رغم ما آل إليه الحال: نعم، لقد سطعت شمس العرب على الغرب يومًا
عُرفت الفترة الممتدة من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر ميلادية بالعصر الذهبي للمجتمع العربي والإسلامي حيث إسهامات العرب والمسلمين في مختلف المجالات يقابله عصر الظلام والانحطاط للمجتمع الغربي، وقد كرّست المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه حياتها لدراسة هذا التوتر الخلاق بين المجتمعين وتلك النقلة الحضارية من العرب نحو الغرب فكان الكتاب الكبير الذي رأى النور منذ سنة 1962م بعنوان: “شمس العرب تسطع على الغرب”، ويمكنك الحصول على الكتاب من هنا.
من هي زيغريد هونكه؟
وُلدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (Sigrid Hunke) بمدينة كيل ليوم 26 أبريل سنة 1913م، ابنة للناشر هاينريش هونكه وزوجة للمستشرق والدكتور شولتزا وثلاثتهم ألمان، وهي باحثة أوروبية في التاريخ عموماً وبرزت في دراسة الحضارة الإسلامية خصوصاً وكذا دراسة الأديان بأصولها وفروعها والمقارنة بينها، نالت سنة 1941م شهادة الدكتوراه بجامعة برلين مُتناولة في أطروحتها دراسة حول أثر الأدب العربي في الأدب الأوروبي.
عُرفت زيغريد هونكه بحبّها للعرب وإنصافها لهم في كتاباتها، كيف لها وهي تتمتع بشخصية العالِم والباحِث الموضوعي والساعي نحو الحقيقة بعيداً عن التعصّبات والمطبّات العقلية التي أسست لها الكنائس قديماً، وتوارثتها الأجيال الأوروبية حديثاً في صور عصرية، تتمثل أدناها في الاستهزاء بالعرب والمسلمين، وأعلاها بقتلهم داخل وخارج أوطانهم، أعود فأقول أن ما تتمتع به زيغريد هونكه هو روح الباحث الموضوعي وهي ثمرة التّشرّب من مختلف مصادر العلوم والكتب والترعرع في بيئة علمية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوتّر الأوضاع في ألمانيا خاصّة بعد بناء جدار برلين، رحلت إلى بلاد المغرب واستقرت بمدينة طنجة، وهناك تعلمت اللغة العربية بإتقان وكانت لها فُرص لزيارة عدّة بلدان عربية بصّرتها بآثار الحضارة الإسلامية التي قرأت عنها سابقاً والتي عاشت آثارها كذلك في موطنها الأصلي بألمانيا.
بعد سنتين تعود إلى ألمانيا لتستقر في مدينة بون، وتبدأ مشوارها ككاتبة أبحاث ومقالات ومؤلفة كتب تدور كلها حول فضل العرب والمسلمين على العالم الغربي، كان أول مُؤلَّف لها هو كتاب الرجل والمرأة سنة 1955م وبعده الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه والذي تُرجم إلى 17 لغة مختلفة، و (شمس الله تسطع على الغرب) هو عنوان الترجمة الأصلية للغة العربية، ليتبعه بعدها كتاب “ليس الله كما يزعمون” ثم كتاب “التوجه الأوروبي إلى العرب والإسلام… حقيقة قادمة وقدر محتوم”.
لماذا شمس العرب تسطع على الغرب؟
“أن تُحبّ الفِكر قبل صاحِبه”
كتاب شمس العرب تسطع على الغرب الذي صدر سنة 1962م باللغة الألمانية بعنوان (Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe) ثم تُرجم إلى العربية من طرف فاروق سعيد بيضون وكمال دسوقي سنة 1964م ونشر من طرف دار العالم العربي ببيروت والتي حازت شرف إخراج الطبعة العربية الأولى، قد أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا خصوصاً وأوروبا عموماً وتعرّض لكثير من الهجمات من طرف النّقّاد وأثار استياء عامّة المواطنين، وقد اضطرّت زيغريد هونكه للجوء لجمعيات حقوق الإنسان للتصدّي لبعض التجاوزات التي تعرّضت لها بسبب الكتاب الذي تناول إسهامات العرب والمسلمين بالعرض والتعريف.
أستطيع أن أقول أن هذا الكتاب هو من صنف الكتب المفتاح، الذي يُلزمك بتدوين الكثير من الملاحظات ويفتح أمامك الكثير من الأبواب نحو بحوث جديدة ومتنوعة من أجل التثبّت مما تقرأه، قبل أن تفكّر في الهفوات القليلة التي قد يحتويها الكتاب أو الرد على بعض النقاط، والسبب هو أن الكتاب عبارة عن تشريح تفصيلي لواقع العالم الغربي، من أدق التفاصيل الحياتية اليومية للرجل الأوروبي وصولاً إلى أكبر العلوم التي صعدت به نحو قمة هرم الريّادة الصناعية والتكنولوجية، في سبيل البحث عن جذور الحضارة الأوروبية أو الغربية عموماً.
الفرد العربي من مرحلة التعليم الإبتدائي إلى الثانوي وقبل الجامعة بقليل، تمر به أسماء كثيرة لامعة لعلماء وأدباء ومخترعين بارزين أمثال نيوتن، كبلر، أينشتاين، فولتير، كوبرنيكوس وغيرهم، ولأنّه محروم من حرية الفِكر والنقد والبحث عن الحقيقة علناً، ولأسباب اجتماعية تجعل الفرد العربي (مهما كان) مصنف في ذيل قائمة أكثر الشعوب قراءة، فإن هذا الكتاب وعن تجربة شخصية قد عصف بكل المعارف السابقة التي حصّلتها ولا زِلت أُحصّلها طيلة مشواري الدراسي من الإبتدائية إلى الجامعة.
ما الذي يميز كتاب شمس العرب تسطع على الغرب؟
“في سياق الحديث عن الإغريق، اعترف الأوروبيون بدور العرب في التاريخ حين قالوا: إن العرب قد نقلوا كنوز القدامى إلى بلاد الغرب”
أزمة التاريخ ليست الكذب والتزوير، إنّما في عدم القدرة على التفريق بين الحقيقة والحقيقة المُضللة (كما في الجملة أعلاه)، لأن الأولى يسهُل استخراجها من المكتبات بعد تظافر جهود المؤرخين، أما الثانية فهي الأصعب لو اقتنع بها المؤرخون أنفسهم!
لذا فإن زيغريد هونكه قد قامت بخطوة جريئة ووجّهت إلى الألماني والأوروبي بصفة خاصة والعالَم بصفة عامة كتاباً بيّنت فيه فضل الحضارة الإسلامية على أوروبا بالأرقام والبراءات العلمية لمدة خمس قرون ذهبية بينما كانت أوروبا تعيش فقراً إنسانياً رهيباً بكل المعايير تحت حكم الكنيسة الكاثوليكية.
أهم إسهامات العرب والمسلمين
كتاب شمس العرب تسطع على الغرب مُقسّم إلى سبعة كتب وكل كتاب مُرفق بفصول وحاشية تجمع أهم ما ورد من أسماء ومصطلحات وأحداث تاريخية مُرفقة بشروح مختصرة عن إسهامات العرب والمسلمين في مختلف المجالات.
الكتاب الأول: رفاهية حياتنا اليومية
“على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنّى، وتصفر الريح خلاله، كانت أقدامنا تسير” _ وولغرام فون ايشنباخ
استهلّت كتابها بأول ما يميز الشعوب عن بعضها البعض ألا وهي اللغة، عرضت فيه الكثير من المصطلحات الأوروبية ذات الأصول العربية، وسردت الدور الذي لعبته البندقية-إيطاليا في الربط (تجارياً وعلمياً) بين العالم الإسلامي الساطع والعالم الأوروبي المظلم.
الكتاب الثاني: العالم والأرقام
“ولكن انتبه أيضاً لي، أنا الصفر لا ينطبق بي. دائرة مستديرة متكاملة، لي قيمتي في المعاملة. بي تستطيع الترقيم، فتتنقح الأعداد وتستقيم” _ ترجمة لأبيات عن اللاتينية من أشعار القرون الوسطى
هل تساءلت يوماً من أين جاءت الأرقام؟ وما الذي دفع العرب لاختراع الصفر (chiffre)؟ ولماذا لم يُعرف فضل الخوارزمي إلا حين سنة 1845م؟ ستجد في هذا الفصل عرضاً لرحلة الأرقام العربية كيف شقّت طريقها وصولاً إلى يومنا هذا.
الكتاب الثالث: السماء التي تظلنا
“أرأيتم كيف أن من يعرف مسببات الأشياء لا يصيبه أذى منها. وهذه إحدى فضائل علم النجوم، فالضليع من أمورها يفهم ما يجري أمام عينيه، وينظر إلى كل حدث نظرة هادئة، فلا يلم به طرف من فزع أو خوف كما يلم بالجاهل الغبي”.
مراقبة السماء كانت من يوميات الرجل العربي، فتجد المؤذن يراقب حركة الشمس ونسبة سطوع الضوء ليحدد مواقيت الصلاة ليلاً ونهاراً، وتجده يراقب القمر ليحدد رأس الشهر الهجري وكذا معرفة حلول شهر رمضان وتحديد أيام البِيض، فلا ريب أن يخرج من هؤلاء أسماء بارزة مثل الزرقالي، ثابت ابن قرة، البيروني وغيرهم، ليؤسسوا لعلم الفلك بكل ملحقاته وأدواته والملاحظات التي لا يزال يُعمل بها إلى يومنا هذا! من ساعات وبوصلات وحتى الصواريخ البدائية!
الكتاب الرابع: الأيدي الشافية
“لهذا استُقبلت كتب ابن سينا، الرازي، ابن رشد بالثقة نفسها التي استُقبلت بها كتب أبو قراط وجالينوس، ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول امرؤ ما ممارسة الطب دون الاستناد إليها، اتُّهم، على أهون سبيل، بالعمل على الإضرار بالمصلحة العامة” _ أغريبا فون نتيسهايم
إنه لمشين حقاً أن يعمل الطبيب بيديه في الزمن الذي اعتُبر فيه التطبيب والاستحمام جريمة تُعاقب عليها الكنيسة، كان العرب مشغولون ببناء الماريستانات، وهي مستشفيات يتمنى الإنسان لو يطول به المرض ليَنعم بما تُقدمه من خدَمات ورعاية صحية وأموال تُعوّض المريض أيّامه التي لم يشتغل فيها! وهي كذلك الحِقبة التي سطع فيها نجم الرازي الغني عن التعريف وإسحاق بن حُنَين مؤلف أول كتاب في البصريات (optic).
وقد كان شعار الأطباء المسلمين كالآتي: “إن من اهتم بمعالجة اللؤلؤ وجب عليه دوماً أن يحافظ على جماله. كذلك فإن الذي يتعاطى مداواة الجسم البشري، أجمل خلق الله في العالم الدنيوي عليه أيضاً أن يحرص كل الحرص وأن يكون الحب رائده في عمله”.
اقرأ أيضًا:
الكتاب الخامس: سلاح المعرفة
“اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد… تعلموا السحر ولا تعملوا به… اطلبوا العلم ولو في الصين… حبر الطالب أقدس من دم الشهيد”
“إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في رومة له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة. وأنّى لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا. إن فاقد الشيء لا يعطيه” _ جربرت فون أورياك
في هذا الفصل من كتاب شمس العرب تسطع على الغرب تتحدث عن القفزة الحضارية النوعية التي حققها العرب والمسلمون ومد يد العون الحانية للرجل الغربي لانتشاله من براثن الجهل والظلام التي كان قابعاً فيها، وكيف لعِبت الترجمة دوراً هاماً في تكوين العقل العربي المبدع واستيراده من طرف الغرب بعد ذلك باتباع المنهج نفسه.
اقرأ أيضًا:
الكتاب السادس: موحد الشرق والغرب
“اشكروا الله واحمدوه إذا أتم عليكم نعمته، فإن إتمامها كان بمعجزة من الله وليس نتيجة الشجاعة أو الحروب. وما أتمه الله لم تستطع قوة من قوى البشر على الأرض إتمامه” _ من منشورات فريدريك الثاني في بيت المقدس سنة 1228م
تتحدث المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه بإسهاب عن دور دولة النورمان في التوحيد بين العالَمين، وكذلك الدور الريادي الذي لعِبه المسلمون بإسهامات الجميع من مختلف الطبقات الاجتماعية، بدءاً من العالِم إلى الجارية.
الكتاب السابع والأخير: عرب الأندلس
“وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح في هذا محمد، الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد” _ جوته – الديوان الشرقي الغربي
هذا الفصل هو لشحذ ذائقتك الجماليّة، عن طريق عرض إسهامات العرب والمسلمين في مختلف الفنون من أدب وشعر وموسيقى وتشكيل وكذا حديث عن الصوفية وطرقهم في العيش.
في انتظار شروق جديد!
أرى أن هذه المرأة هي أنموذج يُحتذى به لكل شخص (رجلاً كان أم امرأة) يريد أن يسخّر نفسه للبحث عن حقيقة ما، نظراً لما تتمتع به هذه المستشرقة من موضوعية فكرية وانفتاح ذهني على الآخر وعدم نُكران الجميل لكل من أسهم في إيصالنا إلى ما نحن عليه اليوم من فُرص العيش المُتاحة، وعرضها بشفافية إسهامات العرب والمسلمين وبشكل محايد.
ولعل أهم ما شكّل شخصية زيغريد هونكه هو نشأتها في عائلة يحكمها أب ناشر، ما أتاح لها قضاء الساعات الطوال بين أحضان الكتب التي قذفت بها عالياً في سماء العالمية تماماً كما يقذف أب حنون ابنته عالياً في السماء ملاعباً لها.
وشيء آخر، لمّا فهم المسلمون الأوائل قول الله: “فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون” سورة الجاثية الآية 17، أقول عندما فهموا معنى الآية بأن الاختلاف هو ثمرة من ثمار التوسّع في العلم ونصّبوا أنفسهم دُعاة لا قُضاة كانوا بخير، ولكن جاء أقوام بعدهم رفعوا الاختلاف إلى الخِلاف ونصّبوا أنفسهم قضاة يُكفّرون هذا ويُفسّقون هذا فبدأت عجلة التاريخ تنقلب عليهم وتداعت عليهم الحملات الصليبية من الخارج والفِتن الطائفيّة من الداخل فضلّوا وأضلوا وهلكوا وخسر العالم بانحطاط المسلمين خسارة جسيمة.
فهل سنشهد يوماً ما خروج جيل جديد مُتعطّش للحقيقة من أمثال زيغريد هونكه، يحملون شعار “وشهد شاهدٌ من أهلها” يفتحون أعيُناً عُمياً وآذاناً صُمّاً؟
يُقال إن المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه أسلمت في مؤتمر علمي على يد عالم الرياضيات السعودي علي الدفّاع، باحث ومؤرخ في التاريخ العربي والإسلامي، نقلاً عن عبد الرزاق المبارك. ارتفعت روحها الخالدة إلى بارئها يوم 15 جوان سنة 1999م وبقي الجسد في مدينة هامبورغ الألمانية.
لك أيضًا:
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.