جائزة نوبل في الطب 2022: لسفانتي بابو على فكه الشفرة الجينية لإنسان النياندرتال
10 د
تبدأ قصتنا منذ زمن سحيق، يقع بين 55 إلى 65 مليون عام مضى، بعد أن نفقت الديناصورات؛ فتركت للرئيسيات مساحتها للظهور والتطور بمرور الزمن. رويدًا رويدًا، وعلى مدار ملايين السنين، ظهر الإنسان وطور أدواته ومهاراته؛ فتقدم إلى أن وصل إلى هذه النقطة التي تقرأ فيها هذا التقرير.
مرحلة عظيمة من التطور على جميع مستويات الحياة، لكن هذا الكائن الفضولي أدرك أنّ في الماضي عظة؛ فراح يفتش فيه، لكنه لم يجد في صفحات التاريخ ما يفيده؛ إذ لم يكن هناك أحد ليُدوّن لنا ما حدث، وأدرك أنّ أسلافه تركوا له بعض رفاتهم وآثارهم، كي تُرشده للحقيقة، حسنًا، لنا حديث مطول في هذا. قبل ذلك، عليّ الإشارة إلى شيء مهم.
نُقدم لكم التطور على مائدة نوبل للطب في عام 2022
تذهب جائزة نوبل إلى عالم الوراثة التطورية "ستيفاني بابو" (Svante Pääbo)، لجهوده واكتشافاته المثيرة التي كشفت لنا تاريخ الماضي عن أشباه البشر الذين لم نكن نعرف عنهم شيئًا.
استخدم بابو أدوات وتقنيات حديثة، ساعدته في كشف الستار عن تسلسلات الجينومات الخاصة بإنسان النياندرتال المثير للجدل منذ أن عُثر على عظامه قبل عقود كثيرة، بالإضافة إلى اكتشافه نوع جديد فريد من البشر يُسمى "دينيسوفان"، ومن خلال عمله هذا، كشف لنا بابو ماضي البشر التطوري، ما عزز فهمنا لعلم وظائف الأعضاء أو الفسيولوجيا.
اكتشاف أول نياندرتال: ضربة حظ سعيدة لـ"تشارلز داروين"
هل تعلم أنّ صديقنا "تشارلز داروين" كان مترددًا في نشر أفكاره عن نظرية التطور لسنوات طويلة؟ رغم جرأته في نشر كتابه أخيرًا في نوفمبر / تشرين الثاني عام 1859. ما لا يعرفه أغلب الناس أنه تردد لسنوات طويلة إلى أن ظهر شاب طموح يُدعى "ألفريد والاس" الذي كشف لداروين أفكاره حول التطور؛ فخاف الأخير أن تذهب جهوده كل السنوات الماضية سدى، فتجرأ ونشره كتابه المشهور والمثير للجدل في آن واحد "أصل الأنواع: نظرية النشوء والارتقاء".
والحقيقة أنّ السبب الرئيسي لتردد دراوين في نشر هذا العمل أو مشاركة أفكاره على الملأ تعود إلى الثقافة في بيئته، والأفكار التي امتلئت بها رأسه منذ أن كان طفلًا وهي أنّ "الإنسان سيد الأرض"، لكن المعطيات التي كانت بين يديه أثناء إجراء أبحاثه، كانت لا تستثني أي كائن، وحاول بشتى الطرائق أن يجد مخرجًا، وكتب في إحدى المرات في مذكراته: "ولكن الإنسان -الإنسان الرائع- استثناء لذلك". لكن سرعان ما تراجع وكتب: "الإنسان ليس استثناءً". يبدو أنه وقتها كان قد اقترب من حسم قراره. وظهر كتابه إلى النور أخيرًا بتحفيز صديقه "تشارلز لايل".
ولأن الإنسان ليس استثناءً، بحسب تعبير داروين، ولاقى هجومًا غير مسبوق بعد نشر كتابه، كانت هناك قصص قديمة تدعم نظريته، وتزيد جرأته، بدأت في عام 1856، في وادي "نياندرتال" بالقرب من مدينة "دوسلدورف" بألمانيا. بينما كانت مجموعة من رجال المحاجر يعملون في كهف "فيلدهوفر"، وهو كهف من الحجر الجيري، وجدوا 16 قطعة من العظام، من ضمنها عظام لجمجمة. لم يخطر لهم أنّ هذه العظام تعود لنوع من أشباه البشر، واعتقدوا أنها عظام دب، وأعطوها لرئيسهم الذي يُدعى "يوهان كارل فولروت"، تحركت العظام من يد إلى يد، وأخيرًا وصلت إلى مجلس العلماء الذين اهتموا كثيرًا بها، ودرسوها جيدًا، وأعترفوا أنها تعود إلى أقارب البشر القدامي. لكن ما علاقة هذا بداروين؟
حسنًا، جاء هذا الاكتشاف في صالح داروين، وأيد ما كتبه في كتابه. بالإضافة إلى أنه وجه الأنظار نحو ذلك الوادي العتيق، واستغرق منه العلماء مجموعات كثيرة من عظام النياندرتال التي تزيد أعدادها عن 400 عظمة، وصار اسمه "وادي نياندرتال"، نسبة إلى هذا الحادث.
وتكاثرت الأسئلة...
بالطبع فكرة جريئة مثل هذه لن تمر هكذا مرور الكرام، وطُرحت العديد من الأسئلة حول أصحاب العظام: كيف يختلفون عنا؟ هل هم من أسلافنا حقًا؟ ماذا إذا لم يكونوا بشرًا مثلنا؟ وطبعًا ارتفعت أصوات نظريات المؤامرة والدعوة إلى ترك الأديان وأحداث كثيرة، ما زالت موجودة حتى يومنا هذا.
في نفس الوقت، كان العلماء يتسابقون لكشف خبايا أصحاب العظام هؤلاء، ولكي يفعلوا هذا، كان عليهم إنشاء جينوم كامل لهم. لكن مهلًا، الأمر ليس بهذه السهولة، هناك تحديات كثيرة، واجهها العلماء على مر العقود، إلى أن جاء لنا الدكتور "ستيفاني بابو" بإجابات صريحة وواضحة.
بداية الشغف بعلم المصريات
ربما بدأ فضول بابو في الإلحاح عليه نحو الأنواع المنقرضة في أثناء دراسته للطب في جامعة أوبسالا بالسويد؛ فقد كان شغوفًا بعلم المصريات والمومياوات المصرية المثيرة للإعجاب، والتي ظهرت فيها براعة المصريين القدماء في الطب والتحنيط منذ زمن بعيد.
واجتمع شغفه مع دراسته عندما وُكلت إليه إحدى المهام لعزل الحمض النووي من بعض المومياوات، ونجح فعلًا في عمل استنساخ لحمض نووي لعينة مومياء عمرها يصل إلى 2400 عام، وفحصها. يبدو أنّ الأمر قد أثار إعجاب بابو الذي قرر العمل على عينات تعود أعمارها إلى مئات الآلاف وربما الملايين من السنين.
وفي عام 1987، انتقل إلى مختبر آلان ويلسون للعمل على تطوير طرائق مختلفة لاسترداد وتحليل الحمض النووي من العينات القديمة.
داخل مختبر ويلسون
كان مختبر ويلسون مهتمًا باستخدام الأدوات الجينية، لمعرفة أصولنا التطورية، وكيفية ارتباط البشر المعاصرين بالقدامى، ففي عام 1987، نُشرت دراسة في دورية "نيتشر" (Nature)، أجراها ويلسون وشركاه، خلالها حللوا الحمض النووي المُتَقَدِّرِيّ أو الحمض النووي للميتوكوندريا (mtDNA)، وهو الحمض النووي الموجود داخل الميتوكوندريا والتي تُعد مصدر الطاقة الرئيسي في الخلية. شارك في الدراسة 147 متطوعًا من 5 أماكن جغرافية، منهم أفارقة وغير أفارقة.
بعد ذلك رسموا خريطة لوصف ما توصلوا إليه، وخلصوا إلى أنّ كل هذه الميتوكوندريا، يعود أصلها إلى امرأة واحدة عاشت قبل 200 ألف سنة، ربما في أفريقيا. علمًا بأنّ الميتوكوندريا تُوّرث من الأم، ما جعل هذه النتائج غير نهائية، بالإضافة إلى قصر طول هذا الحمض النووي للمتيوكوندريا الذي يضم فقط 16500 زوج من القواعد، بينما يضم الجينوم البشري ما يزيد عن 3 مليار زوج من القواعد. (وللتبسيط لو افترضنا أنّ هذا الجينوم يُقدر بطول 1.65 متر، سيكون طول الجينوم البشري 300 كيلو متر. فرق كبير، أليس كذلك؟)، مع ذلك، استهدف بابو الـ mtDNA في أبحاثه؛ لأنه أكثر توفرًا.
وعندما وصل بابو إلى المختبر، كان من حسن حظه أنّ عالم الكيمياء الشهير "كاري موليس" قد ابتكر جهاز "تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) في منتصف الثمانينيات. بالمناسبة، بسبب هذا الجهاز، حصل موليس على نوبل في الكيمياء عام 1993، وفي 1988، كان ويلسون وبابو أول من طبق الـ PCR على بقايا قديمة.
(للتوضيح: جهاز PCR، يعمل على استنساخ جزيئات الحمض النووي (DNA)، ما يمكننا من الحصول على نسخ كبيرة من تسلسلات الحمض النووي عند توفر عينة بسيطة)
مشروع الجينوم البشري
في أكتوبر / تشرين الأول عام 1990، انطلق مشروع الجينوم البشري، وهو أحد أهم وأعظم الإنجازات العلمية، الذي هدف إلى إنشاء خريطة للجينات من مجموعات سكانية متنوعة حول العالم، لفهم مدى ارتباط البشر جينيًا ببعضهم، كما يعزز فهمنا لماضينا التطوري، وانتهى المشروع في أبريل / نيسان عام 2003. لكن كانت هناك علامات استفهام كثيرة تواجه بابو، الذي أراد رسم خريطة لجينوم إنسان النياندرتال المنقرض منذ عشرات الآلاف من السنين. وعلى الرغم من كونه مشروعًا عظيمًا إلا أنه يحمل العديد من التحديات.
تحديات حُلت بذكاء وجهد
هناك العديد من التحديات التي واجهت بابو، وأبرزها:
- مواجهة التلوث: إنها عينات محفوظة منذ آلاف السنين وربما ملايين السنين، فأغلب الظن أن طالها تلوث سواء من الميكروبات أو الأيادي البشرية التي تداولتها إلى أن وصلت إلى يد بابو، فما كان منه إلا أن اتخذ إجراءات صارمة، تقتضي حفظ العينات في غرف نظيفة مخصصة، والتعامل مع العينات بحرص شديد.
- التحورات: وهي شبيهة بالتفاعلات، إذا تركت الحديد معرضًا للهواء لفترة زمنية محددة، سيتغير لونه ويصدأ، أليس كذلك؟ نفس الأمر مع عينات الحمض النووي التي يتحوّر تركيبها الكيميائي بمرور الوقت.
- الحصول على عينات: تتحلل العينات عمومًا بمرور الزمن، لكن من حُسن الحظ أنّ التربة التي حُفظت فيها هذه عينات بابو كانت حرارتها وظروفها ملائمة لحفظها لفترات طويلة، لكنها في أماكن محددة حول العالم.
في محاولة لتتبع جينات النياندرتال
حسنًا، وهنا يأتي دور استخدام جهاز PCR، الذي يعمل على نسخ الحمض النووي، نسخ بابو للـ mtDNA للإنسان، وآخر للـ mtDNA للنياندرتال، ولاحظ الاختلافات بينهما.
أُعيدت التجربة على عينات أخرى قديمة، وكانت نفس النتيجة. وأرسل عينة لتكرارها في مختبر علم الوراثة الأنثروبيولوجي مع "مارك ستونكينغ"، في ولاية بنسلفانيا.
بعد ذلك، ركز بابو على استكمال الاستنساخ لبناء تسلسل أطول من الـ mtDNA إلى أن وصل التسلسل إلى 379 نيوكليوتيدة. وخلص إلى أنّ السلف الذي يحمل هذا الـ mtDNA، عاش على الأرض منذ 120 إلى 150 ألف سنة.
وقُدر الوقت المنقضي على وجود سلف مشترك للإنسان الحديث والنياندرتال يتراوح بين 550 إلى 690 ألف سنة. لكن المشكلة إنّ الـ mtDNA، يُورث من الأم، ما يجعل فرصتنا لمعرفة تاريخنا التطوري محدودة.
نحو جينوم النياندرتال
أثبت تسلسل الـ mtDNA لإنسان النياندرتال أنه من الممكن إجراء تسلسل للحمض النووي لعينات من العظام عمرها 40 ألف عام من أقرب أقربائنا المنقرضين مؤخرًا، ما جعل بابو في حاجة لمزيد من العظام للفحص. وحصل على 15 عينة لعظام النياندرتال من كهوف منطقة فينديجا "Vindija" في كرواتيا، والتي تشتهر بكونها مخزن رائع لعظام النياندرتال، كيف لا وبيئتها تستطيع الحفاظ على الحمض النووي للإنسان. بعد حصوله على العينات، راح بابو لفحصها ووجد 7 عينات يمكن تحليل حمضها النووي بفعّالية، وتوّصل إلى عينة مفيدة يعود تاريخها إلى 42 ألف سنة مضت.
باستخدام تقنيات حديثة، استطاع بابو تطوير أدواته إلى أن تمكن من إنتاج أول مليون نيوكليوتيد لإنسان النياندرتال ونشرها في عام 2006. وأعلن عن نيته لإنشاء أول نسخة جينوم من الإنسان البدائي في غضون عامين.
احتاج بابو إلى المزيد من عظام كهف فيندنجا وحصل على 3 عينات، يبلغ عمرها 40 ألف عام، كانت تحتوي على ما يزيد عن 1% من الحمض النووي لإنسان نياندرتال، كما حصل على بعض المواد من كهف "مزمايسكايا" (Mezmaiskaya) في القوقاز وكهف "سيدرون" (Sidrón) في إسبانيا. ونجح الفريق في زيادة إنتاجية الحمض النووي، وفي 2008، طوروا أدواتهم أكثر فأكثر إلى أن حصلوا على مليار زوج من نيوكليوتيدات الحمض النووي.
عام 2010، أعلن بابو عن أنه في صدد اكتشاف تسلسل جينوم إنسان النياندرتال. وقدروا متوسط التباعد بين تسلسل الحمض النووي البشري وإنسان النياندرتال بنحو 825 ألف سنة. ومع إجراء بعض التحليلات لمعرفة مدى ارتباط إنسان النياندرتال بالبشر المعاصرين، استخدم بابو عينات من أوروبا وشرق آسيا وغرب أفريقيا، ووجد أنّ إنسان النياندرتال كان أقرب إلى البشر من أوروبا وشرق آسيا أكثر من إفريقيا، وهناك ما يترواح بين 1 إلى 4% من جينومات البشر في أوراسيا، وهي تضم أوروبا وآسيا. وأثناء عمل بابو على النياندرتال، توّصل إلى اكتشاف آخر.
دينيسوفان: هل تساءلت من قبل، لماذا يتحمل شعب التبت ظروف المرتفعات؟
من المعلوم أنه كلما ارتفع الإنسان عن سطح الأرض، ازدادت البرودة، وقلت نسبة الأكسجين، وهذا لا يتحمله الإنسان العادي؛ حتى متسلقي الجبال، عليهم أخذ أدوات تحميهم من هذه الظروف، لكن الأغرب أنّ سكان التبت، وهي هضبة في آسيا الوسطى، يعيشون في ظروف منخفضة الأكسجين، فما الذي يميزهم يا تُرى؟
حسنًا، ببساطة، هناك جين اسمه EPAS1، وهو ينظم استجابة الجسم لمستويات الأكسجين المنخضة، يتمتع به سكان التبت هؤلاء، لكن لماذا هم تحديدًا؟ لماذا هذا الجين ليس لدي كشخص وُلد في مصر التي تقع في قارة إفريقيا؟
تأتي الإجابة من بابو بعدما تم اكتشاف عظام في كهف دينيسوفا في جبال ألتاي بروسيا، في طبقة تعود إلى ما بين 48 إلى 30 ألف سنة مضت، وعندما حللها توصل إلى أنّ هذا النوع كان نوعًا فريدًا من أشباه البشر، وأُطلق عليه "دينيسوفا".
وقدروا تاريخ أحدث سلف مشترك للـ mtDNA بين مشترك بين إنسان دينيسوفا وإنسان نياندرتال والإنسان الحديث منذ ما يقرب من مليون سنة. وبذلك اكتشف بون نوع جديد فريد من أشباه البشر. واتضح أنّ تسلسل الحمض النووي بين النياندرتال ودينيسوفا متباعد منذ 650 ألف عام، وعن الأفارقة منذ 804 ألف عام.
وأخيرًا، استطاع بابو من خلال عمله هذا تعزيز فهمنا للماضي التطوري للبشر، ما يفتح آفاق واسعة في الطب، ويعيننا على فهم حاضرنا ومواجهة المستقبل، بالإضافة إلى كشف الستار عن نوع جديد من أشباه البشر، لم يكن معروفًا من قبل.
اقرأ أيضًا: لماذا تذهب جائزة نوبل للمسنين؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.