متلازمة المحتال والسعي للكمال وجهان لعملة واحدة
7 د
هل شعرت يومًا بأنه مهما أنجزت وحققت من أمور، سوف تظل تشعر بانعدام للرضا من داخلك، سوف تظل تشعر بأنه ربما كان على القيام بأفضل من ذلك وفي وقت أسرع من ذلك، أو أن ما أنجزت من عمل -وصفه الآخرون بالرائع- ربما تطلب منك جهدًا ووقتًا أكثر من اللازم ويوجد الكثير من الناس ممن يمكنهم القيام به في وقت أقصر؟ كل تلك المشاعر يضعها العلماء اليوم تحت مظلة مصطلح طبي جديد يدعى "متلازمة المحتال"، سوف نتحدث في هذا المقال أكثر عن هذه الظاهرة النفسية الشائعة، ومدى ارتباطها بعصر جعلت فيه التكنولوجيا كل شئ سريع وممكن.
ما هي متلازمة المحتال؟
متلازمة المحتال هي ظاهرة نفسية تتمثل في عدم القدرة على الشعور بالاستحقاق والنجاح، والخوف من اكتشاف الآخرين لإحساس الضعف وعدم الكفاءة الذي يشعر به أحدهم، وذلك على الرغم من وجود أدلة مادية ومعنوية على نجاح ومهارات الشخص المصاب بتلك المتلازمة، ووُصفت أول حالة نفسية لمتلازمة المحتال أو مصطلح الاحتيالية عام 1978م بواسطة كل من الطبيبتين سوزان إيمز وبولين روز كلانس، وذلك خلال دراسة جماعية قمنّ بها على مجموعة من النساء العاملات والناجحات وأقليات عرقية أخرى.
متلازمة المحتال تتخفى في أنماط عدة
يتخفى الشعور بعدم الاستحقاق في كثير من أنماط الشخصية والسلوكيات التي تعاني من متلازمة المحتال، ويصنف العلماء هذه الأنماط في 6 شخصيات رئيسية: دائرة المحتال، والكمالية، والبطولة الفائقة، ورهاب الفشل، ونكران الكفاءة ورهاب الإنجاز.
قد تتقاطع جميع هذه الأنماط في شخص واحد أو بعض منها تبعًا لطبيعة كل شخصية وما يصاحبها من أعراض وأمراض نفسية أخرى مثل الاكتئاب، والقلق والتوتر، والاضطرابات السلوكية وغير ذلك.
دائرة المحتال
إذا أدّيت عمل زائد عن الحاجة وكان جيدًا جدًا، فأنت محتال لأنك لا تمتلك المهارات الكافية لإنجاز عملك في وقت قصير دون أن تبذل كل ذلك الجهد، وإذا ما بذلت العمل في اللحظات الأخيرة فأنت محتال ومُدعي لأنك لم تبذل الجهد المطلوب.
هكذا يشعر من هو مصاب بمتلازمة المحتال عندما يحاول أن يُقيم عمله وكفاءته مقارنة بزملائه، فهو يرى أن الإفراط والتفريط سيان، وأن تسويف العمل وإنجازه في الدقائق الأخيرة مثله مثل قضاء ساعات وساعات في الاستعداد لتنفيذه، مما يعني أن الشخص لا يمتلك مهارات كافية تجعله ينجز العمل بسلاسة كالآخرين.
ويظل الشخص متقلبًا بين الاستعداد الشاق للعمل ثم التسويف لإتمامه في اللحظات الاخيرة، غير قادر بذلك على تقييم نفسه وعمله تقييمًا منصفًا لا يشعره بالقلق في كل مرة تُعزى إليه مَهمة جديدة.
الكمالية
تصف الدكتورة كلانس الكمالية بأنها "الحاجة الملحة لأن تكون الأفضل" مما يخلق بيئة تنافسية قد تكون أحيانًا مختلقة يتصور فيها الشخص أهداف ومستويات عالية وغير واقعية من الكفاءة التي عليه تحقيقها، وتَخلق هذه التصورات من قبل الشخص بيئة مليئة بالتوتر والضغط والتضحية بالأهداف والاهتمامات الشخصية في سبيل تأدية المهمة، وذلك النوع من الضغط الذي يشعر به الشخص يؤدي إلى صفة "البطولة الفائقة".
البطولة الفائقة
تتمثل تلك الظاهرة في الحاجة الشديدة لأن يكون الشخص الأفضل في كل شئ، وهي صفة ثانوية من صفات دائرة المحتال التي يسعى فيها لتحقيق أهدافه غير الواقعية والوصول إلى مستويات مستحيلة من الكفاءة، مما يُسبب عبئًا نفسيًا كبيرًا.
رهاب الفشل Atychiphobia
يخاف الذي يشعر بالاحتيالية من الفشل، وذلك يعني أنه يخاف من الفشل بمفهومنا الطبيعي وبمفهوم المحتال الذي يعني أنه يشعر أنه يؤدي أداءً أضعف أو أقل ممن حوله.
نكران الكفاءة والقدرات Denial of competence
تشترك هذه الصفة كثيرًا مع من يمتازون بالكمالية، فهم يميلون إلى إنكار قدراتهم وخبراتهم والمواهب التي يمتلكونها، ليس بدافع الخوف من الحسد، ولكن باعتبارها ليست ذات أهمية، وأن نجاحه جاء اعتمادًا على الصدفة أو مؤثرات خارجية لا تمت لمؤهلاته بصلة.
رهاب الإنجاز Achievemephobia
يعاني الأشخاص المصابين بمتلازمة المحتال من الخوف من النجاح، كونه يضع مزيدًا من العبء والتوتر عليهم في المرات القادمة التي سوف يحاولون فيها الوصول إلى مستويات أعلى من النجاحات السابقة.
ما الذي قد يدفعك للشعور بالإحتيالية؟
يخبرنا العلم حتى الآن أنه لا يوجد سبب رئيسي يمكن للإصابة بمتلازمة المحتال، ولكنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأنماط الشخصية الست التي سبق ذكرها، كما أنه توجد علاقة وثيقة بين ظاهرة الاحتيال والاحتراق الوظيفي، ومن المحتمل أن ينتج أحدهما بسبب الآخر والعكس صحيح، والدليل على ذلك الدراسة التي أجريت على طلاب القطاع الصحي، والتي وُجد فيها أن %50 من العاملات في القطاع الطبي، و%25 من العاملين، يعانون من أعراض متلازمة المحتال المرتبطة بالاحتراق الوظيفي حسب مقاييس Maslach Burnout Inventory.
وفي دراسة أُجريت على طلاب كلية الصيدلة، وُجد أن مؤشر كلانس لامتلاك الشخص لأعراض متلازمة المحتال Clance Imposter Phenomenon Scale كان أعلى بنسبة ملحوظة، وارتبط ذلك بساعات عمل طويلة وتلقي مساعدات نفسية سابقة، أي أن الضغط الهائل الذي يتعرض له الأكاديميين والطلاب والعاملين بالقطاع الطبي، يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بمتلازمة المحتال.
يلعب ذلك دورًا كبيرًا في التأثير على جودة الحياة والصحة النفسية لدى العاملين في القطاع الطبي، ويجعل عملهم هو الأولوية في حياتهم، فهم يبذلون قصارى جهدهم في توفير كافة الاحتياجات لمرضاهم، ولو على حساب مصلحتهم الشخصية، ويرى البعض أن ذلك أمر مقبول وإيجابي في مجال حرج تعتمد عليه حياة الآخرين كالقطاع الطبي.
هل تمتلك متلازمة المحتال إيجابيات تخدم الصالح العام حقًا؟
يعتقد البعض وجود جانب إيجابي مهمش من قبل باحثي علم النفس فيما يخص متلازمة المحتال، ومنهم خبيرة علم النفس بسيمة توفيق التي وجدت في دراسات نُشرت نتائجها على موقع البي بي سي BBC، أن أولئك الذين يعانون من متلازمة المحتال، يمتلكون نتائج أفضل في التواصل مع مرؤوسيهم والتعاون مع أقرانهم على إنجاز الأعمال، كما أنه وفي دراسة أُجريت على طلبة الامتياز في المستشفيات، وُجد أن أطباء الإمتياز الذين طُلب منهم التعامل مع المرضى وفق الطريقة التي يفكر بها من يعانون من المتلازمة، كانوا أكثر قدرة على التواصل مع المرضى بفعالية وتشخيص الأمراض بنجاح.
كما يرى العالم غالاوي أن متلازمة المحتال قد تعيد للبشرية الإحساس بالتواضع والصغر أمام الكم الهائل من المعرفة الذي لا يعرف عنه الإنسان إلا القليل، وقد يدفعه الشعور بعدم الاستحقاق إلى الرغبة في التعلم والتطور الذي سوف يعود على المجتمعات بالنفع، وأن تلك البيئة التنافسية قد تكون هي الأفضل أحيانًا في دفع الموظفين إلى الإنتاج وتحقيق الأهداف.
التكنولوجيا الوفيرة وشعورنا بعدم الاستحقاق
"No Pain No Gain" تلك المقولة الشهيرة في أمريكا والثقافة الغربية، والتي تدل على إيمان الشعب الغربي بضرورة العمل الشاق لاستحقاق العائد المادي والتمتع به، هو نتاج فكري لما أحدثته الاستهلاكية والرأسمالية من تأثير نفسي وثقافي فيما يخص مفهوم العمل، وذلك لأن شروط العمل الجاد في أذهان الناس ترتبط بالمشقة والتعب والحمل النفسي، وأن أي عمل لا يتضمن تلك الشروط النفسية لا نستحق المدح والثناء عليه.
ويتضح ذلك في نتائج الدراسات التي أُجريت بين النساء العاملات في المجال التقني، فوُجد أن %58 من النساء العاملات في شركات كفيسبوك وأبل وأوبر يعانين من متلازمة المحتال أثناء ممارسة عملهنّ، وذلك وفق دراسة عشوائية أُجريت عام 2018، ويرجع السبب في ذلك أن الموظفات يشعرنّ أن كل شئ في مجالهنّ يتغير بسرعة شديدة وأن كل ما يستطعنّ القيام به هو مواكبة تلك التغيرات دون الشعور بخبرة حقيقية يمتلكونها.
وذلك هو بالضبط ما تقوم به التكنولوجيا عندما تجعل كل شئ سريعًا وممكنًا فيما عدا شعور الشخص باكتساب الخبرة الحقيقية، فالإنترنت يُسهل عليك الوصول إلى ما تريده وإنجاز المهمة أو البحث، والذكاء الاصطناعي قد يؤدي المهمة بدلًا عنك، ولكن الخبرة الحقيقية هي شعور داخلي يتولد لديك بالتدريب والممارسة، الأمر الذي لا يتاح لنا كثيرًا في نمط الحياة السريع الذي نعيشه، إذًا كيف نتخلص من مثل هذه الظاهرة؟
طريقة التعامل مع مشاعر عدم الاستحقاق التي نواجهها في حياتنا العملية
يتحدث أحد مشاهير رواد الأعمال غاري فاينرشوك عن هذه الظاهرة قائلًا:" علينا التوقف عن تجميل انعدام الأمان وعدم الثقة الذي نشعر به بتسميته متلازمة المحتال"، واستكمالًا للحديث يخبرنا غاري أنه توج 3 طرق يمكن التعامل بها مع متلازمة المحتال، إما بالاستجابة، أو التجاهل الذي قد يحول الأمر إلى مرض خبيث، أو التعامل معها على أنها مشاعر سلبية يجب التخلص منها.
رأي الكاتب
إن من يظن أن أمرًا كالمشاعر السلبية التي يشعر بها الشخص باستمرار تجاه أمور ينبغي عليه أن يكون فخورًا بها أمر جيد أو يمتلك جانب إيجابي من ناحية العمل، فهو في الحقيقة مخطئ تمامًا ولا ينظر إلى الصورة كاملة، فإن العائد الإيجابي الذي سوف يجنيه شخص يشكك في جودة عمله باستمرار ويحاول التحسين منها، سرعان ما سوف يتراجع بالقدر نفسه الذي سوف تتدهور فيه صحته النفسية والجسدية.
ولا أظن أن الحل هو تقبل المشاعر السلبية وانعدام الثقة الذي نشعر به باستمرار لما لها من أثر ودافع في حياتنا العملية، بل توجد أرضية وسط نستطيع أن نوازن فيها بين الشعور بالاستحقاق والدافعية نحو التعلم، وينبغى علينا أن نسعى جميعًا للوقوف عليها.
من الطبيعي أن تشعر بالقلق من حين إلى أخر في عملك، ومن الجيد أن تسعى لتحسين ومراجعة أسلوبك فيما تفعله باستمرار، ولكن ليس من شأن ذلك أن يشكل لك ضغطًا أو عبئًا بأي شكل من الأشكال، بل ينبغي أن يجعلك تشعر بجدارة ما تظفر به جراء ذلك الجهد الذي تبذله.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.