إشكالية ابن رشد الفيلسوف المظلوم: كيف استفاد الغرب من فلسفته دون العرب؟
الفيلسوف المظلوم “ابن رشد” هو أبو الوليد محمد بن رشد الأندلسي، وُلد 520 للهجرة وتوفي 595 للهجرة، من أهل قرطبة، شرح أرسطو شروحات متعددة وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات كثيرة، لذلك لقب بالشارح. كان قاضي القضاة ومفتيًا.
كتب الفيلسوف ابن رشد نحو خمسين كتابًا، منها “التحصيل” في اختلاف مذاهب العلماء، و”فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” و”الضروري” في المنطق، و”تهافت التهافت” في الرد على الغزالي، و”تلخيص كتب أرسطو“، ترجمت أعماله إلى اللاتينية والإسبانية والعبرية. قيل عنه: “كان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه”.
وفي هذا المقال، أتحدث عن إشكالية الفيلسوف ابن رشد، لماذا هو باقٍ بيننا إلى الآن رغم ما تعرض له من تكفير وتشويه، وكيف استفاد الغرب من فلسفته، ولماذا لم يستفد العرب منه وأهملوه.
نرشح لك قراءة: أهم الفلاسفة القدماء الذين ساهموا بتقدم الحضارة البشرية
الفيلسوف ابن رشد حي بيننا
كان ابن رشد وما زال مثالًا للتنوير ومؤرقًا مضاجع مُلَّاك الحقيقة المطلقة الذين يتكلمون دائمًا بلسان الحق ويعتبرون أنفسهم المتحدثون باسم الإله، فابن رشد لا يزعج الفقهاء المسلمين فقط ولم يُحَارَب مِنْ قبل العرب والمسلمين فقط، بل حاربه أيضًا مدرسو اللاهوت، فظهر في الغرب توما الأكويني وهو فيلسوف لاهوتي صاحب مقولة: “إن ثمة خطأ غزا الجامعة الباريسية يلزم رفضه”، ومَنْ هو صاحب هذا الخطأ؟ إنه ابن رشد الأندلسي.
ورغم كل ما طاله من تكفير إلا أنه مشهورًا باقيًا، قد يكون المخرج المصري يوسف شاهين ساهم في هذه الشهرة حين أخرج فيلم المصير، لكن الشاهد أن شهرة شخصية بهذا القدر دليل على تأثيره البالغ حتى وإن كان في مجال صعب مثل الفلسفة، ولكن لماذا كل هذه الحرب التي لا تهدأ منذ قرون عدة؟
لماذا يكرهون ابن رشد؟
من يدعي أنه يملك الحقيقة يكره من يناقشه، ولأن ابن رشد يدعو للتنوير وإعمال العقل، والتنوير -بالطبع- قائم على عدم وجود سلطة على العقل، وأن العقل هو الحقيقة المطلقة، وهذا هو الصراع الدائم بين الفقهاء والفلاسفة على مدار التاريخ، لذلك الفلاسفة دائمًا يُتهمون بالكفر، وتتم محاربتهم في حياتهم وبعد مماتهم خوفًا من تأثير أو انتشار آراء الفلاسفة.
فابن رشد أُحرقت كتبه في حياته وتعرض للاضطهاد، ولم تسلم أفكاره إلى الآن من المحاربة، فهو وإن كان قاضيًا وله مجموعة فتاوى دينية -مطبوعة ومتوفرة- إلا أنه لا أحد يتعرض لفتاويه أو يعتمدها كرأي إسلامي من الأساس.
فالرجوع دائمًا لابن تيمية وابن القيم والفقهاء الأربعة، وعلى الرغم من تعدد المذاهب الإسلامية لكن الفكر الإسلامي في الشرق لا يعتد بما صدر في الغرب -الأندلس- من فكر وفلسفة وفن، فابن حزم وابن رشد وغيرهما يتم إهمالهما تمامًا.
إذًا فالصراع حول الفيلسوف المظلوم وفكره قديم ومتجدد في آن، والفلسفة عمومًا تُهاجم إلى الآن من قبل الفقهاء والشيوخ لأنها تحرر العقل من سيطرتهم عليه، فانتشار إعمال العقل سيفقدون على إثره أهميتهم بالنسبة للناس.
بين توما الأكويني والغزالي وابن تيمية
فكر ابن رشد دائمًا هو الطريق للتخلص من أفكار التقليد وسيطرة رجال الدين، سواء كان الدين المسيحي أو الإسلامي، وهو له قدره في الغرب، لكن العرب والمشرق عمومًا يهمله، والصراع قائم إلى الآن بين اتجاهين اتجاه يمثله أبو حامد الغزالي المتوفى وابن تيمية، واتجاه يمثله ابن رشد، فالغزالي كَفَّر الفلاسفة، وابن رشد دافع عن الفلسفة والفلاسفة، وألف “تهافت التهافت” للرد على الغزالي كما أنه كتب “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لتوضيح العلاقة بين الدين والفلسفة وأن التكفير هو تحريض وهو أمر خاطئ تمامًا.
فجوستاف لوبون يقول: “إن ابن رشد سبق أرسطو في بعض الأحيان، واعتبروه الشارح الأعظم”، وقال جيوم: “إن ابن رشد ينتسب إلى أوروبا والفكر الغربي أكثر من انتسابه إلى الفكر العربي الإسلامي”.
وكان لابن رشد فضل كبير في تخلص العقل الأوروبي من سيطرة الكنيسة عليه، لذلك هوجمت ترجمة أعماله ودراستها في جامعة باريس هجومًا شرسًا، وفي عام 1051 قرر “مجمع لاتران البابوي” لعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد.
وكما كان هناك ابن تيمية في الشرق، كان هناك توما الأكويني في الغرب، كلاهما هاجم وكفَّر وهرطق ابن رشد، لكن الفارق أن الغرب بعد مرور الزمن لم يعتد بآراء الأكويني، والشرق احتضن آراء ابن تيمية، لذلك استطاع الغرب خلق حركة فكرية تنويرية فلسفية، وغرق الشرق في الأفكار التراثية ولم يستطع حتى أن ينقحها أو يناقشها فهي تدخل ضمن التابوهات.
كيف انتشر ابن رشد في الغرب؟
كانت “طليطلة” هي أول مركز تمت فيه ترجمة مؤلفات أرسطو وشروحها تحديدًا في القرن الثاني عشر، وقد أقام أسقفها ريموند مركزًا للترجمة، وأهم ما تمت ترجمته هي أعمال أرسطو وشروحها وعلى رأسها شروح ابن رشد، وفرض ابن رشد نفسه في أوائل القرن الثالث عشر.
وقال الراهب تيري أستاذ الفلسفة في المعهد الكاثوليكي بباريس: “اتصل الفلاسفة الغربيون بالفلسفة اليونانية عن طريق ترجمات الكتب العربية أساسًا”.
وفي القرن الثالث عشر كان الاعتراف بالرشدية أمرًا خطيرًا قد يُهلك صاحبه، لكن في القرن الرابع عشر، وجدت مدرسة تحمل راية الرشدية، واستبدلوا كتب شروح ابن رشد بكتب أرسطو، ومنهم “دي جوندان” الذي أصبح أستاذًا في كلية اللاهوت لكن أعماله كانت تمتاز بالرشدية، كما أنه شرح النظريات الرشدية اللاتينية.
وفي القرن السادس عشر أصبحت الرشدية تمثل الثقة الممنوحة للشرح لابن رشد، كما أن الكنيسة أصبحت تؤيد ابن رشد، وتعترف بقوة أرسطو وتقول الدكتورة زينب الخضيري: “أصبح الرشدي هو من انكب على دراسة الشرح الكبير”.
ظهور الرشدية اللاتينية
انتشر فكر الفيلسوف المظلوم في الجامعات الفرنسية والإيطالية، وفي كتاب “فلسفة العصور الوسطى” لعبد الرحمن بدوي إشارة موجزة للرشدية اللاتينية جاء فيها أن سيجير البرابنتي كان أستاذًا في جامعة باريس، وقال سيجير: “إن لدينا الحقيقة التي يعلمنا إياها أرسطو وابن رشد، وهذه الحقيقة يوجد إلى جوارها حقيقة أخرى هي التي يعملنا إياها النقل”، وعلى الرغم من تحفظ سيجير، وأن الفلسفة عنده ليست البحث عن الحقيقة وإنما هي سرد ما قاله أرسطو وابن رشد وغيرهما من الفلاسفة، إلا أنه لم يسلم من توما الأكويني الذي هاجمه هجومًا شرسًا أثناء إلقائه موعظة في جامعة باريس، وعلى الرغم من تحريم الكنيسة للرشدية اللاتينية إلا أن كان لها أثر ضخم في القرون التالية حتى القرن السادس عشر.
كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال
في هذا الكتاب يحاول ابن رشد الفيلسوف المظلوم توضيح حقيقة كان يؤمن بها، وهي أن الإسلام لا يتعارض مع الفلسفة، فهو كتاب صغير يثبت فيه ابن رشد أن الله أمر بالتفكر، وأمر بالتدبر في خلقه وفي الكون، وأن إعمال العقل فريضة، يجب على المسلم استغلالها، وأهم ما تحدث عنه هو التأويل والقياس العقلي، لأنهما مصدر خلاف بينه وبين الفقهاء الذين يحرمون التأويل والقياس رغم استخدامهم لهما في أحيان كثيرة.
وقد اعتمد ابن رشد في كتابه “فصل المقال” على الآيات القرآنية في التدليل على مشروعية التأويل، فقال:
إن كان فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات فإن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها.. وقال: فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: “فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”، وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا.
وضرب مثلًا بإبراهيم أبي الأنبياء بأن الله اختصه بالنظر في الموجودات فقال:
واعلم أن ممن خصه الله تعالى بهذا العلم وشرفه إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى: “وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” وقال تعالى: “أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18}”.
ويقول:
وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس. فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.
كما أن استخدام القياس العقلي هو أمر موجود في الفقه، فالقياس العقلي ليس مبتدعًا كما قال الغزالي.
وابن رشد لم يدعُ إلى استخدام العقل أو استخدام المنهج البرهاني اعتباطيًا، بل وضع له شروطًا، فالتفكير الفلسفي له قواعده المنطقية، فيجب أن تدرسها أولًا لكي تكون من أهل البرهان والمنطق والتأويل.
كيف ننقذ العقل العربي؟
وابن رشد هو أحد وأهم سبل إنقاذ العقل العربي، فالتأويل ومراجعة النصوص القديمة ودراسة فكر ابن رشد في المدارس والجامعات وجعله منهاجًا نسير عليه قد يخلق بعد مرور الوقت جيلًا يستطيع الخلق والابتكار، قادرًا على التخلق من السلطة الدينية المسيطرة في الوقت الحاضر، فنستطيع بناء فلسفة عربية خالصة قادرة على النهوض بأفكارنا المتجمدة.
الفيلسوف المظلوم هو ابن العرب، وإن عاش في الأندلس، إلا أننا أولى به من الغرب، فنحن نستحق هذا التقدم، ونستحق أن ندرس هذه الفلسفة التي تدرك دور العقل.
بالطبع سيخرج تيار مضاد لهذه الحركة، وسيعاني التيار الرشدي مما عانته الرشدية اللاتينية في أوروبا وما زلنا نعاني منه إلى الآن، لكن هل سيصمد هذا التيار أمام التكنولوجيا ووسائل الانتشار الجديدة التي يجب استغلالها؟ هذا صراع قد يأتي في يوم ما لكننا سنكون متأخرين بحوالي 700 سنة فكرية عن الغرب.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.