لا أحد يرثي لقطط المدينة: الاتكاء على الذات أو الأمل العسير
6 د
في البداية، يُعد “محمد الحاج” كاتب سيناريو قاهري ومحرر صحفي سابق، وهو كاتب فيلم “فيلا 69” الصادر سنة 2013. أما مؤلفه “لا أحد يرثي لقطط المدينة” فهي مجموعة قصصية تحكي عن عدد من العلاقات العاطفية بعد صيف 2013، وقد صدرت عن دار التنوير سنة 2018 ولم يصدر للكاتب سواها. المجموعة مكونة من ست قصص وواقعة في 160 صفحة.
لا أحد يرثي لقطط المدينة: عن القصة والتنوع
كما قلنا آنفًا، التعامل مع المجموعة القصصية أعقد من الرواية لتعدد الموضوعات، وغاية ما نفعله هو تسجيل نظرة عامة على الانطباع الذي تمنحه الشخصيات، مع اختلاق بعض القواعد سريعة التحضير التي تبدو في لحظة معينة وجيهة.
فمثلًا، ما دامت المجموعة القصصية تضم عددًا من النصوص فالأفضل أن يتم تنويعها. بعد لحظة تفكير، لم يكون هذا الأفضل فعلًا؟ المجموعة متعددة الصور والأخيلة، الشاملة لجزئيات متعددة ومساحات من الحضور الإنساني والتركيب المجتمعي، تعطي انطباعًا بالشمول والإحاطة، وتيسر عقد مقارنات بين الناس والظروف والطبقات إلى آخره.
من جهة أخرى، المجموعة المركّزة على نوع واحد من الشخصيات، أو الموضوعات، أو سياقات الأحداث، أو نوع الكتابة، تعزز التكثيف الذي هو عماد القصة، وتعمل عمل الرواية بمزيد من التعمق مصدره القدرة على الخروج من الخيط القصصي الواحد لغيره.
قصص “محمد الحاج” المسماة “لا أحد يرثي لقطط المدينة” من هذا النوع الثاني، وهو أمر أفهم أن يزعج قطاعًا من القراء، إذ ينم من زاوية ما عن ضعف محتمل عند الكاتب في عرض الشخصيات والعوالم، والأهم: انحباس في مجتمع محدود أو حالة شعورية معينة تعجزه عن الخروج والاندماج الذي يفترض أنه أكبر تجلٍّ لنُبل عملية الكتابة.
بدلًا من ذلك، فإننا نكاد هنا نلتقي الشخصية نفسها مرات متتاليات. هذا، من جديد، الانطباع الأول، والذي لا يصمد عند التفنيد. فإن الفرق بين الشخصيات واضح بلا شك، ليس على نحو جذري دائمًا لكن على مستوى ما. كما أن دوران النصوص كلها في فلك واحد هو فلك العلاقات، ومجتمع واحد بثقافة واحدة وسمات شخصية مشتركة، قد يكون حرمنا من التعددية لكنه أنشأ تحديًا من اللذيذ متابعته: هل سيسمح هذا الانغلاق بكتابة قصص تتصف أولًا بالتسلية وثانيًا بعدم التكرار؟
الحكي
“محمد الحاج” ذكي كما هو واضح، وكل قصة في “لا أحد يرثي لقطط المدينة” معبرة لوحدها عن قدرته على التعبير عن الأفكار وربط خارج الشخصيات بداخلها، ومناوبة الحكي بين الماضي والحاضر المقسم إلى أكثر من خيط.
على نحو خجول، أكاد أحتفي بحقيقة أنه لم يسعَ إلى تنويع هذه القصص لأن النتيجة تكون كارثية في العادة. على الأرجح كنا سنجد أنفسنا -بين عدة كوارث- أمام قصة حب إسلامية من التي تجلب المرض إذا كتبها إسلامي والموتَ إذا كتبها غير إسلامي. الكاتب هنا يكتب ما يعرف، ووصفه للشخصيات والأحداث يبدو في بعض مناطقه ذاتيًّا كأنه يتلو أشياء حدثت له أو شاهدها تقع لغيره.
أضف إلى هذا الأسلوب السينمائي فكأنك تشاهد عددًا من الأفلام القصيرة، حزينة قليلا وراثية بعض الشيء ومفعمة بحيوية موقظة مناقضة لكل هذا الخراب.
انغلاق هذا العالم
طيب. أما غياب التنويع فقبلناه، وأما الإغراق في الذات فلا أجده مناسبًا لمصطلح الأدب الذي يفترض (من ناحية رومانسية، أعرف) أن يكون جامعًا غير مفرّق.
إنما أقول هذا لأن القصص لا تحفل بأي ثراء في ناحية توسيع طيف الشخصيات، وإذ غاب عنها هذا غاب عنها بالتالي عرض أهم ما في القاهرة التي تعبر عنها “لا أحد يرثي لقطط المدينة” بشكل مميز: الصدامات متناهية الكثرة وافرة الصور.
دعك من انغلاق هذا العالم الذي يفترض نظريًّا أنه منفتح: كل من في القصص يشرب الخمر ويمارس الزنا ويتفوه بأقبح الكلام، ثم إن الكاتب واءم هذا العيش الغربي بلغة لا تكاد تزيد على كونها ترجمة حرفية بعض الشيء لنص أجنبي. وبالطبع ظهور المتدينين يأتي في سياق الذم والسخرية مع ندرة إتيانه (بين الزوج الملتحي الفظ الذي لا يؤدب ابنه وبين الشيخ الذي يأمر الزوجة بربط يد زوجها في السرير حتى لا يمارس العادة السرية).
لست ساذجًا فأدّعي أن الأدب يقربنا فعلًا، ولن أطالب “محمد الحاج” بما لن أطالب به نفسي، لكن الحقيقة أن هذا الانغلاق يبدو في الذهن أقرب للكتابة المحافظة التي لا تنتمي إليها قصص “لا أحد يرثي لقطط المدينة” على سبيل القطع، ثم إنه من المزعج -بغض النظر عن ضفة النهر التي عليها موقفك- قراءة صور إنسانية لذيذة كهذه، لها الوقع نفسه الذي للنظر لمشاهد طبيعية مفتوحة مهدّئة، ثم تجدها مغلّفة في صندوق عماده الاستبعاد والإلغاء للآخر مع هذه الأحكام القاطعة التي تُستخرج من دون مجهود.
حافة مفرغة من المسؤوليات
هناك نمط سردي يستطيع القارئ ببلوغ الحكاية الأخيرة تبينه، وقد كاد -لولا جودة السرد وغنى المحتوى الإنساني- يؤكد انطباع أنك تقرأ قصة واحدة مكررة مع تغيير التفاصيل.
الحقيقة أن الإنسان في الغالب مصدر واحد، وكل ما يصدر عنه مطبوع ببصمته الشخية المميزة، والتي كلما ثقُلت كلما سهُل التعرف عليها. هذا الأصل يؤدي إلى الآتي: كل ما يكتبه الإنسان إعادة إنتاج للقصة الأولى، وكل ما يبث في كتابته من العوامل، وكل ما يحمل نفسه عليه من التطور، إنما هو مغالبة لحقيقة أن قدر التنوع الذي يمكن صدوره عن امرئ واحد محدود.
هذا أصعب في القصة بطبيعة الحال، فكيف إذن نجحت مجموعة “لا أحد يرثي لقطط المدينة” في التسلل إلي وإمتاعي مع الغياب النظري للعوامل المطلوبة؟ هذه هي اللحظة التي أبرر فيها نفسي كقارئ مزاجي وأكف عن التظاهر بالموضوعية المطلقة وما شابه، فأقول إن إلقاء نظرة على هذا العالم البعيد، والذي لا أعرف عنه شيئًا يعتبر بحكم نشأتي المتحفظة وطباعي الشخصية ومنظومة قيمي، مثّل اللذة العظمى التي يعبر عنها الأدب في نظري: التعامل الأكمل مع غياب الإقدام، والوقوف على حافة مفرغة من المسؤوليات، والتمكن من فعل الأشياء والمرور بالتجارب دون تحمل التبعات الواقعية.
إذا كنت أنا نفسي أجلس في غرفتي أجوّد خيالاتي وأنطلق -بغرض التسلية والفضول والهروب ومبررات أخرى بعضها أقل سوءًا من بعض- إلى أراضٍ موازية، فما أسعدني إذ أستطيع تمرير عجلة القيادة لـ”محمد الحاج” فينشئ لي عوالم من الخيال رسّخ وجودها أن كُتبت، وقوّى حضورها الاعتناء بالتفاصيل.
وبالطبع، من بعد، بناء كتابتي الأدبية اللاحقة عن هذا العالم -كما عن غيره- على أرضية من التصورات قد لا تكون مكتملة، وهي بالتأكيد أضعف مما سأحمّلها، لكنها على الأقل -واندفاعا مني للثقة بكاتب هذه المجموعة الممتعة- تبدو موثوقة ومتسقة مع نفسها، ومرتوية بالدرجة الكافية لتشرع في سقي غيرها: أنا.
لا يستقيم بدونها السياق
تعرض قصص “محمد الحاج” لفشل علاقات بدأت في الغالب لأسباب خاطئة، ما يجعل فشلها هو النتيجة المنطقية غير المحتاجة تقريبًا إلى الشرح. على هامش النقد، وحقيقة أن معظم الناس بغض النظر عن مدى ذكائهم وثقافتهم وتدينهم يعولون على الحب أكثر من قدرته ويسيؤون التعامل مع العلاقات ويفتقرون لأدنى مقومات الاختيار، فإن القصص تطرح سؤالًا أكثر أهمية: هل ثمة أسباب سليمة بالفعل؟ وإذا كان ثمة، هل يخفف هذا من حقيقة أن الاقتران العاطفي فعل مغامرة مبني على الخطر غير خاضع للضمانات؟
ولأن “لا أحد يرثي لقطط المدينة” تعرض كل هذه النصوص (التي أرى جو الانفلات المميز لها جزءًا رئيسًا في مشكلتها) في أسلوب عادي، يقتطعها دون إبداء رأي، ويرصها الواحدة بجوار الأخرى، فكأنها صور غير مشكلة بل هي جزء من الحياة طبيعيٌّ لا يستقيم بدونه سياقها، لأجل هذا فإنه يبدو وكأن الأحكام على القصص، وتحديد مواضع خطأ الشخصيات، ووسيلة تفادي النهايات، يبدو هذا جميعه بلا أهمية تفوق أهمية كونه موجودًا.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.