تريند 🔥

📱هواتف

زيارة السيدة العجوز للروائي الألماني فريدريش دورينمات: الاقتصاد هو من يحدد الأخلاق

مسرحية السيدة العجوز للروائي الألماني فريدريش دورينمات: عندما يتجرد الإنسان من إنسانيته
صالح محمد
صالح محمد

7 د

انعكست رؤية فريدريش دورينمات Friedrich Dorinmat، السويدي الألماني، للمسرح كوسيلة لإعادة بعث القيم، أو كما يسميها في كتابه “مشكلة المسرح”: وحي الأخلاق Moral Revelation، على مسرحيته “الزيارة” أو “زيارة السيدة العجوز” كما تُسمى في إصدارتها الأصلية، وهي مسرحية تراجيدية بنكهة عبثية بعض الشيء كباقي أعمال دورينمات، أو يمكننا أن نعمم: كباقي أعمال جميع أُدباء الحرب العالمية الثانية.

مسرحية السيدة العجوز

مسرحية زيارة السيدة العجوز للروائي الألماني فريدريش دورينمات

اقرأ أيضًا:

  • وفقًا لسيجموند فرويد: تحليل شخصية سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب

مشكلة عند فريدريش دورينمات

تجمع مسرحية زيارة السيدة العجوز جوًا ملحميًا أشبه بمسرحيات الشاعر الألماني كارل بوشنر، وجوًا آخر مثيرًا للفزع والشعور بالبشاعة، تمثل المسرحية في جوهرها استكشافًا جادًا للجانب المظلم للإنسانية في قناعتها بأن الاقتصاد هو من يحدد الأخلاق، أو كما تقول إحدى المُثل العامية “الفلوس تُغير النفوس”.

تكمن المأساة في زيارة السيدة العجوز في وقوع المجتمع بأسره في دائرة من الأحداث المتتالية تؤدي في النهاية لتحمل المجتمع بأسره مصيبة ما يحدث، كانت هذه المسرحية بمثابة تأكيد لإحدى أهم جمل دورنمات في “مشكلة المسرح”:


“المأساة تفرض علينا الذنب، اليأس، الشعور بالمسؤولية، في عَرض دُمى قرننا هذا، لم يعد هناك مذنبون ولا رجال مسؤولون، إن ما يحدث دائمًا هو “أننا لم نتمكن من مساعدته” و “لم نرد أن يصل الأمر إلى هذه النقطة أبدًا”، وبالفعل، تحدث كل هذه الأشياء دون أن يكون هناك شخص على وجه الخصوص مسؤولًا عنها، ولكن يتم جر الجميع إلى الحَدث إلى أن يُقبض على المجتمع بأسره مُتلبسًا، نحن جميعًا مذنبون بشكل جماعي، ونقع جميعًا في مستنقع آثام آبائنا وأجدادنا.. هذه هي مصيبتنا، ولكنها ليست ذنبنا: الذنب يمكن فقط أن يكون “مسؤولية شخصية”، أو كعمل ديني، نحن لا نحمل ذنبًا، الكوميديا هي فقط ما يمكن أن نقول أننا نحمله.”

في شخصية فريدريش دورنمات، اندمجت سمات المثقف الثائر مع سمات المثقف القروي الريفي نتيجة للوضع العائلي الذي تعرض فيه دورنمات إلى التدريب البروتستانتي الصارم مع الحداثة في الوقت ذاته.

ولد فريدريش دورينمات في عام 1921 في قرية سويسرية، وهو أكبر طفلين، كان والده القس البروتستانتي لكنيسة المدينة، وكان ناشطًا في السياسية، كان أولريش، والده، ناشرًا لصحيفة محافظة متعصبة، وكان فخورًا بقضاء 10 أيام في السجن بسبب تأليفه قصيدة ساخرة شرسة عن الحداثيين.


 Dürrenmatt

فريدريش دورينمات

تأثر دورنمات بالقصص الأسطورية التي حكاها له والده كقس كنسي، وكذلك تلك التي روته له والدته، ستوفر جميع هذه القصص فيما بعد مادة خام لأعماله الأدبية، كان طموح دورنمات الأول أن يصبح رسامًا، وأثناء التحاقه لمدرسة ثانوية في قرية مجاورة أمضى جميع وقته في استوديو رسام محلي، وكانت مسرحياته الأولى المنشورة مصحوبة برسومات توضيحية.

في عام 1935 انتقلت العائلة إلى مدينة برن والتحق دورنمات بمدرسة مسيحية ثانوية تعرف باسم Frieies Gymnasium، كان بارعًا في اللغات الكلاسيكية ولكنه كان يظل طالبًا فقيرًا، لذا غادر بعد عامين ونصف.

أُرسل فيما بعد لمدرسة خاصة، وبعد أن رُفض في معهد الفنون درس دورنمات بجامعة برن، درس اليونانية واللاتينية لكسب المال، فيما بعد عاد لمنزله لفترة طويلة بسبب نوبة التهاب كبد، هناك، في جامعة برن، قام بدراسة الفلسفة تفصيلًا في الجامعة من جديد.

بدأ دورنمات مسيرته الأدبية في الأربعينات من القرن الماضي ببعض الرسوم الخيالية، حاول أن يقوم بنشر البعض من القصص القصيرة فيما بعد إلا أنه لم يكن موفقًا في محاولته الأولى في عام 1946 تزوج من الممثلة الألمانية لوتي جيسلر ثم انتقل إلى بازل، مسرحيته الأولى “هكذا كُتب الأمر” هي محاكاة ساخرة لتاريخ الغربي تحت ستار دراما تاريخية.


اللاإنسانية بمسرحية زيارة السيدة العجوز

كان مصطلح الـ dehumanization، الذي يمكن ترجمته لـ “نزع الإنسانية” أحد أساسات مسرحية دورنمات، فكان هدف البطل الأساسي، كلير زاكاناسيان، هو الانتقام من الشهادة الكاذبة التي أدلى بها ألفريد إيل عندما نفى كونه والد طفلها. بعدئذ أظهر دورنمات تحولًا سلبيًا في القيم التي كان يؤيدها أهل مدينة غيلين بسبب رغبتهم في الثروة، يسأل دورنمات هنا سؤالًا هامًا: هل يمكن شراء العدالة؟

بمجرد أن يتضح للسكان الحدث المأساوي الذي حدث في حياة كلير بسب ألفريد إيل -وبالتالي بسببهم- يشعر الجمهور جميعه بالتعاطف معها، يتولد هذا التعاطف من الطريقة التي تُحكى فيما بعد عن كيف تركها عشيقها وحيدة، لتُلقى وحدها أخيرًا فتصبح عاملة في بيت دعارة.

تتجرد كلير من الإنسانية في عملها، وتتجرد من حساسيتها لمكانها وللأحداث التي حلت بها، ما يجعل الجمهور يتردد في الاستمرار في التعاطف معها.

كلير هي الشخصية الوحيدة التي تُأكد على فقدانها لصفات الإنسانية على طول المسرحية، قبل وصول كلير، كان سكان المدينة يتوقعون أن تكون هي نفسها كلير التي عَرِفوها من قبل، يبدأ ألفريد إيل في ملاحظة التغييرات التي طرأت عليها عندما كان يحاول أن يلمسها ليدرك أنها فقدت بعض الأطراف ولديها الآن ساق وذراع صناعية.

بشكل فضولي بشأن فقدان كلير لخصائصها البشرية الجسدية، يسأل إيل: “كلير، هل أنتِ صناعية؟”، أجابت “علميًا؟ نعم”، هنا تظهر وحشية كلير التي تختلف عن شخصيتها السابقة، يظهر دورنمات هذا ليبدأ بإعطاء التلميحات للأحداث التي مرت على حياتها، تمرر كلير وصف نفسها الصناعية بطريقة ليست فقط مُجردة من الإنسانية، بل أيضًا مليئة بنبرة من الغطرسة حين تصف نفسها بأنها “لا تقتل”.

يبدو أن فقدان ذراعها وساقها ساهم في فقدانها أي فرص لتقديم التعاطف، يفقد الجمهور تمامًا مشاعر القلق والحزن تجاه كلير لأنها تصبح عاهرة تتخلى عن طفلها، من المؤكد أن تجريد كلير من بشريتها كان بمثابة استعارة لفقدانها جميع القيم تجاه مجتمعها، كانت تقول هي:


“لقد جعلني هذا العالم عاهرة، فلأجعلن منه دار دعارة”.

تتجلى إدانة كلير من خلال الأشياء التي تقولها طوال المسرحية عندما تتحدث عن العدالة، إنها مُتأثرة بثروتها الكبيرة لدرجة أنها تؤمن أنه يمكنها أن تشتري كل شيء، بما في ذلك العدالة، هذه الفكرة تعارض هدف العدالة، التي يجب أن يكون هدفها الأول هو الإنصاف، تجعلها كلير رغبة في الانتقام، لا تفهم كلير مفهوم العدالة حقًا، لم تُدرك أنها حتى لو قتلت ألفريد فإنها ستظل تحمل آلام الذكريات التي تركتها أفعاله معها. لن يمكنها عندئذ أن تهرب من نفسها أو من أفعالها.

إلى جانب كلير، أظهر سكان المدينة علامات التجرد من الإنسانية، فجميعهم مدفوعون بجشعهم الشخصي الذي يدفعه عرض كلير للتبرع بمليون دولار للعائلات، ينتقل سكان المدينة من النوايا الحسنة التي ترغب في الدفاع عن إيل إلى البحث عن طريقة لتبرير قتله.

وهنا يحاول عمدة المدينة أن يرفض عرض كلير “باسم الإنسانية” على حد تعبيره، إلى أن يُدرك أن هذه الأموال قد تكون مفيدة للبلدة وسكانها، ويغير مفهومه عن الإنسانية وأموال كلير ليرى أن مقتل إيل “ليس من أجل المال، ولكن من أجل العدالة”.

العمدة هو مثال واحد بين العديد من سكان المدينة الذين أظهروا تحولًا أخلاقيًا بسبب جشعهم، على الرغم من أن اقتباس العمدة يظهر حقًا أن هدفه تحقيق العدالة، من السهل أن ترى العمدة والسكان الآحرين يسعون فقط وراء أموال كلير، ويصبح موت إيل بالنسبة للشعب ليس قتلًا وحشيًا، وإنما تصحيحًا لخطأ ما ارتكبوه ذات مرة.

إن قدرة فريدريش دورينمات على تغيير مشاعر الجمهور تجاه كلير وسكان المدينة، من مشاعر حزن وتعاطف لاشمئزاز وعدم تصديق، تساعده على خلق جو مناسب لمعالجة مفهوم اللاإنسانية.


الفقر كعامل لخلق اللاإنسانية

زيارة السيدة العجوز

مسرحية زيارة السيدة العجوز للروائي الألماني فريدريش دورينمات (طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة)

الفقر هو أحد أهم الجوانب في مسرحية زيارة السيدة العجوز، ويعمل كأساس للحبكة بأكملها، لو لم تقع بلدة غولين في فقر مدقع لما كان يمكن لكلير أن تزور المدينة وتقدم حل الثروة والازدهار لمشكلتهم، قبل مجيء كلير، أسست بلدة غولين مجتمعًا قائمًا على القيم الإنسانية التي كانت تحظى باحترام كبير بالفعل، ولكن تلاشت هذه القيم عندما بدأ المواطنون في البحث عن الثروة، كان الفقر رمزًا لهذه القيم.

من الواضح أن غولين كانت مدينة فقيرة للغاية يكافح جميع سكانها لأجل البقاء، كان كل شيء يُغلق ويباع.

من الناحية التاريخية، لم يكن أداء اقتصادات العديد من دول أوروبا جيدًا بسبب الحروب العالمية الأخيرة، لم يذكر بوضوح أين تجري أحداث الزيارة ولكنه على الأرجح بسويسرا أو ألمانيا، ولكن نظرًا لموضعها الواضح في أوروبا فإنه من الدقيق أن نقول إن الاقتصاد كان يعاني نظرًا للسياق التاريخي.

تكشف المسرحية في مشهدها الأول عن الحالة الفقيرة للبلاد من خلال حوار المواطنين عن المدينة والأشياء التي تُغلق وتباع، تمهيدًا لما هو آت وما ستفعله كلير، في مشهد البداية هذا، يناقش المواطنون الزيارة الوشيكة لكلير، يقول الرجل الثاني مُقدمًا:


“لقد حان وقت وصول المليونيرة إلى هنا” وهنا يتحدث إيل ليحكي لهم عن علاقته السابقة معها، وبعد وقت تُقدم كلير عرضها المعروف: “سأمنحكم مليارًا، وبهذا المليار، سأشتري لنفسي العدالة”.

يرفض المواطنون العرض بدايةً لأنهم يفضلون الفقر على أن تلوث أيديهم بدم بريء، أو كما يقول العمدة: “نحن لا نزال في أوروبا”، ولكن ما أن توضع الثروة في أيدي المواطنين، يعلمون أنهم لا يمكنهم رفض ذلك.

ذو صلة

لك أيضًا:

  • هاملت وماكبث: عندما نخضع الشخصيات الفنية للتحليل النفسي
  • على سيرة الحب: لا تكنِ مثل أوفيليا ضحية هاملت في مسرحية شكسبير

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة