إيّاك والتقمص الوجداني: سيكولوجيا التعاطف ورحلة في متاهات هذا الشعور الملتَبَس به أحيانًا

التعاطف و التعاطف المفرط
روان سالم
روان سالم

9 د

التعاطف (Sympathy) والتعاطف المفرط (Empathy)، في حين يبدو معنى المصطلحين متقارب جدًا، إلا أن الاختلاف في التأثير العاطفي لكلٍّ منهما مختلف ومهم أيضًا، فتخيّل أننا نحتاج للتعاطف، وهو مطلوب، بينما يكون التعاطف المفرط ضار وغير مرغوب.

كمختصر مفيد إذا كنت على عجلٍ من أمرك، يمكنني أن أوصّف لك اختلاف المعنيين بمثال صغير: عندما تعبّر لشخص آخر ولنفترض أنه صديقك، عن الأسى لسوء حظه في موقف ما، فأنت هنا متعاطف، أما التعاطف المفرط، فهو وضع نفسك تمامًا مكان الشخص المأسوف عليه، أي تتصرف وكأنك أنت من حظه سيء، حرفيًا تتصرف وكأنك مكانه. إذا لم تكن مستعجلًا، فلطفًا اقرأ المقال.

اقرأ أيضًا: لا تبذل نفسك على مذابح الآخرين: انصحهم بطبيب نفسي وتخلص من عقدة المخلص


الفرق بين التعاطف والتعاطف المفرط

ينطوي شعور التعاطف على الإحساس بمشاعر الشخص والتعبير عن القلق حول ما يشعر به، ربما الحزن أيضًا مصحوبٌ برغبة داخلية في أن يكون الشخص أمامنا أفضل حالًا وأكثر سعادةً. مثال: كأن تواسي صديقك مريض السرطان وتقول: “لا تقلق يا صديقي، سيساعد العلاج الكيميائي في ذلك، كن قويًا وأنا معك”.

يتميز التعاطف بأنه صفة أو مشاعر آنية، لا تترك فيكَ أثرًا كبيرًا على المدى البعيد، بمعنى مشاعر التعاطف التي تشاركها مع أحدٍ ما لا تعني خوضك نفس العواطف فيما قبل، ولا تستند إلى تجارب مشتركة، أنت فقط تشارك الشخص حزنه لمدة قصيرة وتحاول التخفيف عنه.

وأما التعاطف المفرط أو ما يمكن تسميته “التقمّص الوجداني“، فهو باختصار القدرة على التعرف وتحديد مشاعر شخص آخر، ومشاركتها، وهي تفسير للمصطلح الألماني (Einfühlung) الذي وضعه عالم النفس إدوارد تيتشنر (Edward Titchener) عام 1909، بمعنى “الشعور بالروح”، لذا يمكن وصف المتقمّص وجدانيًا بأنه “وليف الروح” قادر على مشاركة مشاعر الآخر من وجهة نظر هذا الآخر، من وجهة نظر الشخص المتألم، ويُظهر المفرط في التعاطف مشاعره علانيةً، وكأنه الشخص المتألم ذاته.

التعاطف مقابل المتعاطف المفرط

مثال واقعي لتوضيح الفرق:

يمكنك التعاطف مع الحيوانات ولكن لا يمكنك التعاطف المفرط معها، لأنه كما قلنا، التعاطف المفرط يحتاج إلى خبرات مشتركة كي تشعر تمامًا بما يشعر به الطرف الآخر، وهذا غير ممكن مع الحيوانات لأنك ببساطة “إنسان”، ولكنك “كإنسان” قادر على التعاطف فقط مع الحيوان.

من المهم توضيح أن هذين المعنيين مختلفان عن معنى الشفقة (Compassion) أيضًا، والتي تعني مجرد إدراك محنة الشخص الآخر باعتبار أنه لا يستحق ما حصلَ له وأنه عاجز عن فعل شيء لتغيير واقعه، ولكن كتفاعل منّا مع الشخص المشفوق عليه، فتحتل الشفقة درجة أقل من التفاعل مقارنةً بالتعاطف والتقمص الوجداني.


ماذا يقول علماء النفس عن التعاطف والتعاطف المفرط؟

التعاطف والتعاطف المفرط

التعاطف والتعاطف المفرط كلاهما أدوات تعبير مفيدة، فجميعنا يريد أن يحظى بشخص يراعي مشاعره أو أن يحسّ بها تمامًا.

ولكن بالنسبة للتعاطف، وكما فهمنا معناه، فهو على المدى الطويل قد يتبنى معنى رعاية الشخص أكثر من كونه تعاطفًا معه، وهذا ما يخلق فجوة بين المتعاطف والمحتاج للتعاطف، لأنك وصلت إلى درجة أن تشعر به، ولكن لست تمرّ- أو لم تمرّ – بما مرّ هو به، لذا أنت محظوظ، سيمرّ الأمر عليك مرور الكرام، بينما هو سيء الحظ ويتعذّب، وهذا أمرٌ لا يفضله أي إنسان، يعطيه شعورًا باليأس المُثقل بانعدام الأمل.

بينما يشير علماء النفس إلى أهمية التقمص الوجداني كونك تضع نفسك في عالم الشخص الآخر – على الرغم من تذكرك من أنت بالفعل – تمامًا، فهو ضروري للتصرف بحنان واحتضان الشخص المأسوف عليه، ضروري لتكوين علاقات صادقة وجدّية، وذلك لأننا نخرج من ذاتنا ونكون مكان الشخص الآخر، لذا يتيح التعاطف المفرط جعل الآخر يشعر بمدى شعورنا بإحساسه بالفعل، أي لا نضطر لافتعال ذلك، بل يراه فينا الناس بصدق.

ومع الحالات المتزايدة لتقمصنا الوجداني في مجموعات مختلفة من الكائنات البشرية، يقول العلماء أننا معرضون بذلك لتكوين علاقات أكثر ديمومة، وتصبح قوية لدرجة أن الآخرين يطلبون تواجدنا عند شعورهم باستياء أو سوء معاملة مثلًا. لتكن على علم، إن تقديم النصائح هو العدوّ الأول للتعاطف المفرط: “هل أنت متعاطف معنا في عالمنا المفعم بالألم؟ إذًا لا تحاول جعل نفسك تُشعر بتحسن وتطبطب بقول تلك الجمل البالية لتهوّن على نفسك”، نعم هكذا يفكرون.

التعاطف والتعاطف المفرط

لا يمكنك ابتذال التعاطف المفرط، لا يمكنك لعب دور المتقمص وجدانيًا، حيث يعتقد العلماء أن الناس يبدؤون بإظهار هذه السمة منذ الطفولة، وقد تتطوّر لديهم في مرحلة المراهقة، ويتسامى التعاطف المفرط عند الأشخاص الذين يجدون من يشبههم، يبدؤون في إظهار التقمص الوجداني لمن يشبههم أكثر مقارنةً مع أشخاص من عائلاتهم وأقربائهم أو حتى من بني جنسهم أو عرقهم، لا يهم، المهم أن يروا هذا الشخص وكأنه هم أنفسهم.

لاحظنا حتى الآن أن التعاطف المفرط أو التقمص الوجداني قد أخذ مساحة في الأهمية أكثر من التعاطف العادي، وهو بالفعل ذو أهمية أكبر، فهناك أنواع للتعاطف المفرط، وكما أن له إيجابيات، فسلبياته كثيرة.

اقرأ أيضًا: الابتسامة أرخص من الكهرباء وأكثر إشراقًا وفائدة: ابتسم فكل شخص تقابله يحمل أعباء كثيرة


الأنواع الثلاثة المختلفة للتعاطف المفرط

حدد عالم النفس الأمريكي والرائد الحامل شهادة دكتوراه في مجال العواطف، الدكتور بول إيكمان (Paul Ekman) ثلاثة أنواع مختلفة للتعاطف:


التعاطف المعرفي (Cognitive Empathy)

ويمكن أن نسميه (Perspective Taking)، بمعنى “تبنّي وجهة النظر”، أي القدرة على تحليل وفهم مشاعر الآخرين، وحتى التنبؤ بأفكارهم، وذلك من خلال “تحليل الذات” بعد وضع أنفسنا في موقفهم، أن تضع نفسك مكان الآخر، وتفهم وجهة نظره. التعاطف المعرفي عملية تعاطف “بالفكر” أكثر من كونها شعورية، وهو مهارة، تفيد في العمل، مثل إمكانية وضع نفسك مكان مديرك الغاضب، وتفهم موقفه دون الحاجة بالضرورة للانخراط في عواطفه، لذا هذا النوع يُنسَب إلى الفكر كعملية عقلانية ومنطقية أكثر من كونه “تعاطفًا”.


التعاطف العاطفيّ (Emotional Empathy)

الشعور حرفيًا بمشاعر الشخص الآخر، كما لو أننا استحوذنا على تلك المشاعر، لدرجة أنه يُطلق عليه “العدوى العاطفية (Emotional Contagion)“، وأحيانًا يؤثر سلبًا على المتعاطف ليُصاب “بالكَرْب الشخصي (Personal Distress)“؛ وهنا يكره الشخص المتعاطف نفسه نتيجة استيعابه الزائد لظروف ومشاعر الغير، ولكنه أقرب نوع إلى معنى التعاطف المفرط الحرفي. يمكن التماس هذا النوع عند رؤية الأم تبتسم لطفلها، وبدوره يبتسم لها، أو عندما يبكي طفل لمجرد سماعه بكاء طفل آخر.


التعاطف الرحيم (Compassionate Empathy)

على غرار التعاطف العاطفي، ولكنه أكثر عقلانية، لأنه يعني الشعور بمشاعر وألم شخص ما، ولكن مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لمساعدته والتخفيف من المشكلة. الكثير من الأشخاص الذين يعانون لا يتنظرون منك أن تفهمهم فقط (النوع المعرفي)، ولا أن تعاني معهم فقط (العاطفي)، بل يفضل البعض أن تتخذ خطوات لمساعدتهم فعليًا لتجاوز المشكلة وليس بالنصائح أو الكلمات المهدئة، وهنا نفهم أن التعاطف الرحيم جيد نوعًا ما.


مخاطر التقمص الوجداني: لِم قد يكون التعاطف المفرط بأنواعه غير سليم؟

التعاطف المفرط ضار

إذا أخذنا أحد أنواعه، وليكن النوع الأول المعرفي، فبحسب تعريفه، يمكنك إظهار التعاطف المعرفي دون امتلاك التعاطف بمعناه الحقيقي، مثلًا، يحتاج الجلّادون إلى التعاطف المعرفي لمعرفة أفضل السّبل لإيذاء الأشخاص المجلودين، ودون أي تعاطف تجاههم، وهذا يتنافى مع فكرة التعاطف أليس كذلك؟

بالنسبة للتعاطف العاطفي، قد يكون جيدًا وقد يأخذ المنحى السيء، جيّد لأنه يعني بسهولة الإحساس بمشاعر الآخرين وفهمها وذلك أمرٌ مرغوبٌ به في المِهَن العاطفية حتى، مثل مهنة الرعاية الصحية مثل الأطباء أو الممرضين والممرضات، حتى يتمكنوا من الاستجابة المناسبة لمرضاهم، حيث من المرجح أن يشعر المريض بارتباط عاطفي مفرط مع الطبيب، وذلك يساعده على التحسن، لأنه يعتبر أن طبيبه يفهم حالته، وبالتالي يستمع إلى كلام الطبيب ويتبع النصائح.

يميل هذا النوع إلى أن يصبح سيئًا عندما تطغى هذه المشاعر علينا، وتصبح جزءًا منّا ونُرهَق، لدرجة أن بعض الممرضين أو الأطباء يصابون بعدم المبالاة أو الصلابة، قد يكون ذلك نتيجة تبنيهم الحماية ضد التعاطف الزائد، ولذا يوصي العلم الأطباء بتعلم ضبط النفس تجاه تلك المواقف، لأنهم مضطرون للتعاطف الزائد كونهم يد الرحمة، ومن جهة أخرى واجبٌ عليهم ضبط النفس حتى لا ينهاروا أو يمسون بلا قلب.

يمكن أن نوازن أنواع التعاطف المفرط بمحاولة اتباع النوع “الرحيم”، لأنه أكثر منطقية وذو فائدة. ولكن على كل الأحوال، “الإفراط” في أي شيء سينقلب عكسًا على الشخص المُفرط، وفي حين أن التعاطف قد يعطي لحياتنا معنى، إلا أن حدوثه بشكل خاطئ قد يرجع علينا بالأضرار. إليكم أدناه أهم مخاطر التعاطف المفرط:


يمكن أن يؤدي التعاطف المفرط إلى غضب في غير مكانه

عندما نفهم – بسبب تعاطفنا المفرط – أن الشخص الذي يهمنا أمره، في خطر محدق، أو ربما فقط نستشعر ذلك “بسبب تعاطفنا الشديد”، فذلك قد يجعلنا نغضب بشكل خطير وكارثي.

مثال صغير يبين لك مدى إشكالية التعاطف المفرط: لنفترض أنك كرجل- أو امرأة – تقف مع ابنتك ذات الـ10 أعوام في تجمع عام، ولاحظت أن رجلًا كبيرًا ثقيل الوزن يرتدي ملابس غير رسمية- ما يدعك تشك فيه أكثر – يحدق بابنتك. بينما لم يتحرك الرجل ولم يبدِ أي تعبير، وربما أنه شاردٌ لا أكثر، يدور في عقلك ألف سيناريو الآن يدفعك للغضب، وذلك فقط بسبب فهمك المتعاطف لما “قد يفكر” في فعله لابنتك كأذيّة.

عمل التعاطف المفرط هنا عمل شيطاني، بسبب عاطفتك المفرطة لابنتك، توقعت ما لا قد يكون بخاطر الرجل، ولو اتجهت إليه وضربته، فستقع في مصيبة جدّية. في مثل هذه الحالة، وصّف المعالج الأسريّ الدنماركي جيسبر جول (Jesper Juul) العلاقة بين التعاطف المفرط والعدوانية على أنهما “توأم وجوديّ”.


أنت متعاطف بشكل مفرط؟ إذًا قل وداعًا لأموالك..

لسنواتٍ عديدة، أبلغ علماء النفس عن حالات كثيرة لمرضى التعاطف المفرط، يعرّضون رفاهية أنفسهم وعائلاتهم للخطر بسبب التبرع بما يملكوه من مدخرات حياتية للأفراد المحتاجين بشكل عشوائي، ونعني بعشوائي أن التبرع للمحتاجين مطلوب كعمل إنساني نعم، ولكن كلٌّ بحسب قدرته أليس كذلك؟ لذا هنا نحن نتكلم عن أولئك المفرطين في التعاطف والذين يفضلون أن يتبرعوا بما لديهم على حاجاتهم الأساسية، يشعرون أنهم مسؤولون عن كل محنة يمر بها الآخرون، وكأنهم مذنبون بما لديهم لأن غيرهم لا يملك مثلهم.

التعاطف والتعاطف المفرط

قد يتم تفسير هذه الحالة بأخرى مرضيّة تعرف “بذَنْبْ الناجي (Survivor Guilt)“، ويُقال عن شخص لديه ذنب الناجي عندما يشعر بالذّنب لأنه نجا بشكلٍ ما من موقف يهدد حياته، بينما لم يفعل الآخرون، وبالتالي يشعر الناجي والذي هو المتعاطف بشكل مفرط، أنه سعيد على حساب سعادة الآخر، بمعنى تسببت سعادته في بؤس غيره. يميل هؤلاء الأشخاص إلى الإصابة باكتئاب خفيف في مراحل لاحقة من حياتهم، بحسب عالمة النفس لين أوكونور (Lynn O’Connor).


الخلط بين الحب والتعاطف المفرط يضرّ بالعلاقات.. وقد ينهيها!

يحذّر علماء النفس من الخلط بين الشعور بالحب، والتعاطف المفرط، إذ يمكن للحب أن يجعل أي علاقة جيدة أو سيئة، وفي حال كانت سيئة يمكنه معالجتها، ولكن التعاطف لا يمكنه ذلك، بل يؤدي التعاطف المفرط إلى التعجيل في نهاية العلاقات المتوترة.


التعاطف المفرط قد يودي بك في النهاية إلى التعب العام

التعاطف والتعاطف المفرط

التعب الجسدي والنفسي والعاطفي، ستتعب من كل شيء في النهاية، فتكرار الصدمات والأزمات والحزن والبؤس سيؤدي إلى الإرهاق الجسدي في النهاية. صاغ مارك ستيبنيكي، وهو مستشار إعادة التأهيل والصدمات، مصطلح “إجهاد التعاطف” للدلالة على التعب العاطفي وما يعانيه المتعاطف عند المشاركة الشخصية المطوّلة في الأزمات المختلفة.

في الختام:

يقترح أساتذة علم النفس أنه يجدر بنا أن نذهب إلى أقل قدر ممكن من التعاطف المفرط بدلًا من التشبث بهذه الميول، لما له من مخاطر لم يكن الإنسان يضعها بالحسبان، ربما من الأفضل أن تتجه لاتخاذ التعاطف الرحيم كوسيلة للتعاطف، فهو على الأقل يجعلك تفكر بحلّ.

ذو صلة

هل فكرتَ يومًا أن صفتك كإنسان متعاطف جدًا قد تعود عليك بالسلبية؟؟

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة