دمتم أحرارًا… دمتم مقاطعين: تعرف على أهم حملات المقاطعة الاقتصادية العالمية
يقول القيادي الشيوعي وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية “حسن حمدان” المعروف باسم “مهدي عامل” “لست مهزوما مادمت تقاوم”. هذه المقاومة التي بها يحقق الإنسان كينونته ترتسم منذ وجوده الأول في مظاهر عديدة وسبل شتى تختلف باختلاف الظرفية الزمانية والمكانية والاقتصادية والسياسية وباختلاف موازين القوى. ومن بين سبل المقاومة اليوم نتحدث كثيرًا عن المقاطعة الاقتصادية للشركات لسبب ما، قد يكون أخلاقيًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو المقاطعة التي تشرعها الدول فتعتبر عقابًا.
اقرأ أيضًا: كتاب 365 يومًا دون صنع في الصين: هل يمكننا حقا العيش من دون السّلع الصينية؟!
منذ متى بدأنا نسير في طريق المقاطعة الاقتصادية؟
من منا لم يسمع بروزا باركس وبحادثة الباص التي بفضلها تعرفنا على هذه السيدة الشجاعة وعلى الواقع العنصري أنذاك؟
في عام 1955، طلب رجل أبيض البشرة من روزا باركس أن تنهض وتترك له مكانها في الباص، ولكنها رفضت ذلك بشدة وتحول هذا الرفض إلى شكل من أشكال مقاومة العنصرية بعد تنظيم تحرك دام 13 شهرًا أساسه مقاطعة حافلات مونتغومري. إذ باعتقال روزا نتيجة رفضها ترك مقعدها وُلد حراك اجتماعي وسياسي قوامه رفض العنصرية في وسائل النقل مما أدى بعدها إلى سن قانون إلغاء الفصل العنصري في الحافلات.
لكن المقاطعة كوجه من أوجه المقاومة الشعبية لم تبدأ سنة 1955 بل قبل ذلك بكثير، ولم تنشأ في الولايات المتحدة الأمريكية بل رأت اصطلاحًا النور في إيرلندا. نعود بالزمن من عام 1955 إلى عام 1880 وننتقل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأراضي الإيرلندية حيث نجد تشارلز بويكوت Charles Boycott، وهو وكيل أراضي لسيد بريطاني قرر في خضم الحرب البرية والأزمة الإقتصادية الناتجة عنها أن يشرد مستأجريه الإيرلنديين فيطردهم من بيوتهم لتأخرهم عن دفع معاليم الإيجار.
وهنا جاء الرد من قبل المستأجرين وظهر في قالب مقاطعة كل ما يتعلق بهذا الشخص، حتى صار لقبه العائلي في القاموس الأنجليزي يعني المقاطعة Boycott.
جذور المقاطعة ممتدة في تاريخ البشرية منذ القديم ولكن اللغة لم تذكرها إلّا بعد فترة كما أشرنا، وما سمي بحركة الإنتاج الحر التي مثلت حملة مقاطعة دولية لكل ما ينتجه السود الذين كانوا يسمون آنذاك “العبيد” في القرن الثامن عشر خير دليل على ما نقول.
لن أتعامل معك وستوجعك مقاطعتي: أكثر حملات مقاطعة ألحقت ضررًا بالدول والشركات العالمية
نهدي هذا الجزء من المقال لكل من لا يرى في المقاطعة وسيلة للمقاومة وإبداء الرأي وإخضاع كبرى الشركات أو حتى الدول للإرادة الشعبية والخطاب الجماعي، ونحصره في بابين أولهما يشير إلى أهم حملات المقاطعة في العالم العربي وثانيهما يوضح أكثرها تأثيرًا في العالم.
من بين الحملات الأولى للمقاطعة في البلدان العربية نجد حملة مقاطعة التراموي في تونس التابع لشركة فرنسية سنة 1912، أي قبل حادثة روزا باركس بسنوات. رد بها الشعب التونسي على حادثة دهس طفل صغير من قبل التراموي خاصة وعلى استغلال هذه الشركة لليد العاملة التونسية الرخيصة وسوء ظروف العمل عامة، ومثلت هذه المحطة حدثًا شديد الأهمية في سيرورة الاحتجاج ضد المستعمر الفرنسي.
من تونس نتجه شرقًا إلى مصر، حيث توجهت السلطات البريطانية إثر اندلاع ثورة 1919 بلجنة لتدارس أسباب نشأة هذا الحراك، إلّا أنه تمت مقاطعتها من قبل الوفد المصري ولم تتوقف المقاطعة عند هذا الحد فشملت بقية الشعب المصري. وقد كان لهذه المقاطعة دور أساسي في المفاوضات مع المستعمر البريطاني.
بعيد قليلا عن تونس ومصر و في ظل هذه الأزمة الاقتصادية العالمية التي تجتاح دولنا العربية الفقيرة، لا يمكن أن نتجاهل حملات مقاطعة المنتجات باهضة الثمن تماما كما حدث في السودان تحت عنوان “الغالي متروك”. انطلقت هذه الحملة في السودان سنة 2012 وقد بدأتها الجمعية السودانية لحماية المستهلك، مواجهة بها غلاء المعيشة وعدم قدرة المواطن السوداني على مجاراة الأسعار الحالية للمنتجات، خاصة اللحوم الحمراء التي صار ثمنها 50 جنيها للكيلوغرام الواحد. لم تتوقف الحملة عند هذا الحد واستمرت حتى العام الماضي باستمرار غلاء المعيشة ولم تكن الوحيدة من نوعها فقد تعددت طيلة كل هذه الأعوام الأخيرة حملات مقاطعة العديد من المنتجات جراء غلائها.
لم يكن العالم العربي كما قلنا في البداية المحطة الوحيدة للمقاطعات، ولكنها عُمِّمت في العالم أجمع لتشمل الهند، مثلًا حين دعا غاندي شعبه لمقاطعة المنتجات التي يقدمها المستعمر البريطاني مقابل تشجيع المنتجات المحلية سنة 1920، مرددًا عباراته الشهيرة “كلوا مما تنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو”. كان قبل ذلك قد دعا أيضًا للعصيان المدني ولوضع حد للانتهاكات التي مارستها إنجلترا على شعبه، فنادى بضرورة إيقاف العمل بقانون الملح الإنجليزي متجهًا مع الآلاف من أبناء شعبه إلي البحر لاستخراج الملح الهندي.
اقرأ أيضًا: غاندي: الرجل الذي حرر بلاده بالملح!
(نايك ونستله) طالتهما المقاطعة لأسباب إنسانية- بيئية
بعيدًا عن الظرفية الاستعمارية المباشرة للشعوب، تشكلت سنة 1975 لجنة دولية لمقاطعة “نستله” ضمت أكثر من 200 مجموعة موجودة في 100 دولة، ونادت برفض وهجر الحليب الصناعي الضار الذي تنتجه هذه الشركة.
كما ظهرت أيضًا بعد ذلك حملة مقاطعة نفس الشركة التي تستنزف المياه العالمية لإنتاج مياه الشرب حسب نسق تعبئة يومي يقدر بأكثر من مليوني زجاجة ماء، مما يهدد المخزون المائي للعديد من المناطق والمدن كمدينة فيتيل الفرنسية ويجبرها على تغطية حاجياتها عبر جلب الماء من مناطق مجاورة.
وإن هددت نستله مخزون المياه فقد هددت نايك الطفولة واستعبدت الأطفال، مما جعلها تواجه سنة 1990 الرأي العام ومنظمات حقوق الانسان وحقوق الطفل وتلاقي حملات مقاطعة منتجاتها.
في ظل نظام عالمي تحكمه الأوراق النقدية وتنظمه الأسواق الدولية، يخسر الإنسان قيمته وتتلاشى هويته ولكنه يظل يقاطع ويقاوم حتى لا يتوه بين السلع والمنتجات فيصير عبدًا للمصانع والشركات. دمتم أحرارًا… دمتم مقاطعين…
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.