خارطة الحب: رواية تتخطى حدود المشاعر والفوارق بين البشر!
7 د
التاريخ ليس ما ندرسه في الكتب، ولكن ما نحياه بشكل يومي؛ ليحكي عنه أولادنا بعد ذلك.. عبارة أحاول بها تلخيص الهدف من رواية “خارطة الحب” للكاتبة “أهداف سويف”.
الحقيقة أنه ليس هذه الرواية فقط من حققت هذا الأمر، ولكن الكثير من الأعمال الأدبية العظيمة فعلت ذلك. فهناك أعمال أدبية كثيرة جعلتنا نقرأ التاريخ بعيون شخوصها، جعلتنا نعيش تلك الأحداث البعيدة، التي طالما سمعنا عنها في الأفلام الوثائقية، أو أطلعنا عليها بشكل عابر في بعض الكتب المتخصصة، لننسى أغلب تفاصيلها بعد ذلك.
لكن أولًا، وقبل أن نستفيض في الحديث عن رواية اليوم، ربما يجب أن نتحدث قليلاً عن كاتبتها “أهداف سويف”.
من هي أهداف سويف؟
ولدت (أهداف سويف) في مصر عام 1950، وهي أبنة أستاذة اللغة الأنجليزية الشهيرة والمترجمة القديرة “فاطمة موسى”، وأستاذ علم النفس الدكتور “مصطفى سويف”. درست الأدب الأنجليزي في كلية الأداب جامعة القاهرة. وهي محللة سياسية وباحثة إجتماعية قبل أن تكون روائية محنكة.
نُشرت لها العديد من المقالات في كبريات الصحف والمجلات. تعيش بين مصر وبريطانيا وتكتب في الأساس باللغة الأنجليزية ويتم ترجمة أعمالها إلى العربية فيما بعد، لذلك ليس من الغريب أن نجد أسمها شائعًا ومعروفًا جدًا في الخارج أكثر من مصر والبلدان العربية.
صدرت روايتها “خارطة الحب” لأول مرة عام 1999 وترجمتها إلى اللغة العربية والداتها الدكتورة “فاطمة موسى”، لتصدر طبعتها العربية الأولى في مصر عام 2004 تبعًا للهيئة العامة للكتاب. ثم تصدر دار الشروق طبعتها لها بعد ذلك في عام 2010.
للكاتبة أعمال أخرى شهيرة، مثل: “عائشة” وهي مجموعة قصصية صدرت باللغة الأنجليزية في بريطانيا عام 1983. ورواية “في عين الشمس” وهي رواية أخرى طويلة عن مصر مكتوبة باللغة الأنجليزية أيضًا صدرت عام 1992 ولاقت نجاحًا عامًا على مستوى القراء والنقاد هناك. كذلك أصدرت مجموعة مقالات تصف فيها زيارتها لفلسطين عام 2000 تحت أسم “في مواجهة المدفع“، بالإضافة لمجموعة قصصية تحت عنوان “زينة الحياة“.
عندما تتخطى مشاعر البشر كل الحدود!
تعتبر رواية “خارطة الحب” رواية طويلة، يتجاوز عدد صفحاتها الـ700 صفحة من القطاع المتوسط، تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لقرائتها دون تجاوز أي من تفاصيلها. بالطبع يوجد بها الكثير من المط والتطويل في وصف التفاصيل كعادة هذا النوع من الروايات، وهذا يصيب بعض القراء بالملل، ولكنه يجعل شريحة أخرى من القراء تعيش داخل أجواء الرواية بكل جوارحهم، لذلك لا أعتقد أن التطويل هنا يعد أحد عيوب الرواية.
تدور أحداث الرواية على خطين زمنيين متوازين، لتمزج من جديد بين الماضي والحاضر. فهي رواية متعددة الأجيال تشمل سيرة أسرة مصرية كاملة وهي أسرة “الغمراوي” الذي ينحدر من نسلها الشاعر الشهير “البارودي”، تزوج أحد أفرادها وهو “شريف” ابن “البارودي” من مواطنة إنجليزية وهي “آنا ونتربورن” التي تدور حولها أحداث القصة كلها.
” وهنا، على المائدة، تحت شباك غرفة نومها، يرقد الصوت الذي أحيا في نفسها ملكة الحلم من جديد. شذرات من حياة من زمن بعيد… بعيييد. صوت المرأة يحدثها عبر مائة عام، حديثًا واضحًا موجهًا إليها هي بالذات، حتى أنها لا تصدق أنها -أن التقطت القلم- لا تستطيع أن تجيب.”
هذه هي السطور الأولى من الرواية فيها نجد “أمل” أحد أحفاد (آنا) و”شريف” وقد وصل إليها صندوق جدتها الكبرى، محمل برائحة الماضي وذكريات الجدة مع نفحات من عطرها وشالها الأبيض. ومن خلال الصندوق تتعرف “أمل” التي يقتصر دورها في الرواية تقريبًا على الحكي فقط على قصة أسرتها. فتعرف كيف تزوج جدها من الفتاة الإنجليزية في فترة الأحتلال البريطاني في مصر.
قصة رومانسية مزجت الحب بالتاريخ
القصة التي قد تبدو لك من الوهلة الأولي عادية جدًا، فهي ليست قصة عشق عظيمة ومعقدة، ولكنها مغرقة في التفاصيل، تعكس الكثير من قيم وعادات المجتمع في تلك الفترة، بل والغريب أنها تظهر مدى قدرة الأفراد على تقبل الأخر وأحترامهم، فنجد العلاقة بين الزوجين القادم كلاً من هما بلد مختلف تفيض بالأحترام والتفهم وتقبل العيوب المتباينة التي تظهر مع الوقت.
المثير في الرواية أن القارىء يرى لأول مرة فترة الأحتلال البريطاني في مصر من وجهة نظر الطرف الأخر وليس من وجهة نظر المصريين. نرى مقدار الخزى والخجل الذي يشعر بهم المواطن العادي وليس المجند المربوط بخدمة سلاحة.
تمضي الرواية على هذين الخطين الفاصل بينهما تقريبًا مائة عام، فنجد في فترة التسعينات قصة اخرى وهى قصة الصحفية الأمريكية “إيزابيل باركمان” حبيبة شقيق “أمل” راوية الحكاية، وهي من أحضرت الصندوق القديم إلى “أمل” في مصر.
وكما تخللت فترة الأحتلال البريطاني لمصر القصة الأولى- قصة “آنا وشريف” باشا – تخللت القضية الفلسطينينة القصة الثانية – قصة “إيزابيل و عمر”- في تلميح واضح لدورة التاريخ المتكررة (التاريخ يعيد نفسه)، والبشر لا يتعلمون من أخطائهم. و ربما هي نظرة سوداوية بعض الشيء من المؤلفة، وخصوصًا أنها تركت نهاية القصة الحديثة مفتوحة تمامًا للقارىء، فلا يعرف ما هو مصير أبطالها.
الرواية كتبت على أنها رواية رومانسية ذات بعدًا سياسيًا، ولكن ربما غلبت السياسة على الرومانسية في أغلب أجزائها. ربما لطبيعة الفترة الواقعة فيها أحداث الرواية. تلك الفترة تحديدًا هي التي أضفت على اسلوب الرواية المغرق في سرد التفاصيل والعلاقات الكثير من الرقي، وكأنما عدنا بالفعل إلى العصر الملكي حيث الباشاوات والهوانم والكثير من الكلمات الفرنسية وعزف البيانو!
ساعد في نقل هذه الصورة الفخمة بالطبع الترجمة المتقنة للعربية، وهو ما دفع بعض القراء للتساؤل حول مدى تأثير كون المترجمة “فاطمة موسى” والدة الكاتبة، على النص! ربما أضفى هذا الكثير من الذاتية على الرواية!
بالنسبة لي شخصيًا كان الجزء الخاص برحلة كلاً من “آنا وشريف” إلى سيناء.. ربما لأن هذه الرحلة كانت بداية قصة الحب بينهما بالفعل. والغريب أن ما يعده أكثر القراء من سلبيات الرواية، وهي الكثير من التطويل، ووصف تفاصيل الأماكن من حدائق وعربات وموائد هو أكثر ما أضفى عليها سمة الرومانسية يظهر هذا بشدة في جزء تحضيرات الزفاف والجزء الخاص برحلة سيناء.
“كيف يصيبنا الحب هكذا فجأة؟ بدون إنذار؟ بدون استعداد؟ أليس المفروض أن يزحف علينا رويدًا، يأخد وقته، حتي إذا جاءت اللحظة التي نصرح فيها “أنا أحب”نعرف -أو علي الأقل نظن أننا نعرف- ماذا نحب؟ كيف يحدث هذا؟”.
كذلك تعد الصفحات التي تحدثت فيها “آنا” عن حادثة دنشواي الشهيرة من أروع ما قيل في هذه الحادثة البشعة، تأثرها البالغ بالظلم وشعورها بالخزى كونها مواطنة إنجليزية كان له أثر بالغ في نص الرواية.
تنقسم الرواية إلى فصول، تبدأ الكاتبة كل فصل بمقوله شهيرة، أو آية من كتاب سماوي، أو بيت شعر أو عبارة في رواية في أختيارات غاية في الذكاء، بخلاف أنها تدل بالتأكيد على ثقافة الكاتبة الواسعة، فهي تشير إلى روح مناضلة حقيقية، تسعى إلى السلام وإزالة الخلافات بين البشر.
” اّه ما أحلى بداية الحب” إفرا بن (1680)
“حزنت وسوف أحزن كلما عاد الربيع” والت ويتمان
هذين مثالين لما أتكلم عنه في بداية كل فصل من الرواية، والجميل أن محتوى كل فصل يلامس بشكل العبارة التي كتبت في مقدمته.
خارطة الحب تشبه إلى حد ما بجعات برية
بشكل شخصي تذكرني هذه الرواية كثيرًا برواية (بجعات برية) للكاتبة الصينية “يونج تشانج”، بالتأكيد لا يوجد أي تشابة بين أحداث الروايتين. ولكنه ذلك الجو العام الذي يجعلك تعيد قراءة تاريخ حقبة زمنية معينة من وجهة نظر شخص ما. كلاهما عمل أدبي أشبه بألة الزمن التي تجعلك تسافر إلى الماضي وتعيش فيه وتتأثر به.
وضعت الكاتبة “أهداف سويف” بداية رواية “خارطة الحب” رسم تخطيطي يوضح شجرة عائلة “الغمراوي” التي تدور حولها أحداث القصة، كما فعلت “يونج تشانج” في روايتها “بجعات برية”، حيث وضعت جدول واضح يربط بين الشخصيات والأحداث بتاريخها ليعود له القارىء كلما أختلطت عليه التواريخ و الأحداث.
في النهاية.. نجد الحديث عن الرواية بهذا القدر من التفاصيل قد يطول، وأي محاولة لتلخيص محتوى الرواية ربما ستؤثر على المتعة الحقيقية لقرائتها. نحن هنا حاولنا أن نتكلم عن أغلب النقاط التي تتعلق بمحتوى الرواية؛ لنمنح القارىء فكرة مفصلة عنها في حال أتخذ قرار قراءة عمل مفعم بالتفاصيل الأنسانية. عالم يزيل الحدود الجغرافيا ويرسم خرائط جديدة خاصة لتكون دليلاً للبشر. خرائط حب تتعدى الحدود وتمحي الفوارق. وتعيد تحديد الأتجاهات.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.