نصيحة من قلب مُفْعَم مكسور: ‘اصنع من ألمك فنًّا’!
ليس بالتأكيد شرطاً من شروط الإبداع أن تتألم أولاً! وقد يكون أيضاً مُغالطة كبيرة وتفكير نمطي تعودنا استعماله كمقياس للأعمال الفنية العظيمة، فتجدنا نُنقب في كل قصة نجاح عن عنصر الدراما و المعاناة، بحيث نستصغر بشكل غير مباشر قيمة كل فن لم يشمل هذين المكونين، وهو شيء نلاحظه وتشجعه فينا كجماهير بعض إنتاجات أبرز وسائل الإعلام وأكثرها تأثيراً.
ففي برامج المواهب الغنائية على سبيل المثال الغربية والعربية كذلك، يكون لدى المشتركين الذين يحملون إلى جانب أصواتهم قصص نجاة من حادث أو سرطان مثلاً… حظوظ أكبر لكسب شريحة عريضة من الجماهير واستمالة قلوب لجنة الحكام، إضافة إلى أولئك القادمون من بيئة متواضعة وظروف شخصية صعبة عموماً، وبينما تبقى هذه طبعاً استراتيجية تسويقية ذكية للبرنامج بحد ذاته لاجتذاب أكبر عدد من المشاهدين من خلال اللعب على مشاعرهم الهشة وتعطشهم لكل ما يمنح بصيص الأمل، إلا أنه تكتيك يرسخ لفكرة كم قلت سابقاً قد تكون مبالغ في الاعتقاد بها وهي ربط الإبداع الفني بمبدأ المعاناة.
إلا أنني لست هنا لأدحض هذه النظرية بل العكس، فإلى يومنا هذا، مازال التاريخ البشري وأعظم نجاحات الإنسان الفنان على مر العصور تؤكد أن كثافة وزخم التحفة الفنية التي ترى النور على يد فنان مُعذب غالباً ما تكون أقوى وأكثر إلهاماً وشغفاً، وربما أكثر تعقيداً لما تحمله من توق المبدع لتحرير مكنوناته ومنح الألم معنى وإعادة تشكيله في صورة جميلة.
نصيحة من فنان بقلب مُنفطر…!
‘خـذ قلبـك المكسـور واصنع منه فـناً’
كان هذا ما اختتمت به الممثلة الأمريكية وأيقونة هوليود المتألقة دائماً ميريل ستريب خطابها المقتضب بمناسبة تسلمها جائزة غولدن غلوب مؤخراً، بصوت مبحوح ونبرة متحسرة، استغلت هذه النجمة القديرة فرصة الوقت الضيق المخصص لإلقاء كلمتها فأثارت موضوعاً حساسًا وحادثة بارزة في الصراع على مقعد الرئاسة الأمريكية الذي ميز سنة 2016، وبدون الحاجة إلى ذكر اسم دونالد ترامب، أعربت ميريل ستريب عن أن قلبها قد انفطر وعقلها أصيب بالذهول لأداء لم يكن في فيلم بل في الحياة الواقعية، حيث قام بكل وقاحة الشخص الذي سعى للجلوس على أكثر المقاعد احترامًا في أمريكا بتغيير نبرة صوته ساخراً وتقليد حركة مراسل من صحيفة نيويورك تايمز مصاب بإعاقة جسدية.
الحادثة نفسها جعلت من الممثلة تثير مواضيع غاية في الأهمية خاصة في الفترة الزمنية الحرجة التي يعيشها العالم بعد انتخاب ترامب كرئيس للولايات المتحدة، شخصية ذات ميل غريزي لإهانة الآخرين وتحرض على عدم الاحترام والعنف المجاني.
وحتى ميريل ستريب لم تجد عزاءً لانكسارها وحسرتها سوى الرجوع لنصيحة غالية من صديقتها أميرة ملحمة حرب النجوم الممثلة الراحلة كاري فيشر التي أخبرتها في إحدى المرات بأن تأخذ قلبها المنكسر وتصنع من ألمها فناًّ.
فنانون تعذبوا فأبدعوا بلا حدود
أشهر الأعمال الأدبية لفرانز كافكا لم تكن لترى النور لولا شخصية مؤلفها المتأثرة بمآسي الطفولة والعلاقة السيكولوجية المعقدة مع الأب المتغطرس والأم غير المتفهمة لطموحات ابنها في أن يصبح كاتباً، المسخ، طبيب ريفي، المحاكمة… المدرسة الكافكاوية أثرت بشكل كبير في الأدب الألماني والعالمي كذلك، فريدا كاهلو ورسوماتها الاستثنائية انبثقت من رحم معاناتها بعد أن تعرضت لحادث جعلها طريحة الفراش وسبب لها الإعاقة، لوحات بسيطة وبورتريهات شخصية عبرت عن واقع الجسد العليل والروح المعذبة. الخبز الحافي، زمن الأخطاء (الشطار) ، وجوه؛ ثلاثية محمد شكري الخالدة تجسد تجربة حياتية متفردة لإنسان لم يتعلم القراءة والكتابة حتى العشرينات من عمره، تذكرة أتاحت له الهروب من عوالم سفلية مظلمة وبائسة إلى كتابات عابرة للحدود فضحت المسكوت عنه وعرّت الواقع القاسي العنيف الذي عايشه.
ورغم مهارات بيتهوفن ومواهبه المتعددة، يقول البعض أن فقدانه لحاسة السمع وصراعه من أجل تجاوز هذه المحنة داخل عالمه الخاص المنقطع الاتصال عن الانتقادات أو التوجيهات هو ما أثمر سمفونياته العظيمة والفريدة، وربما كانت معاناة حليم مع المرض، اليُتم والحرمان مصدر صوته العذب وإحساسه المرهف، حيث عبّرت موسيقاه بصدق أكثر من غيرها عن الشجن والأحزان فوجدت طريقها إلى قلوب الملايين وأجيال من بعده.
هل يرتبط الإبداع الفني فعلاً بالعذاب؟!
كاتب غير مستقر عاطفيًا، ممثل أنهى حياته بعد صراع طويل مع الاكتئاب… التاريخ مليء بالأمثلة. هل يرتبط الإبداع فعلاً بالعذاب؟! هناك دراسة علمية بيولوجية أُجريت في أيسلندا، السويد وهولندا تقول بأن الأشخاص المبدعون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والعقلية مثل انفصام الشخصية واضطراب ثنائي القطب، هناك أيضاً أبحاث أخرى متفرقة تؤكد نفس الشيء… غير أني لا أحب أن أقنع نفسي بذلك لأن هؤلاء يمكنهم أن يبدعوا أيضاً في عالم الجريمة وينساقوا إلى الشق المظلم في التجربة الإنسانية.
لذلك وكما أحب أن أفعل دائماً، سوف أناقض نفسي وأعارض أفكاري، لا أعتقد بتاتاً أنه من المحتم أن يعاني إنسان حتى يصير مبدعاً!! بل أحبذ أن أرى الأمر من زاوية مختلفة وهي أنه حين تشتد المحن على شخص ما سواء كان واقع معاش يصعب تغييره، مرض مزمن، أو قسوة حياة بشكل عام… كلها ظروف سوف تجد طريقها إلى نفسه أولاً ثم سوف تؤثر بالتأكيد على صحته العقلية، أعتقد أن الفنان الحقيقي هو الذي يمنعها من أن تسرق رُوحه، فيحرك تلك الطاقة السوداء في اتجاه معاكس ويجد لها قناة توجهها نحو الخارج فتكون تلك القناة بكل بساطة هي هواية يمارسها لنفسه أو فن يُبدع فيه.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.