رواية اللاز للكاتب الجزائري الطّاهر وطّار: من قال إن الثوّار رجال طيبون؟
نبذة عن المؤلف الطّاهر وطّار
في البداية، الطّاهر وطّار من مواليد 15 أغسطس 1936 بـعين الصّنب، بلدية سافل الويدان بولاية سوق أهراس. بسبب ضغوطات المستدمر الفرنسي لم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة الحكومية، فتلقّى دروسه العلمية الأولى في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1950، ثم التحق سنة 1952 بمعهد عبد الحميد بن باديس بولاية قسنطينة، وفي سنة 1954 أنهى تعليمه بالزّيتونة بمدينة تونس.
التحق الطّاهر وطّار سنة 1956 بالثورة وكان عضواً في اللجنة الوطنية للإعلام، خلّف وراءه عدّة مؤلفات بدءاً بالمجموعات القصصية مثل “دخان من قلبي” سنة 1961، وعدة مسرحيات أبرزها “على الضفة الأخرى” سنة 1958 و”الهارب” سنة 1971.
اقرأ ايضًا:
الزلزال رواية خيالية من الجزائر عن خيبة أمل كل الأقوام!
صدرت رواية اللاز سنة 1974، وقد راودته فكرة كتابتها في سبتمبر من سنة 1958، وهي السنة التي تم تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة فيها، وقد شرع في كتابتها سنة 1965م، وهي السنة التي تراكمت واشتدّت فيها النزاعات بين الثوّار أعضاء الجبهة إلى أن اكتملت الرواية سنة 1972م.
هل الثوّار رجال طيبون؟
يحتفل الجزائريون في الفاتح من نوفمبر من كل عام بذكرى اندلاع الثورة التحريرية، اليوم الذي تحوّلت فيه فكرة ضرورة الكِفاح المُسلّح، والتي لاحت في الأفق قبل الثورة بعشر سنوات، بدءاً بمصالي الحاج الذي طرح الفكرة آنذاك ثم اقتناع الشعب الجزائري بفكرة: “ما أُخذ بالقوّة لا يستردّ إلا بالقوة” بعد مجازر 8 ماي 1945 من طرف المستدمِر الفرنسي.
قُلت تحولت تلك الفكرة الجهاديّة إلى واقع ملموس يعيشه النّاس يومياً، بداية من التوتّر الصّامت الذي تمثّل في سنوات التحضير، ثم التوتر الصّاخب الذي دام سبع سنين وتُوّج أخيراً بخروج الجيش الفرنسي من أرض الجزائر.
في رواية اللاز يقوم الطاهر وطار بتجاوز كل الحدود وخرق كل الأنسجة التي تُحاك في أذهان النّاس، وخاصّة الجزائريين لدى سماعِهم كلمة “الثورة التحريرية”، فيسقُط بالقارئ سقوطاً حراً من هرم القيادة العليا للثورة إلى أحقر طبقة عديمة القيمة تشارك في المعركة، من الثوريّ إلى الخائن، من الشيوعيّ إلى الجاهل، من القارئ إلى الأُمّيّ ومن الغنيّ إلى الفقير.
هذه الرواية ليست للتسلية لذا، لا نأسف على حرق الأحداث (يمكنك شراء الرواية عبر هذا الرابط).
وجوه وشخصيات رواية اللاز
اللاز ليس بطل الرواية بالنظر إلى أحداثها المتشعّبة، والتي تمركزت في الأخير في شخصية المجاهد الجزائري زيدان، فاللاز إنسان لقيط لم يعرف أباه وأمّه، مثل الشعب تماماً لم يعرِف ماضيه الذي يُعينه على وضع نقاط الحاضر لرسم خط المستقبل، وهو كذلك إنسان منبوذ لم يُعرف عنه إلا الطيش والأذى حتى بلغ معدل دخوله السجن 30 مرة في الشهر!
الغريب في هذا اللاز هو أن لا أحد استطاع أن يمسكه متلبساً بتهمة خيانة الوطن ولم يجد النّاس سبيلاً لذلك إلا التمسّك بعلاقته بأحد الضبّاط الفرنسيين، وتردده الدائم بارتياح على إحدى الثكنات العسكرية الفرنسية، فكانت تلك العلاقة أملهم الوحيد في القضاء على أي بذرة خير في نفس اللاز المسكين.
والعجيب أنه حتى بعد أن فضح نفسه بنفسه، واقتيد إلى القرية وعلامات الضرب والتعذيب بادية عليه، بحثاً عن أخيه قدّور الهارب من العسكر، لم يرأف رغم ذلك لحاله أحد، وهذا يدل على الخلل النفسي المتمثل في تكذيب ما هو واضح للعيان، نتيجة انعدام الثقة في حدوث تغيير ما، وكذا الكراهية التي كانت تحفر عميقاً في نفوس الجزائريين بعضهم لبعض آنذاك بسبب رداءة المعيشة والظروف القاسية، والتي تدعو -من المفروض- إلى الاتّحاد مهما كان الثمن.
ضمن أحداث رواية اللاز ينتقل بنا الطاهر وطّار بعد ذلك إلى شخصيّتَي قدّور وحمّو، حمّو الذي يعمل في الحمّام والمسؤول عن الفرن فيه، يروي لقدّور علاقاته الغراميّة بخوخة، مباركة ودايخة وكيف كان يُلقي بكل مولود يولد له من الزّنا في الفُرن مباشرة بعد أن تضعه إحدى العشيقات.
أُحب أن أُلقّب حمّو برَجُل النّار، فقد اجتمعت عليه ألوان النّيران كلها، نار الاستدمار الفرنسي، نار العِيال، نار الفقر، نار فرن الحمّام وكذا نار قلبه دائمة التّأجّج، فلا ريب أن يلتحق بالثورة لتزيده ناراً على نار، مع قدّور الذي تخلّى أيضاً عن حبيبته في سبيل حبيبة أكبر اسمها الجزائر إيماناً بقولهما، بعد حوارات مصيريّة ومُفعمة بالأمل “ليس هناك من يُحب، كلّ النّاس مُجبرون”.
ينتقل بعدها الطاهر الوطّار إلى شخصيّة أساسية كانت أشد على اللاز من المستدمر الفرنسي، هو العميل بعطوش، الذي يعمل حركيّاً لصالح فرنسا، ولكي يحصُل على ترقية بحُكم عملِه، فإن ضابطه يُرغِمه على ارتكاب جريمة بشعة ستكون تمهيداً لسلسلة من جرائم أبشع بعدها، ألا وهي إثبات الولاء لفرنسا عن طريق الزنا بخالته وقتل والدة اللاز، ليمهّد هذا الحدث لجرائم أخرى، والتي تنتهي بانتقام بعطوش انتقاماً شديداً من الضابط وجنوده في اليوم الذي قررت الجبهة الوطنية أن تقوم بإعدامه.
لعلّ أبرز شخصيّة والتي يعود إليها الفضل -بعد الطّاهر وطّار طبعاً- في إعطاء الرواية وزنها الثقيل، وتجعلها ضمن أفضل مائة رواية عربية في القرن الماضي، هي شخصيّة زيدان اليساريّ والشيوعيّ المعتقَد والمجاهد الجزائري في نفس الوقت، فهذه الشخصية هي العُقدة التي تربط بين الماضي بما يحمله من غموض وتساؤلات، وبين الحاضر بتقلُّباته السريعة، والعواقب التي تنمو بصفة جنينية لتنفجر مستقبلاً، زيدان من خلال خواطره الجريئة سيكشف لك عن جانب مهم من ضرورة التمسّك بالمبادئ والحق أمام طغيان الباطل.
“تُرى هل أعلنوا الكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن؟ أم من أجل تكوين حزب؟”
ففي مشهد يكون القائد زيدان مع أربع فرنسيين وضابط بَحْرِيّة إسباني كلّهم مؤيدون للثورة الجزائرية، يُساومهم شيخ من شيوخ القيادات العليا على حياتهم مقابل التّخلي عن عقيدتهم الشيوعيّة في سبيل القضاء على التعددية الحزبية! والانزواء جميعاً تحت راية سياسية واحدة تكون من نصيب الأقوى بعد الاستقلال.
وانتهى الأمر بالقضاء على الجميع ذبحاً بكل دم بارد، وكان زيدان آخرهم، والذي لم تشفع فيه جنسيّته الجزائريّة، وتضحياته في سبيل تحرير أرض الوطن من المستدمر الفرنسي، فذُبح أمام عيني ولده اللاز، الذي صاح من هول المنظر والصّدمة بكلمة سرّ المجاهدين فيما بينهم، بينما تتطاير الدماء ساخنة من رقبة والده زيدان “ما يبقى في الواد غير حجاره!” إشارة إلى أن الثورة التي يقتل أبناؤها بعضهم بعضاً، والذين يتقاسمون نفس الدم ونفس المصير ونفس الأرض لا تصلُح أن تًسمّى ثورة، طالما سيخلفها العُملاء والخوَنة وعديمي المبادئ.
سمِّها معركة أو سمِّها ما شئت إلا الثّورة، صحيح أن المعركة كُلِّلَت بالنّجاح إلا أن المعركة ليست الحرب، الحرب لا تزال قائمة، الحرب قديمة قِدم الكفاح الجزائري منذ القرن التاسع عشر، حرب مع المستدمر، حرب مع نفسه، مع مبادئه ومع الديمقراطية التي تطمح إليها كل الشعوب.
“الديمقراطية… تمارسها اليوم اليوم لتحترِمها غداً”
تساءل زيدان، ذلك الشيوعيّ الأحمر وهو في مخزن مُظلم داخل جبل مع بقية الأوروبيين، يتجرّعون الكونياك ويدخنون السجائر ويتبادلون أطراف الحديث مع الموت الذي بات واضحاً لأعينهم، قُبيل أربع وعشرين ساعة من إعدامهم، حول الجدوى من وجود إنسانة مثل Thérèse Desqueyroux – تيريز دي كيرو وما غاية فرنسوا مورياك من خلق مثل هذه الشخصية عديمة الغاية، وهل حقاً بكى إرنست همنغواي هزيمة الشعب الإسباني في رواية for whom the bell tolls – لمن تُقرع الأجراس؟ وكيف أنه تذكر هاذين الأمرين بالضبط في مثل هذا الموقف بعد مرور سبعة عشر عاماً على إكماله للروايتين، وكأنّه والأوروبيين الذين معه لم يجمع بينهم إلا الأدب كأحسن طريقة للتعبير عن بؤسهم وتعاسته.. ونهايتهم.
وأنا أتساءل بدوري: هل بكى الطاهر وطار سرِقة حرية الاختيار في رواية اللاز أو سرِقة مصير الشعب الجزائري في روايته الزلزال؟
الثورة وتقديس الأشخاص
إن ما أجهض الثورة الجزائرية من إنجاب استقلال تام للشعب المغدور هو الصراع على السلطة وخيانة المبادئ، التي تمّ تبنّيها قبل فهمِها في ميثاق نوفمبر، فشرّعوا لأنفسهم ذبح إخوانهم ممن يُخالفونهم المُعتقد، وقتل المُعارضين السياسيين.
ولو أظهروا الولاء للثورة بالفعل قبل القول، رغم رابطة الجهاد التي جمعتهم في بوتقة معدنية واحدة، لو أحسنوا النظر إلى الفتحة الوحيدة التي يتسلل منها النور، وهو النور الذي يلفح صفائح قلوبهم عندما يستيقظون على وطن حر، لا حديد البوتقة الذي حز رقاب البعض وسلب حرية البعض الآخر سنوات عديدة ونفى آخرين خارج الوطن إلى الأبد.
وبصفة الطاهر وطار رجلاً عايش زمن ما قبل وما بعد الثورة وعايش الاستقلال، فقد كانت كتاباته من عمق المعيشة، وصميم الأحداث وما سبقها من قرارات وما أعقبها من نتائج خاصّة، فيما يتعلّق بـالتصفية الجسدية للثوار بعضهم لبعض.
رواية اللاز للكاتب الطاهر وطار هي رواية تاريخيّة بامتياز ومن كلاسيكيات الأدب الجزائري الذي أرّخ لفترة حسّاسة ومشحونة بالصدامات والصّراعات بين من يسعى لتحرير الوطن ومن يسعى لامتلاكه، وفي النهاية جفّ ماء الوادي النقي ولم يبقَ إلّا الحجارة.. لم تعرفوا أي حجارة يقصِد صحيح؟ إنهم ببساطة الخونة والعُملاء.. أعداء الوطن.. أعداء الإنسانية الذين يتفننون في إذلال الشعب الجزائري عاماً بعد عام.
رواية اللاز والأقنعة المزيفة
إن أشد ما أعجبني في رواية اللاز هي قدرة الكاتب الطاهر وطار التعبيرية في سرد الأحداث والربط بينها، إلى الدرجة التي تجعلك تعيش الرواية بكل الخواطر والأحاسيس والوقائع وكذلك قدرته على تمرير رسائل خفيّة وأحداث حقيقية خلف أقنعة مزيفة من تغيير للأسماء والتفاصيل، أحداث نعيش تبِعاتها إلى يومِنا هذا.
وما أرى حلاً للقضيّة الجزائرية إلا بالمصالحة النّفسيّة والإطّلاع على أكبر قدر ممكن من كِتابات السابقين حول الثورة وعدم تقديس الأشخاص والانحياز والطّائفية، لأنه في الأخير كلّنا أبناء وطن واحد تحت راية واحدة وهوية واحدة هي الهوية الجزائرية، ومن حق كل جزائري، بل من الواجب عليه أن يعرف كل شيء عن ماضيه، كي يتثبّت من حاضره وينطلق نحو المستقبل.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
تلخيص جيد نريد اقل من هاذا