رواية ألف وعام من الحنين: شخص واحد في مكان واحد يبحث عن فكرة واحدة!
عملتُ على قدرِ عظمةِ رواية ألف وعام من الحنين للكاتب والروائي الجزائريّ “رشيد بوجدرة”، على تجميع كل ما استخرجته من أفكار وشخصيات وتلميحات في ثلاث قوالب: (شخص واحد في مكان واحد يبحث عن فكرة واحدة). ولكن قبل ذلك، من يكون رشيد بوجدرة؟
ألف وعام من الحنين للكاتب رشيد بوجدرة
رشيد بوجدرة أديب وروائي جزائريّ، من مواليد 1941م بمدينة عين البيضاء، الجزائر. تلقَّى تعليمه الابتدائي بمدينة قسنطينة وأكمل تعليمه بمدرسة الصادِقية بتونس، حصل على شهادة اللّيسانس في الرياضيات بجامعة الجزائر، وشهادة اللّيسانس في الفلسفة بجامعة السورْبون، اشتَغل بمهنة التعليم وتقلّد عدّة مناصب أهمّها: مُستشار لوزارة التعليم والثقافة سنة 1977م، أمين عام لرابطة حقوق الانسان، وانتُخب لمدة ثلاث سنوات كأمين عام لاتحاد الكُتّاب الجزائريين سنة 1987م.
له أكثر من 30 عملاً أدبياً، موزّعة بين الرواية والشعر والدراسات النّقدية والمسرح وكتابة السيناريوهات، ومن أهم منتجاته السينمائية فيلم “وقائع سنوات الجمر” من إخراج محمد الأخضر حمينة، والحائز على جائزة السّعفة الذّهبية بمهرجان كَان عام 1975م.
لأوّل وهلة عند اقتنائِك للرّواية، ولم تَنتبه للمترجِم كما حدث معي، فَسَيُخيّل إليك أنها كُتبت باللّغة العربية، وذلك نظراً لعبقريّة المترجِم مرزاق بقْطاشْ في نقل الرُّوح الأدبية، التي كانت تَدُبُّ في ريشة بوجدرة أثناء كتابته للرواية، وقد صنّفها اتّحاد الكُتّاب العرب ضِمن أفضل 100 رواية عربية في تاريخ الأدب العربي، رغم أنها كُتبت بالفرنسية.
نرشح لك قراءة: أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين
مدخل إلى رواية ألف وعام من الحنين
يموت الإنسان فيُقام عليه الحِداد بكلّ طُقوسه، بعد أن عاش ما شاء اللهُ له من السّنوات المعدوداتْ، وتُحيى ذكرى وفاته بصفة دَورية، تمتدّ من ثلاثْ أيام إلى أسبوع إلى 40 يوماً إلى أن تُصبح كلَّ عامٍ فقط وإلى أن تُنسى بعد مُضِيّ جيلٍ أو جيلَين وهذا بالنّسبة للفرد الواحد، أمّا بالنّسبة لحضارةٍ دامتْ أكثر من عشرِ قرون فلا ينبغي أن نمرّ على سقوطها مرور الكِرام، وإذا كانت الحضارة في تعريفها هي مَجموع الجُهود البشريّة المبذُولة في سبيل خِدمة الإنسانيّة، فأُكرّر بأنّ سقوط حضارة كالحضارة الإسلامية لا يجدُر بنا أن نمرّ عليه مُرور الكِرام.
رواية ألف وعام من الحنين هي بمثابة محطّة أو وقْفة تأمُّلية بتحسُّر، على ما آلَ إليه التاريخ العربيّ عموماً، والتاريخ الإسلاميّ خصوصاً، عن طريق عَرْضِ التّاريخ بين ماضِيه والحاضِر المُعاش، والتّذكير بأهمية تجديد مَجد الحضارة الإسلامية، مُستخدماً رشيد بوجدرة ذلك الارتباط الأصيل بين الواقع والخيال الذي يصُدّك عن محاولة الفصل بينهما، ويدفعُك إلى البحث عن الغاية من وراء ذلك التّرابط، وكَذا البحث عن المعرفة الحقيقية وخاصةً… الذّاكرة السياسية.
أهلُ المَنَامَة يسهُل عليهم كلّ شيْء، يسهُل عليهم تربية دود القزّ تحت جَلابيب نِسائهم، أو تنظيم مُسابقات صِراع الأكباش المحلّية والمُستورَدة من أستراليا، أو تربية الطيور والسلاحف من أجل سباق المئة متر! وكذا ترويض حيوانات الكَنْغورو! يسهُل عليهم تفكيك الواقع ولَعِب كرة القدم، أو الاهتمام بخَوارق محمد عديم اللقب (الشخصية الرئيسية في الرواية) إلّا أمراً واحداً فقط يعجزون عن القيام به… وهو قراءة مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع!
نشأ محمد عديم اللقب في عائلة تتميز بالخوارق ببَلْدة المَنَامَة، شعبُها يحكمُه دِكتاتور اسمه “بندرشاه”، والغريب في الأمر أن الشعب من جنس اسم البلد، فالمنامة هي ما يلبسه المرءُ عند النوم وأهل المنامة خُبراء في الكسل ويَحيَون حياةً أشبه بحياة ما قبل الانتحار، رغم كل ما يقدِرون على القيام به في سبيل شَهَواتِهم، تُدِير أُمّه مسعودة حديقةً لها بالبيت تُعتبر مصدر أمْنها الغِذائيّ الوحيد، وتعتني بها بِطُرق عجيبة كسقيها بدِماء طَمثِ بَناتها، بعد أن مات عنها زوجُها الذي كان يُوفّر لها شيئاً من المال، مات بعد أن سقطت عليه حُزمة من الورق في معملٍ لصناعة هذا الأخير.
لدى مسعودة تِسعُ توائم يولدون مثنى مثنى من جنسين مُختلفين كلّ ستة أشهر، إلّا محمد وُلد وحيداً وهو المُميّز من بين إخوته الثّماني عشرْ وهو أكبرهم، تَمَلَّكَهُ منذ أن كان شابّاً هاجسُ الهويّة، فغَاضَه أن يكون بلا لقب وألقى الّلوم كلّه على جدّه “بونفوس” المَصابيحي، وظلّ يبحث في كتب التاريخ عن أصول عائلته، وغاضه أن ابن خلدون لم يُخصص لهلاك عائلته إلا خمسة أسطرٍ في مقدمته الشهيرة.
أسماءٌ وأحداثْ:
العجيب في رواية ألف وعام من الحنين هو قدرة بوجدرة على إخفاء مقاصد كُبرى خَلفَ مُجرياتٍ صُغرى، كصِناعة الأكْفان وظهور حلويّات الكرواسان هلاليّة الشكل كرمزٍ للانتقام وإصدار الحاكم أمراً بمنع المشروبات الكُحولية!
مثلاً، قد يَعمدُ إلى وصفِ المُعتصم بمُثبّطْ ثورة الزُّنوجْ، أو وصف مُعاوية بن أبي سفيان بجلّاد الأُدباء، أو بأنّ القرامطة هم من اخترعوا القنابل اليدوية في حين كانوا يستعملون الحمام الزّاجل في مُراسلاتهم! أو يذكر جابر بن حيان بأنه مخترع الحِبر السائل، أو وُقوف الفرزدق حائلاً بين الآباء ووأْد البنات وهم أحياءْ، وغير ذلك من المعلومات التي هي أبعد مِن أن تَطْرَأَ على ذِهن أحدِنا.
فلِلوهلةِ الأولى تَشعر برغبةٍ عارمة في الرّد عليه، أو التأكّد من صحّة ما يقول، لكنّك تصطدم بسُور الجهل، فمعلومة طائشة من هنا، وفيديو عابر من هناك، ونص تاريخي تقرأه كما تقرأ الجريدة، أو حتى الفوضى العارمة في تدفق منشورات مواقع التواصل الاجتماعي، لن يُمكّنوك من إِحْقاق الحقّ وإبطال الباطل، وسأُخبركم في نهاية المقال عن أهمّ ما قاله ابن خلدون في صفة المؤرخ.
الألم المُصاحب للتأمّلات كانت من نصيب محمد عديم اللقب فقط، أما أهل المنامة فيُفضّلون العَيش في الخيال، كُلما دفعهم محمد إلى ملامسة الحقيقة يُعرضون عنه وينشغلون بوصفه بالخارق، لأنه يمنع ظِّله من السَّير وراءه (يكفي أن تجعل الشمس خلفك ليُصبح ظلك أمامك) ويصفونه بقاطع ضَحِكات الأطفال، وقوقأة الدجاج وجَعْجَعة الرّحى على بُعد 166 متراً (وهو أمر بديهيّ فعلي ذلك البعد لن تتمكن من سماع تلك الأصوات) ولا يُلقون بالاً لشَغف نسائهم به، والأمر اللّافت للنّظر هو تِكرار بوجدرة للرّقم 166 إشارة منه إلى مولد الجاحظ (الذي اختُلف في يوم ميلاده طبعاً) سنة 166هـ، وأهميةِ ومكانةِ هذا الجاحظ علمياً وتاريخياً.
أمّا أهل المنامة فهاجِسهم الكبير هو قَرار الحاكم بمنع المشروبات الكُحوليّة، وقد استطاعوا بحِنكتهم أن يُحوّلوا سيّارة إسعاف إلى خمّارة متنقلة يَخدعون بها الحاكم وخدَمه، أو بمنع عَقد الزوّاج بين الشّواذ فيُصدر إمام البلدة فتوى بجواز ذلك النوع من الارتباط، فطالما أن هناك عَقْد زواج فلا يُهمّنا أيُبرم بين رجل ورجل أو بين امرأة ودودة قز!
اقتباساتٌ وتلميحاتْ:
“اُنظر الى ما يصنعون. ولا يذهب بك الظنّ أن الجواد أنبَل من هذه القَاطِرة”.
كلّما اخترع الرّجل الغربيّ شيئاً يَنفعُ به الإنسانية أو اكتشف اكتشافاً علميّاً، جاءه الرّجل الشّرقي مُتبختراً بمقولته الشّهيرة: “لقد ذُكر هذا الأمر في القرآن منذ 14 قرناً، لا حاجة لنا في الاختراع!” والبقيّة واضحة…
“السّيطرة على الشعوب كانت دائماً مرهونة بطُرق المُواصلات”.
لا قيمة للمُواصلات في بلْدةٍ مثل المنامة، أهلها لم يرَوا إلّا سيارة الإسعاف وسيارة الحاكم الرولس رويز، فما يَصِلك من طريق سهل مهما كان كثيراً أو قليلاً، كبيراً أو صغيراً، تأكّد بأنه محاولة لجذبك إلى ما لم تختره أنت بإرادتك، وكل ما تحصل عليه بالمجّان فتأكّد بأنّك الثّمنْ، وإلا فما الذي يدفع بأهل المنامة إلى الانجرار خلف كل مقام ومقال، ولا يجرأ أحدهم على الصراخ عالياً: “أوقفوا هذا الهراء! ما نحن فاعلون! وإلى أين نحن ذاهبون!”، لا شكّ بأنها الدّعَةُ والهوانْ…
“إنّه يحنّ إلى بؤسه الأصليّ الآن، لأنّه لم يعد يعرفْ ما الّذي يفعله بأمواله… هذا أمرٌ طبيعيّ، ليس من السّهل القضاء على رواسب الفقر”.
من قال بأنّ المال يُغيّر الإنسان! كلّما ازداد المرءُ قوةً من الخارج افتُضِح أكثر من الداخل، فها هو الملك “بندرشاه” يزُيّن قصره بحوض مائيّ ضخم يملأه بأسماك السّردين، وقد تذكّرت مسعودة بأنه كان يدفع عربةً لبيع الأسماك مع والده وهو صغير مُعدَم، فقالت ما قالت…
“لم يكن يُريد تقْرِيظ الملوك. ولعلّك تعلم أن التّاريخ يُبرهن على ذلك، ففي فترات الانحطاط يزدهر فنّ المديح”.
كلام واقعيّ لدرجة رهيبة، وهو تفسير دقيق لقول الشاعر:
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
فما أكثر في هذا الزمان من يتغنّون بأفاضل الأوائل والسّابقين والأجداد، مُكتفين بذلك الاعتزاز الفارغ، غيرَ مُبالين بذِكراهم التي تمتدّ بعد مماتهم إلى الأبد، وغير مُبالين حتى بإصلاح واقعهم، كأهل المنامة مثلاً!
نرشح لك قراءة: حقائق مُدهشة لا يعرفها الكثيرون عن الجزائر!
شعور آخر:
في داخل كلٍّ منّا يوجد محمد عديمُ لَقب يبحث عن معنى ولقب، عن تاريخ أو حسب أو نسب، عن حقيقة ما، بوصلة ما، تقوده إلى وجهة ما، خاصة في هذا الزمان الأغبر الذي اختلط فيه الرّامي بالرّميّة، ولا سبيل إلى استرجاع الهويّة (لمن أراد ذلك) أو استرجاع الكينونة أو على الأقل الثبات على الأرض، إلا بالعودة إلى الكُتب، خاصةً كتب التاريخ وقرائتها بكلّ صبرٍ وتأنٍّ وموضوعية، فلا نكتفي بالجانب الإيجابيّ لحضارة ما ونهمل جانبها السلبيّ، فنحن هنا نقرأ التّاريخ فقط لنستفيد وليس لنقول فلان إلى الجنة وفلان إلى النار! ونتذكّر بأنّ من لم يكتُب تاريخه بنفسه فسيتكفّل قومٌ آخرون بكتابته، تماماً كما حدث في بلدة المنامة عندما حاول أجانب أن يُجسّدوا فيلم ألف ليلة وليلة، أدعكم تكتشفونها بأنفسكم.
ومن الصّعب جداً أن يُركّز الإنسان كل طاقته على أمر واحد فقط، فها هي الرواية ما إن تَأْخُذْكَ إلى مَجرياتٍ صُغرى حتّى تُنسيك الكبيرة منها، والعكس كذلك، فالوَقفة التّأمّليّة التي يدْعونا إليها رشيد بوجدرة في روايته ليست بالأمر الهيّن، وليست بالأمر المستحيل أيضاً، فالمسألة مسألة وقت وحرب يشنّها المرء على تناقضاته.
ولا يَسَعُني أن أختم هذا المقال إلا بمقولة لابن خلدون جاء فيها أمر هام ما أحوجنا إليه:
“فإن النّفس إذا كانت في حالة الاعتدال في قَبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنّظر، حتى تتبين صِدقه من كَذِبه”.
ملاحظة: لا تحرموا أنفسكم من كتابات رشيد بوجدرة الفذّة بدعوى أنّه شيوعيّ، أو ماركسيّ، أو مُلحد، أو مُسلم…
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.