لن أعيش في جلباب أبي بين الرواية والمسلسل، لماذا نلجأ للحذف والإضافة؟
رواية يعود عمرها لأكثر من 30 عامًا وعمل درامي يعود لأكثر من 20 عامًا، فهي كلاسيكية في عمرها وكلاسيكية تشبه صديقنا صاحب الرواية. الكاتب والأديب إحسان عبد القدوس دائمًا ما يملك طابعًا ومذاقًا خاصًا في أعماله الأدبية، سواء الأعمال الأدبية التي تحولت لأعمال سينمائية أو أعمال مسرحية أو التي ترُجمت لأكثر من لغة.
فكل رواية كانت بمثابة ثورة على قيم، عادات، مفاهيم خاطئة، ومشاعر إنسانية. تناولهم بصدق شديد، فهو من ثقف السينما بتحويل معظم أعماله لأفلام ظلت خالدة وعالقة في تاريخ السينما. فمن منا لم يذكر روايات “لا أنام“، “العذراء والشعر الأبيض“، “في بيتنا رجل“، “شيء في صدري“، “بئر الحرمان“، “حتى لا يطير الدخان“. جميعها أعمال سطرت تاريخ الفن السينمائي والروائي، ولمست شيئًا بداخلنا وأمورًا ربما كنا نجهلها أو لم نُعير لها الاهتمام المطلوب، حين جاء إحسان بصفعة ليخبرنا على حقائق كنا نريد التغاضي عنها.
رواية لن أعيش في جلباب أبي نظرة خاصة
أما عن روايتنا اليوم، فهي عبارة عن كتلة من الصراعات النفسية الداخلية، بين الهوية وإثبات الذات وبين التمسك بالقيم والعادات والمواريث. تناول فيها الكاتب مشاعر غير اعتيادية وغير مألوفة بالمرة على المجتمع المصري والعربي، فكانت مشاعر التمرد والثورة هي المحرك الأساسي للرواية، والاستطراق لمشاعر البرود العاطفي الذي يعاني منه الغرب، ومشاعر رفض لكل ما هو قديم والاستغناء عن التثبت به، ومشاعر من الحب الممزوجة بالتحرر، ومظاهر التخفي تحت مسمى الدين والتدين.
بداية من شخصية عبد الوهاب وشخصية نظيرة أبناء الحاج عبد الغفور البرعي، هم من تملكهم العقدة من نجاح والدهم ويحاولون طوال الرواية الخروج من عباءة “جلباب” والدهم بأي وسيلةً وتحت أي ظرف.
فتبدأ أحداث رواية لن أعيش في جلباب أبي على لسان حسين الراوي (يكاد يكون الصديق الوحيد لعبد الوهاب) بمقابلة مع عبد الوهاب؛ ليخبره الأخير بزواجه من فتاة أمريكية أسلمت منذ فترة قريبة. وتبدأ بعدها الرواية في استعراض لشخصية عبد الوهاب المهتزة التي تلجأ للهروب فقط من أجل الهروب.
الهروب من شهرة ونجاح أبيه الذي يعتبره البعض معجزة من معجزات الزمن، فيهرب عن طريق التخبط، ففي بعض الأحيان يدعي أنه يلعب الكرة ورجلاً رياضياً لأبعد حد، ثم نجده في البارات إلي أن وصل لمرحلة أصبحت متمكنة منه حتى الآن وهي التدين الشديد.
وسافر من أجل الحصول على شهادة عليا، ولكنه فشل حتى في هذا، ويبرر فشله في عدم حصوله على أي شهادة “بأنه أخذ ما يريده من المناهج ولا تهمه الشهادات”، فهو عاد من الخارج كما هو، فلم يتغير عليه سوى البدلة التي يرتديها بفعل تأثير الحياة الأوروبية، بجانب أنه أصبح يمدح المرأة الأوروبية ويمدح عقلها.
لذلك اختار روزالين التي وجد فيها من وجهة نظره “التدين والعقلية الأوروبية معًا”، والتي كان في حياتها شيء من حياة عبد الوهاب ولكن مع اختلاف الشخصيات، فتم استعراض حياتها من قبل في الولايات المتحدة الأمريكية، حياتها التي شكلت شخصية روزالين التي ستقابلها في الرواية، فقصتها يمكن أن تنظر إليها من اتجاهين على حسب وقع التأثير عليك.
فهي أيضًا جاءت هاربة.. من حياتها بالخارج والمأساة التي عاشتها مع أهلها، فكان شعور الخوف وعدم الأمان هو من دفعها للذهاب لمصر وإعلان إسلامها، فعانت هي أيضًا من العقدة النفسية، فوجدت في التدين وسيلة من وسائل الأمان، والهروب نوع من التحرر من عقدتها والمكان المرتبط بتلك العقدة.
اقرأ أيضًا:
في علم النوستالجيا ..لماذا نحب الماضي؟
محور الصراع في رواية لن أعيش في جلباب أبي
فكان هذا وجه التشابه الذي لمسته من الحديث عنهم وسرد صفاتهم وحياتهم السابقة، فكل منهم يعيش حياته في شذوذ.. شذوذ في الشخصية، ولكن، هناك اختلاف جوهري في كيفية تعامل كل منهم مع عقدته، فهي فتاة تعرف ما تريد وتعرف هدفها وما تريد الوصول إليه، فهي اختارت عبد الوهاب لسبب واضح، وهذا سيكون محور الصراع بينها وبين عبد الوهاب في الرواية، فعلى عكس عبد الوهاب الذي كان يريد الخروج من الجلباب، فهي كانت تريد الدخول والدخول إليه بقوة وأن تعيش تحت ظل والده. ربما هذا نوع آخر من الأمان الذي تريده، فيرمز هنا “الجلباب” للعادات والتقاليد والهوية التي يريد كل من -نظيرة وعبد الوهاب- تمزيقها.
أما عن نظيرة التي وصفها الكاتب بأنها حلوة تمتلك “حلاوة البلد” غير متكلفة، تمتلك نفس عقدة أخيها ولكن الفارق الوحيد بأنها استطاعت أن تتغلب عليها نوعاً ما، فدخلت الجامعة الأمريكية لإثبات بأنها تستطيع أن تحقق شيئاً بمفردها، ولكن ما زالت تمتلك نوعاً من الخوف فيما يخص اختيار شريكها في الحياة؛ عانت من فشل زيجات أخواتها البنات الثلاث.
أما عن عبد الغفور الذي كان شخصية غير أساسية في الرواية علي عكس العمل الدرامي، ولكن تدور حوله أحداث الرواية، فتم ذكر أنه رجل يمتلك القدر من الذكاء الذي ساعده في الوصول للقمة، بخيل ويعاني أيضاً من عقدة نفسية لكونه لا يجيد القراءة والكتابة وأظهرته الرواية بأنه شخصية جامدة لا تمتلك أي مشاعر.
وكان حسين هو الشخصية المحورية في القصة هو من يملك مفاتيح الشخصيات في يديه ويعرضها في سلاسة شديدة، عن طريق طرحه للأسئلة والإجابة عليها في نفس الوقت، فكان يصدر الأحكام علي الشخصيات عن طريق التحليل وتجميع المعلومات، فكان لديه حس فضولي لمعرفة ما تخبئه كل شخصية ودوافعها، وخاصةً نظيرة التي كان مولعاً بها منذ اللقاء الأول.
فيما يختص بالشخصيات الهامشية في الرواية، فالأخوات البنات تم ذكرهن على هامش فشلهن في زيجاتهن والسبب لعنة ثروة الوالد، ولم يتم ذكرهن مرة أخرى في الرواية، والأم كانت تلعب دوراً صامتاً في الرواية.
لم يتم ذكر أي شخصية من أزواج البنات الثلاث إلا زوج نفيسة وذكرته الرواية في سطر واحد “قد كان خبيثاً صابراً”. بالإضافة لشخصية “عبد الستار” التي تم ذكرها مرة واحدة في الرواية بأنه سافر للخارج ليتم تعليمه ومن يومها لم يعد.
بالنسبة للمعالجة الدرامية فكانت مفتوحة بالنسبة لشخصية عبد الوهاب، فانتهى دوره بانتهاء علاقته بروزالين التي اتجهت لسلك طريق آخر، على عكس نظيرة فحولت قصص أخواتها لطاقة للتخلص من تلك العقدة والاستقلال بحياتها مع حسين، فالجزء الأكبر من حوار الرواية كان قائماً عليهم، ومعظم الأحداث في قسم معين في الرواية كانت في مكتب حسين.
الخروج من الجلباب
تملكني في الرواية مشاعر مختلطة تجاه تلك الشخصيات السابق ذكرها. مشاعر محيرة على عكس الوضوح الذي انتابني عند مشاهدة العمل الدرامي، فأحياناً عند قراءة الرواية أكره روزالين تلك الشخصية الأنانية التي تسعى فقط لتحقيق هدفها على حساب أي شيء آخر، وأحياناً ينتابني نوع من الشفقة عند النظر للمعاناة التي عانتها وأجد في وقتها سبباً وعذراً لسلوكها.
وأعجبني ما انتهت عليه تلك الشخصية في رواية لن أعيش في جلباب أبي فكانت نهاية منطقية لشخصيتها فهي منذ بداية الرواية كانت حريصة على أداء ما تتصور أنه يكفل لها الأمان، فهي الشخصية التي لا تستسلم أبداً.
وحين نأتي لعبد الوهاب، فبدأ في الرواية شخصاً حائراً منذ المشهد الأول وانتهت قصته كذلك، فهو من البداية يريد أن يخطف الأنظار، يريد أن يحكي عنه الناس بأنه مشهور بكذا وكذا، بعيداً عن أبيه فهو بالفعل لا يعرف ما يريد، فكيف سيصل لشيء؟ على عكس العمل الدرامي فظهر في نهاية العمل الدرامي ناجحاً استطاع أن يثبت نفسه في المكان والعمل الذي طالما كان يهرب منه طوال حياته. فهذا كان محيراً بالنسبة لي. أما عن نظيرة فكانت نهايتها نتيجة حتمية لما صدر عنها في أحداث الرواية، فهي من استطاعت أن تخرج من “الجلباب”.
لماذا نلجأ للحذف والإضافة أحياناً عند الاقتباس؟
يُذكر أن مسلسل لن أعيش في جلباب أبي أُنتج في عام 1996، ليحقق نجاحًا وانتشاراً واسعاً في كل الدول العربية وقت عرضه الأول، وكان من بطولة نور الشريف وعبلة كامل، وإخراج أحمد توفيق، ووضع له السيناريو والحوار مصطفى محرم.
بالطبع سينال العمل الدرامي نجاحه وشهرته من نص الرواية، فالرواية هي من أشعلت الفتيل أو الشرارة الأولى للعمل الدرامي، فوضع إحسان الخطوط العريضة، وضع القماشة وقام العمل الدرامي بتفصيلها وخلق شخصيات جديدة من لحم ودم وخطوط درامية لما يتطلبه العمل الدرامي.
وللعمل الدرامي دور في بناء قاعدة جماهيرية جديدة بالإضافة لقراء الرواية الذين بالطبع يمتلكون صفات خاصة على عكس الجمهور العادي الذي يشاهد التلفاز فهو من جميع الطبقات والمستويات الثقافية. فالتلفاز يشاهده العائلة ولهذا السبب تم التعامل مع بعض مشاهد الرواية.
التحرر الجزئي في علاقة نظيرة وحسين والمشاهد التي أعاننا الكاتب على تخيلها بعباراته وكلماته المستخدمة، لم يستطع العمل الدرامي نقلها نصاً كما هي، نظراً لما يتطلبه العمل الدرامي، وبعض من الألفاظ والمصطلحات المستخدمة، والتي كان فيها نوعاً من الجرأة التي لم يعتدها المجتمع، وتلك كانت سمات روايات إحسان عبد القدوس، العمل الروائي يملك قدراً ومساحة من الحرية في وصف ما يريد لتوصيل رسالة محددة.
بالإضافة أن للرواية مذاقها الخاص بالطبع، فالرواية تستطيع أن تخلق حالة من الارتباط بينها وبين قارئها عن طريق اللعب على تشغيل وإثارة جميع حواس القارئ وأولها الخيال، فيسرد الكاتب الأحداث ويترك العنان لخيالك، فالكاتب إحسان عبد القدوس كما قيل عنه بأنه “الموهوب الذي لم يعش في جلباب أحد” ستعيش معه خلطة من المشاعر المتناقضة والصراعات الداخلية من خلال استعراض شخصيات وأحداث رواية لن أعيش في جلباب أبي.
لك أيضًا:
رغم أن الكثيرين لا يعتقدون بأهميتها: لماذا يجب أن تقرأ الروايات والقصص؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.