من الشك إلى القلق المُستمر.. رحلة في عقل المُصاب بالوسواس القهري
5 د
من منا لم يُكرّر التأكد من إغلاق الباب أو فصل المكواة؟ تلك اللحظات القليلة من الشك قد تبدو طبيعية. لكن، هل فكرت يومًا أن هذه الهواجس البسيطة قد تأخذ منحىً أشد عمقًا وتأثيرًا؟ في بعض الأحيان، قد تُصبح هذه الهواجس محورًا رئيسيًا في حياة الفرد، حيث تتحول إلى وسواس قهري يتسلل إلى كل تفصيل صغير في الحياة اليومية.
فكيف يمكن لمجرد هوس أن يصبح سيدًا لأفكارنا وأفعالنا؟ كيف يمكنه التمادي والتسلل في النفس البشرية ليوصل صاحبه إلى إنهاء حياته؟
بين ضياع المنطق و ضغط الأفكار.. ظهر الوسواس القهري
الوسواس القهري هو اضطراب يتميز بتكرار تهيّؤات معينة، أو شعور بالحاجة لتنفيذ بعض الأفعال. لكنه ليس مجرد تفكير متكرر أو هوس بسيط. فقد يظهر من خلال أفكار مستمرة تُلحِ على العقل، مثل الشك في أنك تركت الباب مفتوحًا أو القلق من الجراثيم والحاجة المستمرة لغسل اليدين.
وتؤدي هذه الأفكار إلى تنفيذ سلوكيات تكرارية، كالتحقق من الأبواب مرارًا وتكرارًا أو غسل اليدين بشكل مفرط. وبمرور الوقت، يمكن أن يصبح هذا السلوك قاهرًا يؤدي إلى التأثير السلبي على الأنشطة اليومية وجودة حياة الفرد. إذ يصيب الوسواس القهري الإنسان منذ عمر الأربع سنوات ولكن لا يكتشف الفرد الإصابة به إلا بعد أن تكون طاقته استنزفت في عمر البلوغ.
طقوس غريبة تقود الشخص نحو الجنون
التعامل مع الوسواس القهري يشبه الغرق ببحر من الأفكار المتكررة، وأحيانًا تتجاوز تلك الأفكار حدود المعقول. إذ تحول الروتين اليومي للبعض إلى مجموعة من الطقوس التي قد تبدو غريبة للناظرين. فمثلاً؛ هناك من يتأكد عشرات المرات من أنه أغلق الثلاجة بشكل جيد خوفًا من فساد الطعام. وهناك من يتجنب المصافحة تمامًا مخافة نقل الجراثيم، حتى لو كان ذلك في مناسبات اجتماعية هامة.
وقد يجبر الوسواس القهري شخصًا ما على عدم الدخول إلى غرفته إلا بطريقة معينة خوفًا من حدوث مكروه. ليتجاوز الأمر ذلك وينتقل إلى مستويات أعلى خطورة، فيضع المصاب نفسه في أفكار محظورة تتعلق بالجنس على سبيل المثال، ويشكك بميوله الجنسية ويعتقد أنه ينجذب لأمور غريبة هي في الحقيقة مجرد وساوس وتهيؤات، لكنها توصله إلى الجنون وأحيانًا لإيذاء الذات
قد يقرأ المصاب منشورًا عن مرض ما على السوشيال ميديا، فتبدأ الفكرة القهرية بالضغط على الدماغ ويشعر الشخص كما لو أنه مصاب حقيقة بالمرض، لتتطور الحالة فيلجأ إلى طبيب مختص لإجراء فحوصات للتأكد من صحته من المرض. ولكن مريض الوسواس القهري لن يقتنع، على العكس سيقع في دوامة من الأفكار، مثل أن كلام الطبيب غير صحيح وأن أهله وأصدقاء يخفون سر مرضه، وغيرها من الأفكار الغريبة.
الوسواس القهري أسلوب حياة أم مرض نفسي؟
ترى بعض مدارس علم النفس أن الوسواس القهري هو عادة طبيعية خاصة بالفرد، إذ يمكن أن يظهر في الأفراد بأشكال مختلفة. فبالنسبة للبعض قد يكون أشبه بأسلوب حياة يتمثل في التمسك ببعض العادات والروتين اليومي، مثل التحقق مرتين من إطفاء النار أو التأكد من وضع الأشياء في أماكنها المحددة.
ولكن، عندما تتجاوز هذه العادات حدود الطبيعة وتتحول إلى هواجس تكون مصدر قلق وتؤدي إلى تعطيل الحياة اليومية، فإنها تتحول إلى مرض نفسي حقيقي يحتاج إلى تدخل علاجي. وبالتالي، الوسواس القهري قد يكون نتيجة لبعض الروتين اليومي أو العادات التي تكون جزءًا من شخصيتنا. ولكن عندما تتطور هذه العادات وتُصبح تصرفات قسرية ولا يمكن السيطرة عليها، ستتحول إلى مشكلة نفسية يجب التعامل معها بجدية.
أسباب الإصابة بالوسواس القهري
الوسواس القهري مرض معقد قد ينتج عن مجموعة من العوامل من بينها تبرز الجينات، حيث يشير الباحثون إلى أن وجود حالات مشابهة في العائلة قد يزيد من احتمالية الإصابة. إلى جانب العوامل الوراثية، فقد تلعب الظروف البيئية وصدمات الطفولة دورًا في تطور الحالة. وبالإضافة إلى ذلك، تشير بعض الدراسات إلى وجود ارتباط بين التغيرات في بنية الدماغ والوسواس القهري، مع العلم أن هذه المعلومات لا تزال قيد البحث والتحقق.
الوسواس القهري الجنسي وصمة عار تؤدي إلى الهاوية
يُعاني البعض من هواجس تتعلق بالدين والعنف والجنس والميل الجنسي. إذ تعدّ هذه الهواجس جزءًا من أنواع الوسواس القهري، لكنّها تخلو في الغالب من طقوس واضحة للتعامل معها. ومن بين أصعب هذه الوساوس، نجد الوسواس الجنسي. فالأفكار المتعلقة بالوسواس الجنسي قد تكون مؤلمة بسبب حساسيتها وتحفظ الأفراد على الحديث عنها، خوفًا من رد فعل المجتمع ومن تصديق ما يتخيلونه.
فمثلاً، قد يشعر شخص ما بالشك حيال ميله الجنسي، معتقدًا لسبب ما، أنه قد ينتمي للجنس الآخر. ويبدأ هذا الشخص بالتساؤل عن ماضيه، فيبحث عن هذه المواضيع و يتعمق بها ليصل إلى القناعة بأنه يعاني من مشاكل في الهوية الجنسية. فيسترجع ذكريات معينة مثل ارتدائه لحذاء أخته في طفولته أو استعماله لبعض المكياج. هذه الأفكار، وإن كانت بسيطة، قد تصبح مصدر هوس وقلق متزايد لدى الشخص المُصاب بالوسواس القهري.
الوسواس القهري.. معركة مستمرة مع الذات
تعدّ الإصابة بالوسواس القهري تحديًا مزمنًا يتطلب الصبر والالتزام الكبيرين للتغلب عليه. ورغم وجود العلاجات المعرفية والأدوية النفسية كأدوات مساعدة، إلا أن المصاب قد يتخلى عن العلاج مبكرًا بعد شعوره ببعض التحسن، مما يعرضه لخطر الانتكاسة.
الوسواس القهري لا يتمثل في الأفكار القهرية فقط، فقد تظهر معه أعراض جسدية كالرجفان أو الرعشة خلف الرأس، مما يزيد من إحساس المصاب بالحرج أمام الأخرين. ورغم أن البعض قد يتأخر في طلب المساعدة بسبب الخجل، لكن من المهم أن نتذكر أن الوسواس القهري هو حالة طبية كغيرها من الحالات، وليس فيه مكان للإحراج أو الخجل.
التعايش مع الوسواس القهري يحتاج إلى شبكة دعم قوية، سواء من خلال فرق العلاج أو من خلال مجموعات الدعم التي تضم أشخاصًا يمرون بتجارب مشابهة. كما يلعب الدعم العائلي والاجتماعي دورًا حاسمًا في رحلة التعافي، ويساعد في توجيه المصاب نحو الشفاء والاستقرار النفسي.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.