافيًا وليس بيولوجيًا.
وبما أن النساء في رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين فقدن من يحميهن؛ لذا وجب عليهن الرحيل، حتى وإن كان ذلك الرجل زاني ومُهتك لعرض النساء، لكنه في النهاية رجل تولى مهامًا معينة شرطها عليه المجتمع ومنها إذا بعد عن نسائه أصبحن فريسة وصيدة سهلة؛ باختصار بلا “رجل”.
ثانيًا: طائر الكروان صاحب صوت عالي
بالنظر في أحداث الرواية نجدها جميعها تُسرد على لسان شخصية واحدة فقط ومن وجهة نظرها وهي “آمنة” تلك الفتاة التي اختارها الكاتب من بين شخصيات الرواية لروي الأحداث.
وهذا ما يستدعي سؤالًا هامًا، لماذا عَلا صوت آمنة وتصدر السرد؟ وتكمن الإجابة في البحث حول اختلاف شخصية آمنة عن باقي نساء الرواية.
شخصية زهرة
وظيفتها الجندرية في الأحداث إنها أم وزوجة، ومن ثم تحولت إلى أرملة بعد قتل زوجها، بينما ظلت أمًا وفقًا للدور المُسند إليها، ولكنها فاقدة للزوج، بحثت الأم عن رجل عندما علمت بالمشكلة التي وقعت فيها الابنة هنادي، أي إنها عندما واجهت أزمة لم تقم بحلها بمفردها، بينما تبنت الفكرة السابقة وهي الاكتفاء بالمهام التي أسندها إليها المجتمع وفقًا لوظيفتها الجندرية، وتواصلت مع “الخال- شقيقها”/ الرجل، من أجل التعامل مع مشكلة الابنة. أي إنها لم تتخلى عن ذلك الفكر المُلحق بها ولم تتوارى عنه حتى في سبيل إنقاذ حياة ابنتها.
وظلت زهرة تتبنى ذلك الفكر حتى النهاية، فهي لم تقم بأي فعل أثناء قتل الابنة على يد الخال، ولم تقم بأي فعل تجاه الخال بعد فعل القتل، ولم تقم بأي فعل واضح لإستعادة ابنتها الثانية آمنة.
بل باتت مُستسلمة، لأنه وفقًا لما أملاه عليها المجتمع من مهام، هي لم تكن قادرة على الفعل إلا في سياق دورها كأم، لكن الثواب والعقاب وأخذ القرار والأمر بالبحث أو الكف عنه من مهام الرجل.
ويمكن أن يتبين فكر زهرة ويلخص في جملتها:
“فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن ولا أن تستقيم أمورها إلا ليحميها أب أو أخ أو زوج،.. فالمرأة عورة يجب أن تُستر، حُرمة يحب أن تُرعى، وعرض يجب أن تُصان”.
شخصية هنادي
وهي شقيقة آمنة تلك البدوية التي لم تغير منها حياة المدينة شيئًا مثلما وصفتها آمنة أثناء سردها، بمجرد بعض محاولات من قِبل المهندس وقعت كفريسة سهلة تحت يده، أي استسلمت لذكوريته وفقًا لما شعرت به من ضعف فلم تستطيع المقاومة، ولم يأت في الرواية ما يتحدث عن أي مشهد قاومت فيه هنادي عرض المهندس، أي أنه من المؤكد أن هنادي قد استسلمت لعرضه بشكل سريع دون أن يبذل مجهودًا شاقًا معها.
وهذا ما تسبب في وقوع هنادي في حب المهندس، حيث تمكن المهندس من فرض سيطرته على هنادي، تلك الفتاة البريئة الساذجة البدوية الفاقدة للنظام الأبوي التي ضاع منها هيمنة الرجل في حياتها، ثم جاء أمامها من استطاع أن يسيطر عليها حتى اجتذبها إلى هذا الحد وهو “إقامة علاقة جنسية”، أي أنه من بين أسباب وقوع هنادي في شباك المهندس هو ظهور نظام أبوي من جديد أمامها.
اقرأ أيضًا:
شخصية آمنة
وهي الشخصية الساردة كما ذكرنا، صاحبة الصوت العالي الواضح والوحيد بين أحداثها. فجميع الأحداث تُعرض من وجهة نظرها هي، لماذا اختارها طه حسين حتى يعرض على متلقيه أحداث روايته دعاء الكروان من وجهة نظرها هي؟
لتكون الإجابة أن شخصية آمنة منذ بداية الحدوتة، هي القادر الوحيد على الفعل، فعندما ذهبت إلى المدينة ربما لم يكن الفارق واضح بينها وبين هنادي، لكن عندما بدأت آمنة في استغلال رفقتها بخديجة حتى تتعلم وتتلقى منها ما لم يكن في مقدورها تعلمه في القرية، واستحسانها للغة المدينة وملابسها، مقارنة بشقيقتها التي لم يتغير في ملابسها ولا لهجتها ولا طريقة تفكيرها أي شيء، بل أصبحت على مثل ما أمست.
في الوقت ذاته الذي أخذت فيه آمنه أن تتعلم القراءة وتستفيد من ما وراء سطورها بعظات وحكم، وتتبع دروس الفرنساوي وتتطلع على لغات أخرى، لتكسر حواجز قريتها وما تتبناه من أعراف، في الوقت ذاته الذي باتت كل من زهرة وهنادي يعتنقا نفس الأفكار دون التخلي عنها حتى بعد الاحتكاك بالمدينة.
وظلت آمنة هي القادر الوحيد على الفعل، بل وخرجت عن وظائفها الجندرية تجاه أسرتها، فهي الابنة والأخت كما تم التعرف بها، ولكن مع الوقت وكشف سر هنادي تبنت وظيفة الأم في كثير من المواضع: “هنالك حسست في نفسي قوة وشعرت كأني أنا الأم زهرة، وكأنها هي الفتاة آمنة”، وهذا لم يكن مجرد تبادل للأدوار حتى تشعر فيه آمنة بسيطرتها على الموقف، بل كان انتقالًا لآمنة بين أكثر من وظيفة جندرية.
قامت آمنة بدور (الابنة، الأخت، الأم، الساردة، العشيقة)، احتلت آمنة كل هذه الأدوار بالتناوب وحلت محل أخريات في مواضع كثيرة. فالأم في الأساس هي زهرة ولكن في مواضع شعرت آمنة بوجوب فرط الحنان على الأخت حتى تهدئ من روعها، فهذا الدور في الأساس كان يجب أن تقوم به زهرة، ولكن وفقًا لما تتبناه زهرة من آراء ذكورية تخلت عن شعورها كأم وحلت آمنة هذا الدور عوضًا عنها.
وعند بدء شرارة الانتقام في نفس آمنة، وبدأت تصف نفسها بأنها الأخت وليس مجرد فتاة تنتقم من رجل أساء في حق امرأة، لتظهر أن ذلك رد فعل لما وقعت فيه أختها أمام عينها، وذكرها لدورها كأخت كان يشعل من نارها حتى تستمر في التقدم لبلوغ منزل المهندس.
أما عن دورها كعشيقة/ حبيبة، لم يكن أيضًا فيه تبادل بينها بين هنادي، حيث أن هنادي لم تكن عشيقة ولا حبيبة للمهندس، والدليل على ذلك هو وجود “سكينة” الخادمة الجديدة في منزله، التي جاءت لخدمته بعد هنادي، حيث جاء دور سكينة ليؤكد على أن المهندس لم يحب ولم يعشق هنادي، بل كانت له مجرد فريسة سهلة الصيد، ولكن وصف آمنة بالحبيبة أو ربما العشيقة هو أمر محتوم، حتى وإن اختلفنا على درجة حب المهندس لآمنة بسبب رغبته فيها، إلا إنه من المؤكد أنه لا مقارنة بين مكانتها عند المهندس وبين مكانة هنادي.
آمنة ساردة الأحداث
أما عن كونها ساردة فهذا نتاج لكل ما سبق من أدوار، حيث إنها هي الوحيدة من بين الثلاث التي قررت أن تختلف وتتنقل بأدوارها، مما أكسبها خبرة جعلتها قادرة على قيد سير الأحداث، وعرضها من وجهة نظرها الخاصة.
ولم يقف السرد حد ذلك، فآمنة منذ البدء لسطور حكايتها الأولى لم تنقل الحدث من وجهة نظر تلك الفتاة البدوية البريئة، بل سيطر عليها وجهة نظر الفتاة المتعلمة القارئة المثقفة، وظهر ذلك في مواضع عدة:
فظهر ذلك في نظرتها لشخصية نفيسة العرافة والنساء اللواتي يلجأن إليها حتى يطلعن على المستقبل فقالت عنهم: “حياة المرأة الجاهلة الساذجة التي لا تزال تؤمن بأن سلطان الجن على الناس لا حد له”، حيث تناص الشكل السردي للرواية مع السيرة الذاتية في مواضع عدة، كان أولها استخدام منظور استعادي للحكي مما انتج عنه النظر على الأحداث بعين شخصية السارد الجديدة التي تكونت بعد أن مرت بكل ما سيتم سرده في الفلاش باك. وثانيها هو تحول ذات السارد حيث “تتسم الذات الساردة بتعدد أنواتها”، فهناك أنواع عدة للأنا: أنا الحاضر، أنا الغائب، أنا الشخصية،..
أما عن الأنا التي سيطرت على آمنة أثناء السرد، فهي “أنا مثقفة” نتاج ما مرت به من أحداث ومواقف شكلت شخصية واعية تدري كيف تصيغ جملها وتعلق على الأحداث بعين الحكمة، وبذلك يكون صوت آمنة هو الصوت الواضح العالي بين جميع أصوات شخصيات الرواية.
ثالثًا: الكروان طائر فضولي، ويتميز بسرعة الفهم وسرعة التعلم.
في رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين تميزت آمنة بالفضول وشغف المعرفة، حيث آتت مثلها مثل أختها مجرد فتاة بدوية، بينما ظلت بصحبة “خديجة- بنت المامور” حتى تتأهب في الحصول على ما لم تتمكن من معرفته في القرية، وكانت سريعة التعلم شديدة الذكاء تفهم ما تلقيه عليها خديجة من قراءات وتحاول أن تأخذ منها الحكمة وتتأمل مضمونها. ولم يقف فضول آمنة حد معرفتها من خديجة فحسب، بل طال فضولها اللقاء بذلك المهندس.
“من هذا الشاب، أو من عسى أن يكون، أي شيء فيه أغوى هذة الفتاة البائسة، ودفعها إلى ما دفعت إليه… ما هذه الغواية التي أفسدت على أختي أمرها… امتلأت نفسي بهذا المهندس الشاب”.
لذا كان يجب للإجابة عن كل ما يدور في خاطرها أن تذهب حتمًا للمنزل وتعيش نفس التجربة التي عاشتها الأخت حتى تتمكن من إخماد تلك الخواطر الفضولية، أي أن الانتقام الذي يأخذ الشكل العام للنص لم يكن هو المحرك الأساسي لآمنة، بقدر ما كان فضولها هو الدافع الأهم.
وللتدليل على فضولها، وإنه لم يكن مجرد هاجس نحو حادثة أختها، بل كان طبعًا فيها، هو واقعة الكتاب التي تسببت فيها وهي تخدم في بيت أحدهم، عندما رأت الشباب يهتمون بكتاب بعينه ومن ثم يخفونه حتى لا تطوله الأيدي، فمن الطبيعي منها كخادمة إنها لم تنصرف لذلك الفعل ولا تهتم بما يفعله الشباب نحو الكتاب، ولكن فطرتها الفضولية تلح عليها بالأسئلة أيضًا:
“فدفعت إلى أن أعرف هذا الكتاب، وأتبين ما يخفيه شكله الدميم… من هذا السحر الذي خلب هؤلاء الشباب ودفعهم دفعًا إلى التهالك عليه”.
رابعًا: يستطيع صغير الكروان الطيران عند بلوغه عمر حوالي شهر، ومن ثم يستقل عن أمه
من بين صفات الكروان الهامة إنه طائر مُستقر بطبعه يحقق الشبع لذاته، يعرف الاستقرار بعد شهر واحد من مولده فيترك أمه، بعد أن يدرك طرق تأمينه لنفسه.
وبالنظر إلى آمنة، فإن آمنة عندما رأت في أمها قاتلة للأخت، لم تتحمل أن تبقى معها، وقررت الرحيل والاستقلال بعيدًا عن أمها، بعد أن حققت الشبع لديها، ولكن الشبع عند آمنة لم يكن في الطعام، بل كان في المعرفة، فضول آمنة المذكور سلفًا هو ما مكنها لتحقيق ذلك الاستقلال، فهي على دراية كافية بشكل الخطة وطرق حبكتها مثلما تلقتها من القصص التي كانت تقرأها مع خديجة، وعلى ثقة في نفسها بقدرتها على حماية نفسها دون الحاجة لوجود رجل؛ لذا سلكت مسلك الرحيل حتى تبتعد عن الأم، ليس كأم بما تتبناه من وظيفة جندرية، بينما تبتعد عن الفكر الذي تعتنقه الأم، وتتبع فضولها الذي لم يتماشَ إطلاقًا مع فكر الأم والخال.
وهذا دليل آخر على أن آمنة لم تذهب للانتقام في المقام الأول، بل ذهبت للفضول، ورغبة الاطلاع التي فُطرت عليها، فلو كان في آمنة حس الانتقام من البداية لانتقمت من الام والخال قبل أن تتهيأ للرحيل والذهاب للمهندس، ولكن فضولها لم يدفعها نحو استكشاف خالها وأمها في شيء فهي على علم كافي بهما، بينما دفعها الفضول نحو المهندس في كل شيء.
الوجه الآخر للكروان
وفقًا لما تم عرضه من نقاط تلاقي تشابهت فيها صفات آمنة مع طائر الكروان، يتضح أن ذلك أحد أسباب اختيار الكاتب طه حسين للكروان حتى يوجده بين سطور روايته، ويطلقه على عنوانها.
ولكن ذلك لا يعني أنه لم يكن للكروان دور آخر داخل الرواية، لم تلتقِ فيه آمنة معه، بينما جاء كشخصية متفردة بذاتها، يُنبه ويُذكر ويشهد على ما يجري من أحداث، ويعين آمنة بالصبر على ما يدور من حولها، ويتضح ذلك في مجيئه أثناء محاولاتها في مواساة هنادي، وإعانتها على ما تحمله من هموم في نفسها:
“ها أنت ذا أيها الطائر العزيز، تنشر في الجو المظلم الساكن نداءك السريع.. لا أكاد أمضي في النوم حتى تسرع إلي فتوقظني، كأنما أخذت على نفسك أو أخذ غيرك عليك عهدًا ألا تخلي بيني وبين النوم”.
مجيئه عند وقوع حادثة قتل هنادي:
“وهـذا نداؤك أيهـا الطائر العزيـز يبلغني من بعيـد، وهذا صوتـك يدنو إلـي قليـلًا قليـلًا، وهذا غنـاؤك ينتشر في الجـو كـأنه النـور المشـرق قد أظـهر لنـا ما كان يغمـرنا من الهـول دون أن نـراه، وهـا أنت ذا تبعـث صيحاتـك يتلـو بعضهـا بعضـًا كأنمـا هـي سهـام من نور قد تلاحقـت مسرعـة في هذه الظلمـة، فطردت من نفسـي ذهولهـا وجلت عنهـا غفلتهـا وأيقظتها من هذا البلـه، وجلت لنا الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثمـًا بغيضًـا، والضحيـة صريعـة مضرجـة بالدمـاء… إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثًـا وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعيًا وليس من يجيب”.
وحتى في المشهد الأخير من رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين وبعد أن احتل كل من آمنة والمهندس قلب الآخر، جاء الكروان ليؤكد على أن هنادي ما زالت تُذكر حتى وإن نسيت آمنة مأساتها مع مرور الوقت، وكأن الكروان حمل وللمرة الأولى صفة لم تُذكر في صفاته كطائر، وإنما حمل صفة بشرية أسندها إليه الكاتب، وهي صفة الوفاء التي حاولت آمنة التشبث بها، ولكنها هجرتها أمام حبها للمهندس، بينما يبقى الكاتب مُصرًا على أن حادثة هنادي ستظل تُروى أبد الدهر، حتى وإن تخلت آمنة عن عهدها مع الكروان، فسيظل الكروان على عهده معها: “دعـاء الكـروان.. أترينـه كان يرجع صوته هذا الترجيـع.. حين صرعـت هنادي في ذلك الفضاء العريـض!”.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.