Oppenheimer.. لغز “ذرة” نولان التي أبكت العالم الأمريكي وأثقلت التاريخ بذنبه!
19 د
تروي الأساطير اليونانية التي كانت البداية الحقيقية للحضارة الإنسانية قصة بروميثيوس العملاق الذي سرق النار من آلهة الأوليمب وقدمها للبشر، لقد دفع بروميثيوس ثمن نيران المعرفة هذه غالياً جداً إذ عاقبه زيوس وعلقه بين جبلين وسلّط عليه رخاً يلتهم كبده، وكي يطول عذابه الأبدي كان كبده ينمو كل يوم فقط كي يأكله الرخ.
لقد كانت الأساطير اليونانية الأساس الذي بنُيت عليه الحضارة الغربية، إن روعتها لا تكمن في متانتها أو خلودها أو حتى متعتها بل في تلك الرمزية الرائعة التي تتوارى خلفها والتي جعلتها خالدة إلى آخر الزمان.
في أسطورة بروميثيوس، لم تكن النيران سوى رمز للمعرفة تلك المعرفة التي أساء بنو البشر استخدامها منذ خلقهم، لو كان بروميثيوس شخصاً حقيقياً لمات كمداً عند رؤيته ما الذي صنعه البشر بالنيران التي ضحى بنفسه كي يعطيها لهم.
ربما كان بروميثيوس الأول لكنه لم ولن يكون الأخير، عبر التاريخ كان هناك كثير من بروميثيوس رجال ونساء فنوا أعمارهم لتقديم اختراع يفيد في تقدم البشرية، ويحفر اسمهم في أعماق التاريخ، فانتهى بهم الأمر إلى أن يصبحوا مع مخترعاتهم مجرد أدوات حربية أو سياسية.
مثل ألفريد نوبل العالم السويدي الذي ارتبط اسمه بالبارود والديناميت أو كلاشينكوف الذي اشتهر اسمه كأشهر سلاح قتل في العالم وطبعاً العالم الأمريكي العبقري جاي روبرت أوبنهايمر، الرجل الذي خلّده التاريخ كأبو القنبلة الذرية، ذلك الاختراع المميت الذي نسف مدينتي هيروشيما ونغازاكي عن بكرة أبيهما.
لربما يكون أوبنهايمر أكثر عالم تعرض للظلم وسوء الفهم، لقد أراد هذا الرجل اختراع القنبلة خوفاً من توصل الألمان إليها قبله مما كان سيقلب موازين العالم تماماً، مات أوبنهايمر نادماً مُحتقراً منبوذاً، والآن وبعد عقود من وفاته أعاده المخرج الأسطوري كريستوفر نولان للحياة بفيلم من بطولة الرائع كيليان ميرفي، والذي كان الفيلم الأكثر انتظاراً هذا العام وحمل توقعات وآمالاً خرافية.
ويسعدنا في "أراجيك فن" تقديم مراجعة مميزة شاملة لفيلم أسطوري مميز، يحكي سيرة حياة رجل مميز، إنه فيلم Oppenheimer الذي حطم الأرقام القياسية في إيرادات صالات السينما التي شهدت ازدحاماً لم تشهده منذ أعوام، لقد جاء فيلم أوبنهايمر ليغير تاريخ السينما كما فعل الرجل الذي حمل اسمه عندما غير تاريخ العالم بأكمله.
Oppenheimer
“أوبنهايمر” هو فيلم سيرة ذاتية ودراما تاريخية يأخذنا في رحلة إلى حياة جي. روبرت أوبنهايمر، العالم الأمريكي الذي قاد مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية. الفيلم يعرض التحديات العلمية والأخلاقية التي واجهها أوبنهايمر وفريقه، مسلطًا الضوء على الصراعات الداخلية والخارجية التي رافقت هذا المشروع الضخم. من خلال سرد متقن وأداء مميز، نشهد كيف أن قرارات أوبنهايمر لم تؤثر فقط على مسار الحرب، بل شكلت مستقبل العالم بأسره. هنا في أراجيك، نرى أن الفيلم يقدم نظرة عميقة ومعقدة على شخصية أوبنهايمر، مما يجعله عملًا سينمائيًا يستحق المشاهدة والتأمل.
عرض المزيد
إنتاج:
2023
إخراج:
كريستوفر نولان
بطولة:
حكاية بروميثيوس الأمريكي الرجل الذي غيّر التاريخ
يحكي الفيلم قصة جوليوس روبرت أوبنهايمر العالم الفذّ الذي ينسب إليه اختراع القنبلة الذرية، يتناول الفيلم حياة أوبنهايمر عبر ثلاث مراحل حياتية، قبل اختراع القنبلة وفترة اختراعها والفترة الزمنية التي تلي تفجير القنبلة فوق اليابان.
وبما أننا نتحدث عن فيلم من إخراج وتأليف كريستوفر نولان، فيمكنك توقع السرد الغير خطي دون أدنى شك، يعني السرد الغير خطي أو المتقطع أن القصة تدور بشكل معقد لا يعرف بداية ولا نهاية تقاطع فيه الأحداث باستمرار مع الأحلام والذكريات والهلاوس.
إنه أسلوب نولان المفضل والذي ميّزه عن أي مخرج آخر في عصره، لقد قدّم نولان سرداً معقداً متشابكاً لقصة أوبنهايمر، القصة ليست بداية وسطاً ونهاية بل هي مزيج مربك من الأحلام والخيال، الواقع والحقيقة، الماضي والحاضر والمستقبل، لكن البطل الحقيقي الدائم كان وجه أوبنهايمر المعذّب.
إن السرد معقد، يسير في دوائر ويقفز ذهاباً وإياباً، ويمكن أن يشعرك بقليل من الدوار في الحقيقة، خاصة أن هناك الكثير من المحطات الزمنية التي سيتوجب عليك أن تبحث عنها بنفسك هذا ليس فيلماً وثائقياً، إنه تحفة نفسية سردية.
تتعقب القصة أوبنهايمر عَبر عقود بدءاً من عشرينيات القرن الماضي كشخص بالغ، ويستمر حتى أصبح شعره رمادياً.
يتطرق الفيلم كذلك إلى حياته الشخصية والمهنية، بما في ذلك عمله في القنبلة وحياته الشخصية كرجل طائش خائن لزوجته، وخلافه مع ستراوس والصراع النفسي العاطفي الذي عانى منه، لقد رصد الفيلم أهم محطات حياة أوبنهايمر وقدمها عبر جدولين زمنيين.
لا تستغرب فنحن نتحدث عن سيد التلاعب بالزمن كريستوفر نولان، لقد تناوبت الأحداث يين مشاهد ملونة وأخرى كانت بالأبيض والأسود، اللون لا يمثل الماضي والحاضر لو توقعت ذلك، إنه يمثل وجهة النظر التي تروي الأحداث التي انقسمت قسمين، الأول حمل اسم الانشطار وتم تصويره بالألوان وهو تمثيل لنظرة أوبنهايمر الكاميرا لا تترك جانبه أبداً وكل التركيز كان عليه مما يشعرك بالحميمة معه.
أمًا المنظور الثاني فقد حمل اسم الانصهار، إنه أكثر استقامة في السرد وقد تم تصويره بالأبيض والأسود، ويتبع لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية وخصم أوبنهايمر، يتداخل المنظوران معاً وتنتقل الأحداث بينهما بشكل مستمر، يصعب حقاً حكاية قصة الفيلم إنه مزيج رائع -رغم تشوشه- من التاريخ والدراما والسياسة والكثير من الصراعات النفسية والحوارات الخيالية.
القصة لا تتطور تدريجياً، إذ أن نولان يرمي بك فجأة في دوامة حياة أوبنهايمر بمشاهد حية له خلال فترات مختلفة، في تعاقب سريع لا تكاد تستطيع التقاط أنفاسك معه، يمكن تشبيه الأحداث بالدومينو كل قرار اتُخذ أدى إلى سلسلة طويلة من الأحداث الأخرى، حتى أنك لا تعرف معها كيف بدأ الأمر بالضبط.
لو كنت تتوقع فيلماً عن القنبلة الذرية ومشاهد حربية وتفجيرات وشرحاً مفصلاً يبرر إلقاء القنبلة، فأنت ستدخل الفيلم الخطأ، هذا الفيلم لا يهتم بالقنبلة بقدر ما يهتم بأبيها الروحي.
نرشح لك: حفيد أوبنهايمر يؤكد عبقرية “نولان” بالفيلم التاريخي وينتقد هذا المشهد: “تمنيت حذفه”
لقد قدم الفيلم في أكثر من ثلاثة ساعات حكاية الصراع النفسي الذي عاشه روبرت أوبنهايمر والذنب الذي تآكله بعدما رأى ما فعله اختراعه، والهواجس التي عاشها طويلاً وطرح سؤالاً وجودياً لا يزال دون إجابة حتى يومنا هذا، هل كان إلقاء القنبلة ضرورياً حقا؟ لكنه كأي فيلم عظيم لا يقدم الإجابة، الإجابة عندك أنت.
تناوب الفيلم في أحداثه بين شباب أوبنهايمر ومراحل صناعة القنبلة وانفجارها والمرحلة الأهم محاكمة أوبنهايمر التي تم فيها سحب ترخيصه الأمني وتخوينه.
إنها حكاية بروميثيوس الذي ضحى بنفسه كي يهدي البشرية نيران الآلهة فأخذوها كي يحيلوا الأرض جحيماً، أعاد كريستوفر نولان وكيليان ميرفي أوبنهايمر إلى الحياة، وحكيا سيرة حياته المذهلة في فيلم من المرجح أن يترشح إلى الأوسكار عن عدة فئات، إنه فيلم سيصعب حقاً أن يتكرر.
نولان يفعلها مجدداً، كيف يقدّم شخصية أوبنهايمر؟
منذ ظهور أول أفلامه نجح نولان في لفت أنظار أهل الفن السابع والجماهير على حد سواء، لا أحد يحكي القصة مثله لعل أول فيلم كتبه وأخرجه ونجح في لفت الأنظار إليه كان Memento عام 2000، كانت قصة الفيلم مميزة مختلفة غريبة لم تقدم سابقاً، مما جعل الفيلم واحداً من أبرز أفلام ذلك العام.
توالت نجاحات نولان مع أفلام أروع وأفضل لعل أبرزها كان ثلاثية فارس الظلام التي اخترق فيها نولان عالم الأبطال الخارقين وزرع بصمته الفريدة ليقدم أفضل نسخة من باتمان على الإطلاق، لاحقاً قدم نولان تحفته الرائعة Inception الذي ينبغي عليك مشاهدته عدة مرات كي تفهمه ولربما لن تفهمه أبداً، ولا يمكن لنا الحديث عن نولان وأفلامه دون الحديث عن The Prestige و Interstellar الفيلمان اللذان صنعا مجد نولان، وكان لهما الفضل الأكبر في شهرته.
لم تكن كل أفلام نولان من وحي الخيال والزمن والأحلام، إذ أنه قدم عام 2017 فيلمه الحربي الأول Dunkirk الذي تدور أحداثه في فترة الحرب العالمية الثانية، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية لكن نولان قدمها بطريقة أسطورية جعلت الفيلم واحداً من أفضل الأفلام الحربية.
لقد حمل أوبنهايمر آمالاً واسعة، خاصة أن آخر ما قدمه نولان لم يرقَ إلى مستوى التوقعات، أما أوبنهايمر فحسناً، إنه شيء آخر.
نرشح لك: بعد تعاونهما في Oppenheimer.. روبرت داوني جونيور يمازح كريستوفر نولان على طريقة صناعته للأفلام!
لقد قدم نولان نظرة انطباعية عميقة عن أوبنهايمر، هذا ليس فيلم سيرة ذاتية عادي، إنه حكاية متشعبة مربكة مؤلمة لحكاية هذا الرجل، في الواقع عامل الجذب الرئيسي في الفيلم ليس القصة في حد ذاتها ولكن كيف يرويها المخرج وبأي شكل سيقدمها، لطالما تم الاستهزاء بنولان باعتباره رجل استعراض يقدم قصصاً مربكة غريبة مشوشة كي يستعرض عضلاته الأدبية، وحتى لو كان هذا الأمر صحيحاً، لقد استطاع نولان تقديم القصة الأكثر إمتاعاً وإتقاناً وتركيزاً في فيلم سيرة ذاتية، منذ الفيلم الأسطوري Amadeus.
يمكن لنا أن نقول أن ثقل اهتمامات ومعاني الفيلم تحمله الوجوه، الكاميرا لا تفارق وجه كيليان ميرفي، وعيناه الزرقاوان الجليديتان تحكيان الكثير، الأمر لا يتعلق فقط بأوبنهايمر، لقد تابع الفيلم شخصيات أخرى صنعت أكبر أثر في حياة العالم العبقري مثل الجنرال ليزلي غروفز، الذي كان المشرف العسكري للوس ألاموس، المكان الذي شهد التجربة الأولى والذي كان الشخص الذي تواصل مع أوبنهايمر كي ينضم إلى المشروع الذي حمل اسم مشروع مانهاتن لاحقاً.
لم ينسَ نولان تقديم النساء في حياة أوبنهايمر، زوجته كيتي الذكية المعذبة بسبب طيش زوجها وعشيقته جان تاتلوك التي دمرت علاقته بها حياته، لكن الشخصية الأبرز التي جسدت نقيض أوبنهايمر ووجهة النظر الثانية في الأحداث كانت شخصية لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية الذي احتقر أوبنهايمر لأسباب عديدة.
والذي قضى عدة سنوات في محاولة لإفشال مسيرة أوبنهايمر بعد لوس ألاموس ستراوس هو ساليري بالنسبة لموزارت في حياة أوبنهايمر ويذكر الآخرين بانتظام وبشكل مثير للشفقة أنه درس الفيزياء أيضاً في ذلك الوقت وأنه شخص جيد على عكس أوبنهايمر الزاني والمتعاطف مع الشيوعية الذي ينبغي أن يحاكم على تعاطفه الشنيع هذا.
إن كريستوفر نولان هو وبحق مخرج استثنائي استطاع في فترة قصيرة إثبات نفسه كواحد من عمالقة الإخراج، ومن أفضل منه كي يحكي قصة رجل استثنائي آخر كروبرت أوبنهايمر، لم ينظر نولان إلى أوبنهايمر كعالم بل نظر إليه كإنسان مشوش طائش متعجرف متعطش للمجد.
لا أحد يعرف تماماً ماذا حدث في ذلك الزمن هناك كثير من الأسرار السياسية التي لا يسمح لها بالخروج إلى العلن، لكن نولان استطاع إضفاء الطابع الدرامي على حياة أوبنهايمر وغيره من الأشخاص المهمين تاريخياً بطريقة جريئة سمحت لهم أن يصبحوا عناصر أساسية تدور حول اللغز الغير قابل للحل، شخصية الإنسان والتأثير غير المتوقع للقرارات التي يتخذها الأفراد والمجتمعات.
لا يتعلق الأمر تماماً بأوبنهايمر على الرغم من أن وجه مورفي المتألم وعيناه الغامضتان تسيطران على الفيلم الأمر يتعلق بتأثير شخصية أوبنهايمر على الأشخاص الآخرين بداية من الأعضاء الآخرين أصحاب الإرادة القوية في فريق تطوير القنبلة الذرية، إلى كيتي الزوجة البائسة التي لا تفهم زوجها.
إضافة إلى عشيقة أوبنهايمر جان تاتلوك شخصيات أساسية وثانوية صاغت حياة ومأساة الرجل الذي تغير التاريخ بسببه، وحتى هاري ترومان الرئيس الأمريكي الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي كان له دور مهم في الأحداث وتم تصويره على حقيقته، رجل سياسي بارد لا يهتم سوى بترسيخ سلطته كأعلى سلطة في البلاد.
لقد كان السبب المعلن حول رغبة أمريكا في امتلاك القنبلة الذرية هو الخوف من امتلاك الألمان لها، إن فكرة حكم هتلر للعالم مرعبة الآن فماذا عن تلك الأيام العصيبة.
لقد كان بإمكان نولان كمخرج إثارة تعاطف المشاهدين مع أي طرف يرغب به، لكن نولان أذكى بكثير من أن يقع في هذا الفخ السياسي المعقد، إذ أنه وببراعة استطاع تقديم لوحة معقدة من الأحداث المؤلمة التي تدور حول شخصية أوبنهايمر الذي تعذبه هواجس من عرف أكثر من اللازم، لقد رأى بعينيه كم الدمار الهائل والموت الذي سببه اختراعه ووقع ضحية الشعور القاسي بالذنب رغم أنه لم يفعل شيئاً كل ما فعله هو تقديم شعلة المعرفة لا أكثر.
لم يكن هذا الفيلم رواية تاريخية بقدر ما هو حكاية إنسانية درامية، لقد تعذب بروميثيوس بسبب الرخ أما رخ أوبنهايمر، فقد كان مئات آلاف الأرواح التي أزهقتها قنبلته.
لم يصنع نولان هذا الفيلم كي يبرر ما فعله الأمريكيون في ذلك الوقت، كتب فرانسوا تروفو ذات مرة أن " أفلام الحرب حتى تلك الداعية إلى السلام، سواء أرادوا ذلك أم لا تمجّد الحرب وتجعلها جذابة بطريقة ما"
لعل هذا يفسر سبب رفض نولان إظهار قصف هيروشيما وناغازاكي، الحدث الذي هزّ العالم وغير موازين القوة بشكل جذري، تلك القنبلة قتلت في النهاية حوالي 200000 روح.
لكنك ترى أوبنهايمر يشاهد أول قنبلة تجريبية، والأهم من ذلك أنك تسمع أيضاً الكلمات الشهيرة التي قيل أنها خطرت في ذهنه بينما ارتفعت سحابة الفطر في السماء: "الآن أصبحت الموت، مدمر العوالم." لقد رأينا في ذلك المشهد الرائع، الإدراك والرعب الذي شعر به أوبنهايمر حينما رأى السلاح الذي صنعه، لم يكن هناك سوى هذا الانفجار، وقد كان أكثر من كاف لإيصال الفكرة التي يرغب بها نولان وطاقمه.
إن نولان لا يكترث بالتبريرات السياسية، كل ما أراده تقديم حياة رجل فريد من نوعه بطريقة فريدة من نوعها.
لربما يكون هذا القول مبكراً لكن أوبنهايمر قد يكون أفضل ما قدمه لنا كريستوفر نولان حتى الآن، ولا شك أنه سيخلد لأعوام قادمة كما خلد الرجل الذي حمل اسمه.
ثنائية كيليان ميرفي وروبرت داوني تفوق الوصف
جسد كيليان ميرفي دور روبرت أوبنهايمر، وقد كان الخيار الأفضل دون أي شك، لقد اشتهر كيليان ميرفي لأعوام بدوره الأيقوني تومي شيلبي في التحفة التلفزيونية Peaky blinders، لم يكن أوبنهايمر التعاون الأول يين ميرفي ونولان لطالما كان كيليان ميرفي واحداً من أبطال نولان لكنه لم يكن أبداً البطل، لطالما كان كيليان متوارياً في الظلال أدوار صغيرة ثانوية أو مساندة، وها قد نال فرصته الأكبر الآن مع أوبنهايمر.
تركز الكاميرا في أغلب الفيلم على وجه كيليان وعينيه خاصة، إن العينين نافذتا الروح وعينا كيليان الزرقاوان الباردتان نافذة واسعة واضحة لأفكاره ومشاعره، إن براعة كيليان ميرفي كممثل تتركز في قدرته على تطويع ملامح وجهه دون مبالغة أو ابتذال، لقد استطاع كيليان تجسيد شخصية روبرت أوبنهايمر بأفضل شكل ممكن.
واستطاع توضيح شخصية أوبنهايمر المضطربة عبر مراحل مختلفة من حياته، وبرع في إظهار الصراع النفسي القاسي الذي خاضه بين رغبته في دخول التاريخ من أوسع أبوابه، وبين القلق من نتائج اختراعه المميت، لقد كانت لحظة استيعاب أوبنهايمر للدمار والموت والرعب الذي حملته قنبلته لحظة تاريخية رائعة جسدها كيليان أفضل تجسيد.
لا يتعلق الأمر باقتباس شخصية أوبنهايمر بل هي قدرة كيليان الرائعة على تحويل روبرت أوبنهايمر من مجرد ذكرى ضبابية مهمشة، إلى رجل من لحم ودم وهي قدرة قلما تتوفر في الممثل.
لا يمكن تخيل أي ممثل آخر لتجسيد أوبنهايمر سوى ميرفي، إنه بحق ممثل رائع نجح تماماً في التخلي عن شخصية تومي شيلبي التي رافقته أعواماً طويلة، ولا ريب أن أوبنهايمر كان نقلة نوعية في مسيرته، لا نبالغ لو قلنا أن أوبنهايمر كان دور العمر لكيليان ميرفي.
نرشح لك: بعد تفوقه في Oppenheimer.. روبرت داوني جونيور وهؤلاء أشرار السينما الذين أحببناهم!
لم يكن ميرفي الوحيد الذي أدى دوره ببراعة منقطعة النظير كما لم يكن أوبنهايمر المؤسس الحقيقي لمشروع مانهاتن إذ أن الرجل الحديدي روبرت داوني جونيور أذهلنا بالفعل بتجسيده دور الجنرال لويس ستراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية والمؤسس الحقيقي لمشروع مانهاتن، إن أصعب الأدوار هي تلك التي ينبغي فيها على الممثل تجسيد أشخاص نافذين حقيقيين وستراوس واحد من أبرز رجال السياسية وأكبر المؤثرين في التاريخ الأميركي.
كان داوني قد عبر سابقاً عن قلقه من تأثر قدراته كممثل بسبب أفلام المنتقمين التي جسد فيها شخصية توني ستارك أيرون مان وسلب قلوبنا فيها، لكن لا داعي للقلق إن روبرت داوني جونيور ممثل من العيار الثقيل وهو ما أثبته عندما أدى شخصية صعبة معقدة أبعد ما تكون عن شخصيته المرحة اللطيفة.
ولا ريب أن دور الجنرال ستراوس كان تحدياً صعباً، الأمر لا يتعلق بالشكل الخارجي فقط بل أداؤه المبهر والأسلوب المتعالي وذلك الحقد الظاهر في كل مشهد، لقد استطاع روبرت داوني جونيور أسر قلوبنا بشخصية كريهة متسلطة لجنرال عسكري دمر حياة العالم الذي رفض تطوير سلاح دمار شامل لقد كانت مشاهده ممتعة آسرة حقاً.
خاصة أنه مثّل النقيض المطلق لأوبنهايمر، في الواقع كان ستراوس من أوائل الذين طالبوا بإسقاط القنبلتين على اليابان ولم يظهر أي ندم خلال حياته على ما اقترفته يداه، ولا يمكننا إغفال مات ديمون فهو وبكل بساطة رائع، لقد أبدع في تجسيد شخصية ليزلي غروفز الرجل العسكري الذي أعجب بأوبنهايمر، وكان أول من طلب إليه الانضمام إلى المشروع، لكن ليس إلى درجة الوقوف في صفه ضد حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي انقلبت عليه لحظة رفض تطوير أسلحة الموت.
أمًا الأدوار النسائية فكعادة نولان كانت محدودة قليلة لكن الأداء الرائع للجميلتين إيميلي بلانت وفلورنس بيو رغم قصره كان مميزاً وملفتاً بحق كان للنساء دور كبير في حياة روبرت أوبنهايمر كإنسان وعالم ولا ريب أن اختيار هاتين الممثلتين الرائعتين كان حقاً في محله.
لا شك أن اختيار نولان لممثليه كان ممتازًا على عدة أصعدة، أهمها القدرة التمثيلية الهائلة التي سمحت لهذا الفيلم أن يكون بهذه الروعة والإبهار.
نرشح لك: بعد Oppenheimer.. كريستوفر نولان يصدم جمهور “باتمان” تجاه مشروعه السينمائي المقبل!
موسيقى خيالية
يؤمن كريستوفر نولان أن التقنيات البصرية الحديثة تخدم رؤيته السينمائية وتساعد المشاهد في الاندماج معه، لقد اشتهر نولان بهوسه هذا منذ بداياته إنه سيد الكاميرا وزوايا التصوير الدقيقة، ولأن أوبنهايمر مشروع عظيم فلا بد من استخدام تقنيات عظيمة لتصويره.
وهو ما حدث بالفعل إذ أن نولان بذل جهوداً جبارة كي يخرج الفيلم بأبهى شكل وأفضل صورة ممكنة حيث استخدم المخرج الأسطوري كاميرا IMAX أي أنها كاميرا تلتقط صوراً فائقة الدقة، لكنه لم يستخدمها لتقديم صورة بانورامية للصحراء فحسب، بل قام باستخدامها وللمرة الأولى في اللقطات القريبة بتقنية طورت خصيصاً لأجل نولان، لقد كان البطل الحقيقي في فيلم أوبنهايمر الوجوه، تلك الوجوه التي رصدتها أكثر الكاميرات دقة، خاصة وجه بطل الفيلم الذي أبدع في كل خلجة من خلجاته كيليان ميرفي.
لجأ نولان إلى تقنية ال 65 مم الأيماكس و 65 مم بانافيجن حتى المشاهد التي كانت بالأسود والأبيض صورت بكاميرا أيماكس بتقنية صنعت لأجل نولان أيضاً ولم يسبق لأحد استخدامها، أما العرض فكان بالـ 70 مم بل أن طول الشريط الخاص بالفيلم بلغ 11 ميلاً وهذه النسخة عرضت في صالات قليلة حول العالم، إذ أنها تحتاج إمكانيات هائلة لا تتوفر في أي مكان.
هذا المزيج من الدقة القوية والمساحة الواسعة يعطي إحساساً غريباً بالواقعية عند المشاهدة من فرط دقته دون أي تزييف، إذ أن نولان أعلن ومنذ بداية مشروعه أن الفيلم سيكون خالياً تماماً من أي مشاهد CGI، التقنية التي اكتسحت هوليوود وأصبحت الأفلام تكاد لا تخلو منها مما يجعل أوبنهايمر تجربة بصرية صافية مختلفة عن المعتاد في هوليوود خاصة بعد فترة الجائحة.
ولو كان نولان معجباً مخلصاً للتقنيات الحديثة، فإنه وفي نفس الوقت فنان حقيقي يعطي الموسيقى حقها، ويدرك الدور الكبير الذي تلعبه الموسيقى التصويرية في ترسيخ الأحداث داخل عقل المشاهد وروحه، وفي أوبنهايمر تعاون نولان مع الملحن العبقري السويدي لودفيغ غورانسون الذي أبدع في الفيلم بموسيقى الكمان الأسطورية التي كانت بالفعل تليق بالفيلم وباسم غورانسون العالمي، موسيقى متوجسة مؤلمة تشعرك أنها تعزف على نياط قلبك، تتحول فجأة إلى موسيقى مترقبة حماسية، لقد امتلك أوبنهايمر موسيقى تصويرية لا تنسى بحق.
وضع نولان في أوبنهايمر كل تقنياته الكتابية والإخراجية التي شحذها على مدار العشرين عاماً الماضية كأنما كان يسير حثيثاً في فنه كي يهدينا تحفة سينمائية ممتعة مربكة خيالية لا أظن أنها قد تتكرر بسهولة لربما كان أوبنهايمر المصب لموهبة نولان النادرة.
أوبنهايمر يخلق حالة لم تشهدها السينما منذ أعوام
عندما بدأت جائحة كوفيد-19 عام 2020 وجد العالم نفسه في حالة لم يظن أنها ممكنة إلا في قصص الخيال العلمي، لقد أغلق كوكب الأرض أبوابه وانتشر الخوف والموت في كافة أصقاعه، لا ريب أنك تذكر تلك الأيام المرعبة التي شلّت حياتنا كاملة، في ذلك الحين تأثّر سوق العمل تأثراً كبيراً، ولعل أكبر المتأثرين كانوا صناع السينما، من سيذهب إلى الصالات لرؤية فيلم في وقت يخاف فيه أي شخص إخراج إصبعه من النافذة!
في ذلك الحين أقدمت بعض شركات الإنتاج على عرض أفلامها عبر المنصات الرقمية، لكن السينما ليست مجرد مكان أو تسلية عابرة إنها حياة كاملة تستحق أن تُعاش، ومع انحسار الجائحة حاولت السينما الوقوف على أقدامها، لكن الأحوال تغيرت لم يعد الناس يرغبون في ترك منازلهم والذهاب لمشاهدة فيلم، المنصات الرقمية موجودة ويمكن لهم انتظار بضعة أشهر، خلال الأعوام اللاحقة استطاعت بعض الأفلام إعادة الحياة إلى السينما.
وعادت الصناعة تنتعش، لكن لا أحد استطاع أن يفعل ما فعله أوبنهايمر لقد اكتسح صالات السينما اكتساحاً خيالياً لم يسبق له مثيل رغم أنه صدر في الموسم الصيفي الذي يشهد عادة أفلاماً أخف ثقلاً من سيرة مخترع القنبلة الذرية، فمثلا لو أنك أردت مشاهدة الفيلم في الولايات المتحدة عليك الانتظار شهراً كاملاً ذلك أن الحجوزات تمتد طويلاً جداً، حتى في العالم العربي في مصر مثلاً حجوزات فيلم أوبنهايمر مغلقة لمدة أسبوع كامل، من النادر أن نرى فيلماً يستطيع جذب أنظار العالم بهذا الشكل، وإبهارهم لدرجة إغلاق الحجوزات لأيام وأسابيع.
لم يكن تأثير أوبنهايمر كبيراً في صالات السينما فقط، لقد استطاع سلب قلوب النقاد أيضاً إذ استطاع نيل تقييم شبه كاملاً على موقع Rotten Tomatoes الشهير بقسوة نقاده، لكن حتى أقسى النقاد قلباً لم يستطع إيجاد علة ينتقدها في أوبنهايمر سوى مدة الفيلم الطويلة وهي الحجة التي تسقط بمجرد أن تشاهد الفيلم وتفهم أن أوبنهايمر يحتاج أكثر من ثلاث ساعات كي تحكي قصته مع كل يوم يمضي يحقق أوبنهايمر أرباحاً أسطورية، الأمر لا يتعلق بالمال الأمر يتعلق بذلك الشغف الجميل الذي يمكن لأوبنهايمر أن يعيده لك لو أن الحياة سلبته منك.
Oppenheimer VS Amadeus
كان لدى العرب القدماء اعتقاد فريد من نوعه، كانوا يؤمنون أن الشعراء والموسيقيين والفنانين هم أشخاص تلبسهم شيطان قادم من وادي عبقر ومن هنا جاءت كلمة عبقري، إنها أسطورة مسلية بقدر ما هي قريبة من الواقع بشكل أو بآخر، جميع العباقرة الذين غيروا العالم امتلكوا حظاً أسود جعل حياتهم جحيماً مطبقاً لعله ذلك الفهم الأكبر للكون هو ما يجعل حياتهم صعبة.
نرشح لك: فيلم Amadeus أماديوس كيف يجتمع العشق والبغض في قلبٍ واحد؟
مع بداية تصوير أوبنهايمر طلب نولان إلى كيليان ميرفي مشاهدة الفيلم الأسطوري Amadeus الذي يحكي عن عبقري آخر غير وجه التاريخ وهو أماديوس موزارت، لو لم تكن قد شاهدت أماديوس سابقاً فقد فاتك الكثير حقاً، هذا الفيلم يعتبر الأب الروحي لأفلام السيرة الذاتية، يروي الفيلم قصة العداوة المدمرة بين أماديوس موزارت ومنافسه اللدود أنتونيو ساليري الذي لم يرتكب في حياته إثماً أكبر من وجوده في زمن عرف عبقرية فريدة كموزارت.
كان السبب وراء طلب نولان هذا يعود إلى أن العلاقة بين أوبنهايمر وستراوس شبيهة بالعلاقة المريضة المضطربة التنافسية بين ساليري وموزارت، إن كلاً من ساليري وستراوس عانى من وجود رجل أشبه بالشعلة في حياتهما وكلاهما فعل كل ما بوسعه كي يدمر الرجل الذي أحرقه بعبقريته لعل هذا قدر العباقرة.
لا نقصد إطلاقاً المقارنة بين الفيلمين إذ أن كليهما مذهل بطريقته الخاصة، لقد كان أماديوس فيلماً عن الحقد والغيرة والدمار النفسي الذي يرافق من حمل جذوة العبقرية، أما أوبنهايمر فهو فيلم عن عواقب الأفعال وعن تلك القرارات البسيطة التي لا نفكر بنتائجها إلا بعد أن نرى كم الدمار والألم الذي أحدثته أفعالنا، لقد كان فيلماً عن الندم والخوف والتاريخ المظلم المنسي.
جدل أوبنهايمر.. ما الذي يرغب نولان في قوله؟
لم يعد شبح الحرب العالمية الثالثة شبحاً، العالم في خطر التوترات في كل مكان، وإن كانت الحرب العالمية الثانية انتهت بقنبلتين فإن الحرب العالمية الثالثة لن تنتهي إلا بفنائنا جميعاً، هذا الرعب القابض لا يبارح عقولنا هذه الأيام ولا يبدو أنه يبارح عقل كريستوفر نولان.
منذ الإعلان عن الفيلم توقع كثيرون أن نولان يصنع فيلماً عن أوبنهايمر كي يبرر ما فعلته أمريكا أو كي يقدم اعتذاره الخاص عما حدث، لقد قلنا في بداية مقالنا أنك لو كنت تتوقع فيلماً عن القنبلة الذرية ومشاهد مؤلمة وصرخات استنجاد فهذا الفيلم سيخيب أملك، الفيلم لا يهتم سوى بالرجل الذي حمل اسمه.
نرشح لك: بعيدًا عن “مارفل”.. روبرت داوني جونيور يعترف بأكثر أفلامه أهميه خلال 25 عامًا!
لطالما كان أوبنهايمر مظلوماً قلائل هم من يعرفونه وكل ما يعرفونه عنه أنه أبو القنبلة الذرية، لكن أحداً لا يعرف الظلم الذي تعرض له، والمحاكمة التي خوّنته وسحبت ترخيصه الأمني وحرمته كل نفوذ سياسي، والندم الذي اجتاحه بعدما رأى ما قدمه ابتكاره للعالم، لم يقدم أوبنهايمر يوماً اعتذاراً عما حدث.
لربما عاش في حالة إنكار طويلة كي لا يسحقه الذنب، لم ينته الفيلم نهاية مغلقة واضحة، هذا فيلم لنولان في نهاية المطاف، لقد انتهى كما ينبغي لفيلم أسطوري أن ينتهي لا جواب فقط كثير من الأسئلة.
رأى البعض أن نولان صنع الفيلم كي يذكر العالم بالقوة الساحقة التي جعلت أمريكا سيدة العالم والبعض الآخر وجد أن الفيلم يحاول تبرير ما فعلته أمريكا منذ عقود، لقد أثار أوبنهايمر جدلاً يقارب النجاح الساحق الذي حققه.
في الواقع إن نولان وفيلمه هما من ذكّرا العالم بأوبنهايمر وقنبلته، هذا هو سحر السينما الحقيقي، القدرة التي لا يمتلكها أي فن آخر القدرة على إعادة تجسيد الماضي المنسي وخلق الجدل من جديد حوله.
نولان ليس رجل سياسة، إنه فنان يعشق فنه، كل ما أراده نولان هو تذكير العالم بتاريخ دموي كاد أن يمحي بلداً كاملاً من الوجود، وأن ينبهنا جميعاً إلى أن الخطر لا يزال قائماً وإن كان أوبنهايمر قد رحل، فهناك أوبنهايمر آخر سيأتي بعده، ومن يعرف ما الذي قد يحدث حينها، فلنأمل أن تصل الرسالة لكن حتى ذلك الوقت فلنستمتع بالفيلم الرائع المميز الذي أهداه نولان للعالم هذا الصيف.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.