أعمال آني إرنو التي أكسبتها سيرتها الذاتية جائزة نوبل للآداب 2022
6 د
ما لا نبوح به قد يكون حدثًا أو موقفًا أو صراعاتٍ نعيش معها كل يوم، لكن لا نستطيع إخبار الآخرين بها، ويبقى سجينًا في مكان ما، داخل أنفسنا، وقد نُفضيه على الورق؛ لكن الجرأة في مشاركة هذا الورق حاملًا كلمات قاسية، ولكنها واقعية، ويا لها من فرصة مميزة إذا كانت كلمات كاتب، صريحة، واضحة، سلسلة، ومركزة. ينسج الكلمات بإبرة واقعية؛ فيأتي بما لا يبوح به الناس بصراحة مطلقة، ما يُثير ذهولنا. هذا ما فعلته الأديبة الفرنسية "آني إرنو"، الفائزة بجائزة نوبل في الآداب لعام 2022. فما قصتها؟
الواقعية والتحرر من القيود تحصد جائزة نوبل للآداب 2022
ذهبت جائزة نوبل للآداب لهذا العام إلى الكاتبة والروائية الفرنسية "آني إرنو"، تقديرًا لإنجازاتها الأدبية التي هدفت إلى سبر أغوار النفس البشرية، وحللت ما فيها بدقة، وخرجت لنا بنتاجٍ أدبي يعبر عن المعاناة، واتخذت تجربتها الشخصية بطلًا في معظم أعمالها، كما صوّرت مشاعر الذل والغيرة والعار ببراعة جعلتها السيدة الفرنسية الأولى التي تحصل على جائزة نوبل في الآداب.
تقول آني أرنو:
"بالنسبة لي، فإنّ الكتابة كانت ولا تزال وسيلتي لإلقاء الضوء على الأشياء التي يشعر بها المرء، ولكنها غير واضحة"
البداية: صراع بين الخيال والواقع
تبدأ القصة في سبتمبر 1940 عندما استقبلت عائلة إرنو طفلة شقراء وجميلة، أعطوها اسم "آني"، ربما لم يُدرك الأب والأم، اللذين يعيشان حياة بسيطة في بلدة يفيتوت بمنطقة نورماندي في شمال غرب فرنسا، أنّ ابنتهما ستُصبح واحدة من مشاهير العالم بحصولها على نوبل للآداب أو حتى أنها ستصير كاتبةً يتابعها ملايين الناس حول العالم وتُترجم أعمالها إلى لغات كثيرة؛ فالبيئة التي نشأت فيها كانت أشبه بمقبرة للطموح بين أب قاس مسيء، كاد يقتل أمها، وأم مغلوب على أمرها، يسترزقان من قهوة ومحل بقالة.
في نفس الوقت، كانت لهذه النشأة أثرٌ واضح في بصمتها الأدبية؛ فقد استخدمت قلمها لنقل ما مرّت به في حبكات تتأرجح بين الخيال والواقع، كانت بدايتها في الكتابة تتمحور حول قصصٍ من سيرتها الذاتية، وهي أقرب إلى المذكرات اليومية.
عند قراءة كتاباتها تشعر اعترافاتٌ ليس إلا، ولكنها صدمت للجمهور، خاصة المحافظين اجتماعيًا، ما جعلها مترددة في تقرير ما إذا كانت أعمالها خيالية أو غير خيالية. وفي هذا الصدد، يقول "دان سيمون"، مؤسس شركة النشر المعروفة (Seven Stories Press) عن إرنو: "كل ما تكتبه صحيحٌ من حيث الوقائع، ومع ذلك؛ فهي أعمال خيالية رائعة".
محاولة أخرى ناجحة
بينما كانت إرنو طالبة في الكلية، بدأت أولى محاولاتها في الكتابة، لكنها رُفضت من دور النشر؛ فتركت الكتابة حتى الثلاثين من عمرها، عندما كانت متزوجة ولديها طفلين.
وظهر عملها الأول عام 1974، وكان كتاب "الخزائن الفارغة" (Les armoires vides)، الذي يروي قصة فتاة في سن العشرين، تعاني في غرفتها الجامعية من آثار الإجهاض، وتتأمل كيف أدت نشأتها في الطبقة الوسطى إلى الوصول لهذا الموقف المروع، وكانت لهذه الرواية صدىً واسعًا، يكشف عن جرأة ما تحمله؛ إذ تسبح آني في تفاصيل الطفولة والنمو والإجهاض.
وبعد صدور هذه الرواية، وجدت المشكلات طريقها بينها وبين زوجها الذي كان يستخف بكتاباتها، وغضب لأنها لم تخبره أنها تعمل على رواية، وإنما على رسالة دكتوراه.
بمرور الوقت، توترت علاقتها بزوجها إلى أن انتهت تمامًا بالطلاق بعدما أصدرت روايتها الثالثة عام 1981، وهي بعنوان "امرأة متجمدة" (La femme gelée).
تروي هذه الرواية قصة امرأة في الثلاثين من عمرها، متزوجة ولديها طفلان، تعيش في شقة جميلة، ومع ذلك؛ فهي تشعر دائمًا بأنها امرأة مجمدة غير سعيدة في زواجها، وتعيش حياة روتينية بحتة. هذا أثار سخط زوجها، وكثرت المشاكل بينهما إلى أن انتهى زواجهما.
بعد طلاقها لم تتزوج إرنو مرة أخرى، وفضلت العيش بحرية والتفرغ للكتابة.
تشريح خصوصية الذات
في عام 1997، كتبت مذكراتها بعنوان "العار" (La Honte)، وقررت فيها تشريح أكثر اللحظات خصوصية وإهانة في ماضيها، وكتبت في مذكراتها: "سأدرس إنثولوجية نفسي"، وكتبت عن مشهد مؤلم رأته عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، قائلة: "والدي حاول قتل أمي في وقت مبكر من ظهر يوم أحد في شهر يونيو".
ومن بعدها أطلقت عدة روايات تروي فيها تجاربها في الحياة بقسوة ودقة وجرأة بالغة، وكأنها تعترف بكل ما لديها، وتحاول تحليل ما مرت به بدقة، وكأنّ ذاتها على المشرحة أمامها، وهي طبيبة تمسك سكينًا وتكشف التفاصيل الخفية في الأعماق،. لذلك تقول آني عن نفسها أنها عالمة أنثولوجي وليست روائية.
الأب القاسي الآثر
كان كتابها الربع عام 1983 بعنوان "المكان" (La place)، تتحدث فيه عن والدها الذي كان عاملًا ثم تحوّل إلى تاجر صغير، لا يأمل أي شيء في الحياة سوى أن تدرس ابنته جيدًا لتصير أفضل منه. وهذا الرجل، على الرغم من قسوته أحيانًا، إلا أنه كان ذا فضل عليها لم تنسه قط، وكتبت عنه بحيادية ونزاهة، وأخذت تناقش نشأته والوسط الاجتماعي الذي عاش فيه وشكله هكذا.
تمتعت هذه الرواية بأبعادٍ سياسية لتبرز عدم المساواة بين الطبقات، كما أرادت تتبع أصولها وإبرازها؛ لشعورها الدائم بالخيانة لانتقالها من طبقتها إلى طبقة المثقفين، حسب تصريحات آني.
تدقيق في حياة الأم
في عام 1987، نشرت آني رواية "امرأة" (Une Femme)، بعد رحيل والدتها التي تُوفيت في أبريل /نيسان 1986 بعد معاناتها مع مرض أثر على ذاكرتها وسلامتها العقلية.
حاولت آني إبراز قوة امرأة عاملة ثم صاحبة متجر، تحرص على تربية ابنتها وتعليمها، وتوّضح كيف كانت علاقتها مع والدتها بلا حواجز الخجل.
تتحدث آني كذلك في الرواية، عن تناقض مشاعرها مع والدتها بين الحب والكراهية والحنان والشعور بالذنب والتعلق العميق.
معاناة شابة
في عام 2000، صدرت روايتها "الحدث" (L’événement)، التي تتحدث فيها عن معانتها أثناء فترة الستينيات، تحديدًا في يناير عام 1964، عندما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، واكتشفت أنها حامل وأرادت الخضوع للإجهاض، ولم تخبر أهلها ولا أصدقاءها، بينما كانت تواجه قيودًا أخلاقية ومجتمعية كثيرة.
عندما تتحول الغيرة إلى احتلال
وفي عام 2002، صدرت رواية "الاحتلال" (L’Occupation)، التي تحدثت فيها عن شعورها بالغيرة على حبيبها السابق، الذي انفصلت عنه باختيارها، لكنها مع ذلك ما زالت تشعر بالغيرة عليه إذا علمت أنه ارتبط بأي امرأة أخرى، وتصل بها الغيرة إلى حد الهوس، ويأسرها ما شعور الغيرة وكأنها محتلة.
أول سيرة ذاتية جماعية
في عام 2008، صدر كتاب "السنوات" (Les années)، وهو أهم مشروعات آني، وقد نجح في لفت الأنظار، وحقق شهرة عالمية، وأُطلق عليه "أول سيرة ذاتية جماعية"، فهو بمثابة "ملحمة اجتماعية". استطاعت آني عبرها دمج ذاكرتها الشخصية مع الذاكرة الجماعية عبر سنواتٍ طويلة بعد الحرب إلى أن صدرت.
أشاد بهذا الكتاب عدد كبير من القرّاء والأدباء في جميع أنحاء العالم.
تؤمن آني بقوة الكتابة، فقد كانت ملاذها الآمن الذي تبث فيه أفكارها دون تكلف، بحيادية وشفافية تامة، وإن كانت حادة في بعض الأوقات. وتعتزم آني على استمرار إنتاجها الأدبي، خاصة بعد حصولها على نوبل في الآداب لعام 2022؛ إذ ترى أنّ جائزة نوبل مسؤولية.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.