الصين هزمت أمريكا تكنولوجيًّا.. لماذا انحنى ترامب أمام نفوذ التطبيق الصيني تيكتوك؟

6 د
لا مفر من التقاطع بين السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا على مستوى العالم، وتتوفر عشرات ومئات الأمثلة على أفراد وشركات وأيضا حكومات تلاعبت بالأنظمة السياسية لتحقيق منفعة مالية، وفي حين قد تظل هذه الممارسات في حدود مقبولة، إلا أن الكثير منها يكون شديد الفجاجة لدرجة تثير المخاوف الأخلاقية وتشوِّه الأسواق وتضر بالثقة العامة في الحكام بل وقد تؤدي إلى تقويض الاقتصاد ذاته.
ويبدو أن قرار ترامب الأخير بتمديد مدة الحظر لمنصة تيك توك والعمل المستمر في أمريكا يعتبره الكثيرون من النوع الثاني والذي قد يهدد السياسات الأمريكية المتنوعة ويأخذها إلى منحنى خطير من الفساد المالي والسياسي الذي يؤدي في النهاية لمخاطر متنوعة على الدولة والاقتصاد تتشابه تماماً مع يحدث في الدول النامية وبعض الديموقراطيات الناشئة.
ترامب وتيك توك ورأسمالية المحاباة.. ما القصة؟
أصبحت منصة تيك توك في السنوات الأخيرة محوراً رئيسياً في كل من الخطابات الثقافية والسياسية، ليس في أمريكا وحدها بل على مستوى العالم، فقد أدى صعودها النيزكي إلى زيادة النفوذ الصيني حول العالم، ولأن أيديولوجيتها تختلف تماماً عن المتبعة في أمريكا فقد أثار دونالد ترامب خلال فترة ولايته الأولى الكثير من الجدل حولها مؤكدا خطورتها على الأمن القومي.
ففي عام 2020 أصدر ترامب أوامر تنفيذيه تستهدف منصة تيك توك متهماً شركة بايت دانس بمشاركة بيانات المستخدمين مع الحكومة الصينية، وبينما نفت الشركة كل تلك الادعاءات إلا أنها لم تجد أذنا مصغية من ترامب في ذلك الوقت، بل روّج بشدة لتولي شركات مثل مايكروسوفت وأوراكل السيطرة على التطبيق صاروخي النمو.
وعلى الرغم من أن الحجة المعلنة هي الأمن القومي، إلا أنه لم يخف على أحد على الإطلاق أن الهدف الأساسي هو تحقيق مكاسب اقتصادية منه، وقد كان الأمر مقبولاً إلى حدّ ما لأنه يصب في صالح الشركات الأمريكية والاقتصاد نفسه.
لكن ما الذي حدث ليتراجع ترامب فجأة عن موقفه ويبدأ في الدفاع عن التطبيق الأكثر إثارة للجدل؟
كان لإطاحة ترامب من السلطة وتولي بايدن المسؤولية دورا في تأجيل قرار إعدام تيك توك في أمريكا. ليظهر الأمر على السطح مرة أخرى مع الانتخابات الأمريكية الأخيرة وبعد أن أيدت المحكمة العليا بالإجماع قانون حماية الأمريكيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة الخصم الأجنبي باسم PAFACAA وهو اختصار لاسم Protecting Americans from Foreign Adversary Controlled Applications Act.
وقد منح هذا القانون منصة تيك توك مهلة 270 يوماً تنتهي في 19 يناير للتخلي عن استثماراتها الصينية، كما يواجه أي كيان يتعاون مع المنصة ويُعلن عن تطبيقاتها أو يتيح تحميلها عقوبة تصل إلى 5000 دولار لكل مستخدم.
إلا أن المنصة -والتي من الواضح أنها نجحت في استمالة ترامب من جديد إليها خلال حملته الانتخابية- تغلبت على قرار الحظر لتعمل بكفاءة في أمريكا بعد أن منحها الرئيس الأمريكي مهلة 90 يوماً أخرى، وهي مهلة لا يمكن تجديدها دون الخضوع لشروط قانون الحماية الأمريكي الجديد.
لماذا أثارت عودة تيك توك عاصفة من المعارضة في أمريكا؟
أثار قرار ترامب بمنح تيك توك مهلة جديدة عاصفة من المعارضة من سياسيين ديموقراطيين ومثقفين ورجال مال واقتصاد، وهذا لمجموعة متنوعة من الأسباب:
الانتهاك الصارخ للقانون الأمريكي
أثار حظر منصة تيك توك حفيظة ملايين الأمريكيين، فهي في النهاية تساهم بالفعل في الاقتصاد ويستثمر بها كبار رجال الأعمال، كما توفر آلاف الوظائف، إلا أن الأمر لم يعد يتعلق بالمنصة نفسها بقدر ما يتعلق بالمخالفة الصريحة لقانون أمريكي واضح.
فكيف لرئيس الدولة أن ينتهك القانون، وكيف تسيء الشركات الأمريكية للسلطة القضائية وتخالف قراراتها مباشرة؟
فقد أصدر ترامب القرار فعلياً وهو لا يزال مواطناً عاديا وليس حتى رئيسا للجمهورية، واستجابت له خدمات الاستضافة الأمريكية بالفعل مثل أوراكل ضاربة بعرض الحائط العقوبات المفروضة على كل من يتعاون مع تيك توك، فكيف لمواطن عادي أو حتى لرئيس دولة أن يقف أمام قانون أمريكي صدر بالإجماع؟ فهذا يُمهِّد الطريق وفقاً لآراء الكثيرين للمزيد من الانتهاكات الأقلية للقانون لدعم مصالحهم الاقتصادية واستنادًا إلى نفوذهم السياسي.
المخاطرة بالركود الاقتصادي
إن الشركات التي تتعاون مع الحكومة سوف تركّز أكثر على تنمية الروابط السياسية وليس على الاستخدام الأفضل للموارد، وقد مًنحت جائزة نوبل الأخيرة في العلوم الاقتصادية لعمل يوضح جزئياً كيف يتراجع الرخاء المجتمعي عندما تُوّجه السياسة الاقتصادية نحو مصالح نخبة سياسية ضيِّقة.
فهذا الاتجاه يجعل المحامين وجماعات الضغط أكثر قيمة من العلماء والمهندسين والمبدعين، فهم الأكثر قدرة على مدّ الجسور السياسية وسيكون هذا بالطبع على حساب تطوير منتجات وخدمات أفضل وبالتالي ركود اقتصادي كبير.
احتكار صناعات محددة
امتلأ حفل تنصيب ترامب بعمالقة صناعة التكنولوجيا، مثل إيلون ماسك ملياردير تسلا، وسوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي لجوجل ومارك زوكربيج رئيس ميتا وجيف بيزوس الذي كان سابقاً من أكبر منتقدي ترامب، إلا أنه يبدو أنهم حصلوا بالفعل على مقاعد وسلطات وتسهيلات من الحكومة الأمريكية الجديدة تجعلهم يحققون أرباحاً خرافية.
وهذا ظهر بقوّة في أرباح شركة تسلا والتي ارتفعت قيمتها نحو 30% خلال أسبوع الانتخابات الرئاسية، في حين مُنيت شركات السيارات الأخرى بعائدات شديدة التواضع، وهذا في رأي المحللين لا يعود مطلقاً لأي تغييرات أو تطورات في الصناعة نفسها ولكن للعلاقة الوثيقة التي تربط ماسك بالساكن الجديد للبيت الأبيض.
وهذا الاحتكار يضع الاقتصاد في مقتل، فقد حدث بالفعل في أندونيسيا عام 1996 أن انهار الاقتصاد تماما بعد نقل الدكتاتور الإندونيسي سوهارتو إلى ألمانيا لإجراء فحوص طبية، فأدى هذا إلى انسحاب المستثمرين وخفض الناتج المحلي لأندونيسيا بنحو 15% في عام واحد وانهيار اقتصادي كبير نتيجة إدراك المستثمرين أن قوّة الشركات في إندونيسيا نابعة من سوهارتو وأبناؤه وليس عن كفاءة اقتصادية، لذا أدى الاحتكار إلى كارثة في البلاد لم تُشف منها إلا بعد عدة سنوات.
الاستبداد التنافسي
أطلق علماء السياسة مثل ستيفن ليفيتسكي Steven Levitsky ولوكان أ واي Lucan A. Way مصطلح الاستبداد التنافسي للإشارة إلى بلد ديموقراطي تكون انتخاباته تنافسية بالفعل ولكن يُهيمن حزب واحد به على وسائل الإعلام والموارد المالية، فضلًا عن سيطرته على الحكومة مما يخلق مجال عمل غير متكافئ لصالح الرئيس الحالي.
وقد بدأ ترامب بالفعل في هذا الاستبداد خصوصا مع استجابة مارك زوكربيرج لمطالبات ترامب وأنصاره المستمرة لتخفيف القيود على المعلومات المضللة على منصات شركة ميتا، وهذا يعني المزيد من هذه المعلومات المضللة والتي تصب في مصلحة الأقلية وتهدد بالاستبداد التنافسي.
وهذا ما حدث بالفعل في الكثير من البلدان ومنها ما كانت تتمتع بديموقراطية قويّة مثل المجر والتي سيطر فيها الحزب الحاكم على 80% من وسائل الإعلام، كما عانت الهند بقيادة ناريندرا مودي من الأمر نفسه، إذ اصطفت الشركات الكبرى للتبرع الضخم لحزبه حتى أن أي معارضة تواجه صعوبات ضخمة في مجرّد الوصول إلى الجمهور فضلاً عن إقناعه.
كما لم يُخفِ ترامب موقفه الواضح ضد أعدائه المفترضين مؤكداً أنهم لابد أن "يواجهوا" أو على الأقل "يخافون" من عقابه وانتقامه في حالة عدم الامتثال لما يريده.
إن الرعب الذي حدث في أمريكا بعد قرار ترامب مبرر تماماً، صحيح أنهم لا يزالون بعيدون تماماً عن القمع العنيف الذي يحدث في الكثير من الدول، فلا يُتوقّع أن يُسجن النشطاء والصحافيين الرافضين للانصياع لمصلحة الحزب الحاكم، إلا أن المصالح الاقتصادية كفيلة بتغيير تدريجي للسياسة الأمريكية والتأثير على حياة الشعب نفسه، وبالتالي لن يمر وقت كثير قبل أن تظهر ممارسات أكثر حدة.
فهناك عشرات ومئات من الأمثلة التي كُشف عنها للطريقة التي يمكن بها لاستغلال السلطة السياسية في الاقتصاد أن تدمّر المجتمع تماماً، هذا بخلاف عشرات الأمثلة الأخرى التي مرّت دون محاسبة المسؤولين عنها وإن كانت رائحتها تزكم الأنفاس.
فمن التعريفات الجمركية الباهظة على سلع معينة واحتكار أقلية لها، إلى الخصخصة وبيع أصول الدولة وعدم استثمار العائد منها في التنمية، بالإضافة إلى إصدار تشريعات سياسية لصالح قلّة مستفيدة من رجال الأعمال والموالين للسلطة، تتنوع تماماً مظاهر الفساد السياسي حول العالم، فهل تسمح أمريكا لترامب بالانحدار بها إلى مستنقع من الفساد والاهتمام فقط بمصلحة أقلية دون بقية الشعب؟؟
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.