نمط الأب المفقود في أهم روايات نجيب محفوظ وفقًا لنظرية موت الإله

نعم، نعم عزيزي القارئ، أنت بالفعل قرأت العنوان بشكل صحيح، هذه بالفعل: “نظرية موت الإله في أهم روايات نجيب محفوظ”. ونعم مرة أخرى نحن كفريق كتاب قسم “الكتب” نعلم مدى حساسية جملة كهذه، حتى رئيسة القسم نفسها حذرت الكاتبة من عواقبها. ولكن الأخيرة راهنت على وعي وسعة صدر قراء مجلة أراجيك، وأنهم بالتأكيد سيتريثوا في الحكم على مضمون المقال حتى قراءة آخر كلمة به، للتعرف على نمط الأب المفقود في روايات الأديب العالمي.

اقرأ أيضًا:

نحن في مقال اليوم (بناءً على مقال سابق منشور في قسم المعرفة يحمل عنوان مشابه) بصدد تطبيق مجموعة من أهم نظريات القرن العشرين في الأدب على أعمال فخر الأدب المصري والعربي، الأديب الواقعي للغاية، ومحبوب الوسط الثقافي والأدبي بكافة أجياله؛ نجيب محفوظ.

بالفعل موت الإله هي كلمة مفجعة لقائلها نيتشه في كتاب العلم المرح على لسان المجنون في حوار شهير:

وبغض النظر عن مجمل أفكار نيتشه التي بالتأكيد ليست هي هدف النقاش والتناول في هذا المقال، ولكن ملخصًا ما أراد نيتشه قوله هو أنه وبسبب التقدم العلمي والفكري الذي وصلت إليه أوروبا وبالأخص بعد سقوط سلطة الكنيسة نهائيًا كان -في نظره- على العلم والمنطق والتجربة تولى زمام الأمور.

وإذا تركنا هذا موت الإله -المتخيل في نظر نيتشه- وذهبنا لنوع آخر من الموت، نجد نظرية قائلة بموت المؤلف، ورفض أي تفسيرات وتأويلات للنص من خارجه، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ويتعامل مع الكاتب على أنه “آلة لإنتاج الكلمات” ليس إلا ولا تحكمه أي مشاعر أو أفكار تظهر من خلال النص، وهي نظرية تعرف باسم موت المؤلف للناقد الأدبي رولان بارت.

لكن، هل يمكننا تحقيق ذلك على أرض الواقع؟ هل في الأساس يوجد شخص/كاتب بلا مكونات نفسية وشخصية بالطبع تؤثر على إنتاجه أيًا كان شكل هذا الإنتاج؟

فرضية بارت هي فرضية نظرية قد تكون فعالة، ولكن عمليًا هي مستحيلة الحدوث. فعند قراءة مجموعة من أعمال أي أديب بالأخص لو متتابعة زمنيًا بالتأكيد سنجد نمط أو نسق يتشابه به تلك الأعمال، ومن دون معرفة أي شيء عن حياته الشخصية يمكن توقع الكثير منها بنسبة تكاد تكون دقيقة.

فهل يمكننا تجاهل وجود نمط مشترك في أعمال توفيق الحكيم حول تصوير المرأة وكيف تكون مسيطرة وذات شخصية قيادية؟ وهل يمكن تجاهل النموذج النقيض تمامًا في أعمال إحسان عبد القدوس التي تصور المرأة دائمًا تحتاج من ينقذها؟ وكذلك نمط الأب المفقود -جسديًا أو حتى مغيب عقليًا- أو المقتول في أهم روايات نجيب محفوظ الأديب الذي وصل بقلمه لآفاق إنسانية غير مسبوقة؟ كلها أنماط متشابهة التكوين في أعمال الكتاب لا يمكن إنكار وجودها بحجة موت المؤلف.

في كتابيه “قلق في الحضارة” و “موسى والتوحيد” تناول فرويد العلاقة الرمزية بين الأب والإله، ولكن بشكل مختصر ومن بعده لم يتناولها الكثير من المحللين. وملخصًا لآراء فرويد بهذا الصدد هو أن في لاشعور الابن يرمز الأب إلى الإله بشكل أو بآخر  بالأخص فيما يتعلق بالقوة المطلقة والسيطرة بموجب السلطة الأبوية، وفي أحيان يكون الإلحاد وإنكار الأب ما هو إلا وجه غضب وكره موجه للأب في الأساس، ولكن بسبب القوانين المجتمعية، وقوة الأنا الأعلى تتحول إلى رفض للسلطة الأكبر وهي الله، وبالأخص في المجتمعات التي تتمتع بحرية في المعتقدات والأفكار.

في نظرة إلى نمط الأب المفقود في رواية الطريق، نجد بطل الرواية صابر الرحيمي، ابن بسيمة عمران القوادة، يعيش عمره كله بدون أب، ليفاجئ قبيل موت أمه بساعات بوجود أب له ذو مستوى رفيع، وأنه إذا كان يريد العيش في “السلام، الحرية والكرامة” التي كان ينشدها طوال الطريق عليه إيجاده.

وفي أثناء سعيه وراء إيجاد هذا الأب، يشتت صابر بالنساء حتى يقع في الجريمة، وقبيل محاكمته يفاجئ بوجود أبوه في نفس المكان في أكتوبر الماضي. ويصر صابر حتى النهاية، حتى بعد معرفته بمصيره المحتوم بالإعدام أن يرى صابر الرحيمي الأب ولو مرة واحدة.

الجدير بالذكر أن في نفس العمل، نجد أبو إلهام كذلك مفقود، تركها طفلة وحيدة مع أمها وذهب بلا عودة! تقول الدكتورة هالة أحمد فؤاد في كتابها “قراءات صوفية في أدب نجيب محفوظ”:

كما قتلت بسيمة أباه عن طريق محو كل أثر له في حياته، قتلت ذكورية صابر وجعلته تابعًا لها، حتى بعد موتها وفي أثناء رحلة البحث عنه اختار صابر طريقًا يشبه حياة أمه. ليستيقظ بعد فوات الأوان ليجد أن الأب -أو كما يقول فرويد صورة الرب- كان أمام عينه فأكثر من موضعه ولكنه لم يره.

اقرأ ايضًا: 

إن كان هناك نمط الأب المفقود في رواية الطريق، فهناك أيضًا في رواية أفراح القبة وكذلك رواية ثرثرة فوق النيل، نمط الأب موجود جسديًا، ولكنه مغيب عقليًا بسبب اعتماده النفسي على المخدر “الأفيون”.

في رواية ثرثرة فوق النيل، التي تعد من أشهر أعمال نجيب محفوظ ويمكن تحليلها على أكثر من مستوى وبأكثر من منظور، نجد أن الموظف أنيس زكي الأب لفتاة صغيرة مغيب أكثر الأوقات بداية من الكتابة بقلم بدون حبر، ليتسبب ذلك في طرده من الشغل وحتى نهايته المحتومة في العوامة.

أما عن رواية أفراح القبة، فحدث ولا حرج عن الأب كرم يونس المدمن السكري، الذي ومنذ بداية تكوين وعي ابنه عباس قرر ألا يمثل له شيئًا إلا هادم الأخلاق والقيم الحميدة التي تعلمها عباس من القراءة والمسرح. وحتى بعد اختفاء عباس ومحاولة انتحاره بعد فقدان ابنه وزوجته لم يتحرك الأب كرم يونس قيد أنملة لمساعدته.

الزعبلاوي هي قصة قصيرة نشرت ضمن مجموعة قصصية بعنوان دنيا الله، وبالرغم من أن الزعبلاوي ليس الأب في هذه القصة فهو صديق الأب ومن ذكراه إلا أنه لا يمكن تجاهل قصة البحث عن الزعبلاوي عند الحديث عن صورة الله في أهم روايات نجيب محفوظ أديب نوبل النابغة.

بسبب علة ما يبحث بطل القصة عن الشيخ الزعبلاوي الذي سمع عنه من والده وكيف له قدرات خارقة في شفاء المرضى، وكلما اشتد الألم كلما سعى أكثر وأكثر لملاقاة الزعبلاوي، وبعد البحث في خمسة أماكن مختلفة، وفي المكان السادس عند الوارث السكير يجد الزعبلاوي، ولكن للأسف يجده الزعبلاوي مسكورًا غارقًا في أحلامه، ليكون في النهاية البطل قابل الزعبلاوي ولم يقابله في نفس الوقت، فكانت بمثابة رحلة للبحث عن العلاج/الخلاص.

في النهاية، لا نحاول من خلال قراءتنا تعميم قوانين خارج النص على حياة الأديب من خلال مجموعة من الرموز المشتركة في أعماله، وبالتأكيد لا نحاول تطبيق العكس وإسقاط حياة نجيب محفوظ على أعماله. ولكننا نوضح فقط أن هناك رموز مشتركة ظهرت بشكل متكرر في أعمال أديب ما، ولا يمكن بكل تأكيد تجاهل الدلالة الخاصة بها وعلاقتها بشخصية الكتاب، فكيف نقتل الأديب بعد إنتاجه لنص ما وهناك كل هذه الدلالات؟

لك أيضاً: