ماذا سيحدث إذا سقطت داخل ثقب أسود؟
8 د
فقط أنظر للسماء في ليلة صافية وهي متألقة في ثوبها الأسود المرصع بنجوم تزيدها أناقة وبهاءً. إنها زينة السماء التي تغنى فيها الشعراء والأدباء منذ فجر التاريخ. بالرغم من جمالها الذي يسحر كل عين تراها، إلا أنّ مصيرها النهائي مخيف حد الرعب. تتحول النجوم في نهاية حياتها إلى شيء يبتلع كل شيء، تعجز قوانين الفيزياء عن وصف حالتها هذه، يمكن الإشارة إليها إلى نقطة اللاعودة أو المجهول المرعب، إنها الثقوب السوداء.
في أبريل 2019، استطاع العلماء التقاط أول صورة للثقب الأسود، ما جعلها حقيقة بالدليل القاطع بعد أن شكك فيها كثير من العلماء، على رأسهم مبتكر نظرية النسبية العامة، التي أثبتت فكرة وجود أجسام كونية تلتهم كل ما يمر حولها، إنه عالم الفيزياء الراحل ألبرت أينشتاين، وهو نفسه الذي صرح في أحد أوراقه البحثية عام 1939، أنّ فكرة الثقوب السوداء غير مقنعة وأنّ مثل هذه الظاهرة غير موجودة في الحقيقة. لكن بالرغم من كونه أينشتاين، لم يرضخ له العلماء، وبحثوا وراء الفكرة، أبرزهم ستيفن هوكينغ.
يتساءل العديد من الناس عن مصير رواد الفضاء الذين قد يصادفون الثقوب السوداء وتلتهمهم. وفي هذا الصدد اجتهد العديد من العلماء في البحث عن تفسير لهذه الحالة. وهذا ما سنناقشه في تقريرنا الآن. قبل ذلك لنتعرف على بعض المعلومات عن الثقوب السوداء..
اقرا أيضًا: ولادة النسبية الخاصة: كيف قادت أفكار أينشتاين إلى واحدة من أجمل تحف الفيزياء على الإطلاق
بداية الحكاية..الكون من منظور نيوتن وأينشتاين وبينهما ثالث
يُقال أنه وبينما كان نيوتن يجلس تحت إحدى أشجار التفاح، سقطت تفاحة على الأرض. ولأن نيوتن رجل عميق، لم يلتقطها لتناولها، بل تساءل، لماذا سقطت هذه التفاحة ولم ترتفع؟ ومن هنا جاءت فكرة الجاذبية، والتي شملت الكون. فكان التفسير السائد لسؤال “لماذا يدور القمر حول الأرض؟” هو أنّ جاذبية الأرض أقوى من القمر، لذلك ينجذب القمر إليها. وتقريبًا هي نفس الإجابة عندما يُطرح سؤال لماذا تدور الأرض حول الشمس؟ لأن جاذبية الشمس أقوى من الأرض، وهكذا..
عام 1783، كان يعيش رجل دين مسيحي إنجليزي يُدعى “جون ميشيل”، أحب ميشيل علم الفلك، ودرس نظريات الكون المختلفة. بناءً على نظرية نيوتن للجاذبية، اقترح وجود أجسام غير مرئية، تستطيع جذب النجوم والأجسام الأخرى. الأدهى من ذلك أنه أشار إلى معلومة في غاية الأهمية، وهي أنه يمكننا الاستدلال على هذه الأجسام الجاذبة إذا صادف وجود نجم في مدار حولها. (لحظة تستدعي رفع القبعة لهذا الرجل).
هل تُدرك ما يعنيه هذا العبقري، الذي ربما لم يملك سوى تلسكوبًا بدائيّا ساعده في رصد أجرام سماوية قريبة من الأرض فقط! لقد اعتمدت فكرة رصد أول ثقب أسود حقًا في سبعينات القرن الماضي على وجود نجم بالقرب من شيء غير مرئي من خلال المرصد الملكي في غرينتش. وقد كان هذا النجم على مسافة 6000 سنة ضوئية!
حسنًا، لنعد بالزمن للوراء قليلًا قبل رصد الثقب الأسود، تحديدًا في بداية القرن العشرين، أطلق عالم الفيزياء العبقري أينشتاين نظريته الشهيرة، وهي النسبية العامة، والتي قدمت مفاهيم جديدة بشأن الجاذبية. تفترض النسبية العامة أنّ للكون أربعة أبعاد، وهي: الطول والعرض والارتفاع والزمن. البعد الأخير هو الذي لم يكن مألوفًا، وهنا تبرز عبقرية أينشتاين. كما افترض أنّ الكون عبارة عن نسيج من الزمكان، لنُبسط الفكرة..
يقول جون ويلر (أول شخص أطلق مصطلح الثقب الأسود):
“تخبر المادة الزمكان كيف ينحني، بينما يخبر الزمكان المادة كيف تتحرك”
أحضر ورقة أو قطعة قماش طويلة – إلى حد ما – واطلب من شخصين الإمساك بطرفي القطعة أو اربطهما باستخدام الحامل. ثم ضع كرة في المنتصف..ماذا ستُلاحظ؟
حسنًا، ستجد قطعة القماش تشوهت في المنطقة التي تستقر فيها الكرة. بعد ذلك أحضر كرة أصغر في الحجم واتركها على القماش، ستلاحظ أنها تتحرك نحو الكرة الكبيرة. وهذا تمامًا ما يحدث على مستوى الكون، فالكون عبارة عن نسيج من الزمكان (قطعة القماش) والأجسام الكبيرة مثل الشمس (الكرة الكبيرة) تشوه النسيج الكوني هذا، وتتحرك نحوها الأجسام الصغيرة مثل الأرض (الكرة الصغيرة) ما يفسر وجود الكواكب حول الشمس. وهكذا الأمر بالنسبة للكواكب والأقمار الأخرى. هذا هو الزمكان باختصار.
كارل شوارزشيلد.. رجل قاد النسبية العامة إلى نقطة التفرد
في عام 1916، استخدم عالم فيزيائي نظرية أينشتاين وافترض وجود ما يُسمى بـ “نقطة التفرد Singularity“، هذا العالم هو “كارل شوارزشيلد”. تشير نقطة التفرد إلى منطقة ضئيلة الحجم، عالية الكثافة بدرجة لا نهائية، جاذبيتها غير محدودة، لدرجة أنّ الضوء لا يستطيع الإفلات منها. تسمى بنقطة اللاعودة، وبسببها يحدث تشوه في الزمكان، يحيط بهذه النقطة منطقة تعرف باسم “أفق الحدث”.
أفق الحدث.. حيث تنهار قوانين الفيزياء التي نعرفها
يقول عالم الفيزياء الشهير “كيب ثورن” عن نقطة التفرد بأنها المنطقة التي تنهار عندها قوانين الفيزياء. وهي تقع وراء أفق الحدث مباشرة. بعد المرور من أفق الحدث، تتفكك الفيزياء التي نعرفها، لا يعرف أحد ماذا يمكن أن يحدث، لكن الأكيد أنه لا توجد أي معلومات تستطيع الإفلات منها.
ظل أينشتاين غير مقتنع بفكرة التفرد هذه، فهي نادرة الحدوث، بالرغم من تدعيم الرياضيات لها، لكن الاحتمال العلمي كان ضئيلًا من وجهة نظره، في نفس الوقت كان منشغلًا بالربط بين نظريته النسبية العامة وميكانيكا الكم. ولا يمكن لوم أينشتاين على عدم اقتناعه، فقد كانت له أسبابه، حيث اتضح فيما بعد أنّ نقطة التفرد هذه لا يمكن رصدها، وكان من الممكن رصدها واضحة فقط أثناء الانفجار العظيم، عندما كانت نقطة التفرد عارية واضحة. لكن القدر كان يخبيء شيئًا..
المصير الكئيب للنجم العملاق.. عن الثقب الأسود
عام 1935، ربط عالم الفيزياء الهندي “سوبراهمانيان شاندراسيخار” بين ما سيحدث عندما يصل النجم إلى نهاية عمره ونقطة التفرد. واقترح أنّ النجم العملاق يبدأ وقوده في النفاد مع اقترابه من نهاية العمر، إلى أن ينفد تمامًا، فيزداد الضغط على نقطة محددة، تتركز فيها الجاذبية اللامتناهية، وينهار النجم إلى نقطة ضئيلة، ثقيلة بدرجة غير محدودة، حتى إنها تسبب تشوهًا في نسيج الزمكان. وهي نقطة التفرد. وبهذا العمل، استطاع شاندراسيخان سد الفجوة بين الحسابات الرياضية والاحتمالات العلمية، ما ساعد العلماء فيما بعد.
عام 1958، توّصل “ديفيد فنكلشتاين”، وهو عالم فيزياء أمريكي، إلى أنه لا يمكن لأي شيء الافلات من نقطة التفرد، بناءً على المعادلات الرياضية. وفي ستينات القرن الماضي، أثبت ستيفن هوكينغ وروجر بنروز وجود نقطة التفرد، وأنها جزء من دورة النجم لا يمكن تجاهله. وبعد وفاة أينشتاين (1955) بنحو 12 عامًا، أطلق “جون ويلر” مصطلح الثقب الأسود في أحد المؤتمرات بنيويورك عام 1967.
اقرا أيضًا: بعض نتائج نظرية النسبية الخاصة: مفاهيم أساسية لم تعد كما كانت
سؤال يراودني.. ماذا سيحدث إذا سقطت داخل ثقب أسود؟
الإجابة المختصرة لهذا السؤال هي: “حقًا لا أحد يدري!“، ربما تظنني أسخر منك، وأقول لك، هذا الأمر مجهول! لكن لا تظلمني، هناك معلومات شيقة أود مشاركتها معك، وهي كلها اجتهادات من علماء عظماء، من بينهم الراحل ستيفن هوكينغ، نجم الساحة العلمية في زمانه، وما زال العلماء يهتدون بضوء علمه لاستكشاف الكون. اعتمادًا على نظرية النسبية العامة لأينشتاين، اجتهد العلماء في تفسير ما الذي سيحدث إذا اقترب إنسان من ثقب أسود.
بافتراض أنك اقتربت من ثقب أسود، هل تعرف تأثير المد والجزر؟ نعم تمامًا كما يفعل القمر مع الأرض، حيث ينجذب الجانب المواجه للقمر له، ما يجعلها بيضاوية. هذا التأثير يحدث عندما يقترب شخص أو جسم ما من الثقب الأسود، يشعر بجاذبية عند أعلى الرأس أكثر من بقية جسمه وأطراف قدميه، ويتمدد الجسم فيصبح أطول وأطول، تتفكك ذرات الجسم، ويسمى هذا بـ “تأثير المعكرونة“، حيث تضغط الجاذبية على الجسم أفقيًا، وتسحبه عموديًا، وينتهي الأمر بأن يصبح جسمك عبارة عن تيار من الجسيمات دون الذرية متفككة تتحرك في الثقب الأسود. لكنك لن تتمكن من إدراك كل هذا، لأنّ ذرات الدماغ تتفكك بسرعة، وبالتالي لا تشهد ما يفعله الثقب الأسود في جسمك.
أما عن حالة التباطؤ. إذا افترضنا أننا نراقب شخصًا على مقربة من ثقب أسود، نحن نقف عند مسافة آمنة، بينما هو يقترب ويقترب حتى وصل إلى أفق الحدث، أي منطقة اللاعودة. لن نستطيع إنقاذه أبدًا، قدراتنا البشرية لا تستطيع مواجهة هذه القوة الكونية الهائلة، كل ما سنفعله أننا سنُوثق هذا الحدث ونراقب ما الذي يحدث له. مع ذلك، سنلاحظ شيئًا أشبه بالخيال، ستتباطأ حركة هذا الشخص إلى أن يبدو وكأنه ساكن. في الحقيقة إنّ أمره يكون قد انتهى، إذ يتباطأ الزمن هناك من فرط السرعة التي ينجذب بها الجسم ويتفتت داخل الثقب الأسود، بينما يمر الزمن بصورة طبيعية بالنسبة لنا، بعبارة أخرى، يتوقف الزمن تمامًا هناك عند أفق الحدث. وفي الحقيقة لقد انتهى أمر هذا المسكين الذي سقط منذ مدة.
لأبسط الأمر أكثر، هل تعرف أقصى سرعة معترف بها؟ إنها سرعة الضوء التي تُقدر بنحو (299792458 متر/ ثانية)، هل تتخيل أنّ الضوء الذي يتحرك بهذه السرعة الهائلة لا يستطيع الإفلات من تأثير جاذبية الثقب الأسود؟ ما يعني أنّ الجسد البشري أو حتى المركبات الفضائية، لا تستطيع الهروب والنجاة من هذه الجاذبية الهائلة، وعندما يقترب منها شخص، تسحبه بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وكلما تحرك الجسم بسرعة أكبر في الفضاء، كانت حركته بطيئة عبر الزمن، ما يفسر لماذا يحدث تباطؤ في الزمن ويبدو الشخص وكأنه ساكن في مكانه، بينما تكون حياته قد انتهت بالفعل! وهذا يقودنا لتساؤل آخر أقرب للخيال..
ما الذي سيراه الشخص الذي سقط في الثقب الأسود إذا ظل على قيد الحياة؟ هذا سؤال خيالي، وإجابته مجرد افتراضات، لكن الأكيد، لا ينجو أحد من المصير المحتوم عند الاقتراب من ثقب أسود، لكن لنفترض أنك بقيت على قيد الحياة، ماذا سيحدث؟ ستشهد على تشوه وتمزق كل شيء داخل أفق الحدث بسبب الجاذبية، وهذا يسمى بـ”عدسة الجاذبية”، مع ذلك، من المستحيل أن تشهد على هذه الأحداث، حيث سيتمزق الجسم البشري بسرعة ومصيره الحتمي مفارقة الحياة.
وأخيرًا.. كل ما حدث هذا يعبر عن تجربة انحناء الزمكان الذي تنبأت به نظرية النسبية العامة لأينشتاين. ربما تبدو النهاية مأساوية بعض الشيء، لكن لا تقلق يا صديق، فأقرب ثقب أسود تعرف عليه العلماء يبتعد عنا 1000 سنة ضوئية، ولا حاجة للقلق.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.