تريند 🔥

📱هواتف

“الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” رحلة فانتازية في قلب العبث

مراجعة كتاب المتشائل اميل حبيبي
ليلى خالد
ليلى خالد

7 د

"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"  لإميل حبيبي والمكتوبة في السبعينيات من القرن الماضي والتي تم تصنيفها ضمن أفضل ١٠٠ رواية عربية على الإطلاق.

لدى قراء العالم العربي آراء متباينة بشدة حول المتشائل، تتراوح بين الانبهار بها أو بغضها النابع من التحفظ على مواقف حبيبي السياسية (أذكر منها موافقته كقيادي في عصبة التحرر الوطني على قرار الأمم المتحدة عام ١٩٧٤ الذي تضمن قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين موحدتين اقتصاديًا، ودعمه لاتفاق "إعلان المبادئ" الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل في واشنطن عام 1993، وتشديده على ضرورة احترام "استقلالية" القرار الفلسطيني)، وإما بسبب نمطها الروائي الساخر غير المألوف.

ومع ذلك،  فمعظم  القراء على اختلاف آرائهم حول المتشائل، يتفقون تقريبًا على أنها لا تشبه غيرها من الروايات الفلسطينية أو العربية، وهو ما أكده "سميح القاسم" قائلًا : "أبرز سمة من سمات أعمال إميل حبيبي، هي تلك الجماعية في الحدث والانسياب، تلك الجماعية الملحمية، التي جعلت سداسية الأيام الستة، والوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، أشبه بمقاطع من إلياذة فلسطينية".

إن جوهر الأدب الفريد باعتقادي هو قدرته على تجاوز الحدود الزمنية والمكانية للوصول إلى القواسم المشتركة بين الناس عامة وفي -حالة المتشائل- بين  العرب خاصةً، إضافةً إلى قدرته على  أن يعكس الواقع  حتى لو كان ذلك باستخدام أدوات كالخيال والسخرية، كما هو الحال في "الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، ليجبرنا بذلك على إدراك  حقائق نخشى الاعتراف بها علناً، وهذا بالضبط ما فعله بي  سعيد أبي النحس عندما عدت لقراءته مرة أخرى.

يرى بعض قراء "المتشائل" أن هذه الرواية موجهة للقارئ الفلسطيني لما تحتويه من الرموز والاستعارات الخاصة، قد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، لكن هذا لا ينبغي أن يكون عائقاً أمام قراءتها؛ فسعيد كان فلسطينيًا مصادفةً وكاتبه الفلسطيني كان قد نجى مصادفةً كذلك، معترفًا بذلك في إحدى المقابلات:"عام 1948، كان من الممكن أن أُقتل كما قُتل الكثيرون، وإذا لم أُقتل فهذا صدفة". 

أرى أن إميل حبيبي في " المتشائل " كان قد سعى  لمخاطبة القارئ في أي مكان، متجاوزاً الحواجز الثقافية والجغرافية والزمانية، ليصل إلى جوهر القارئ العربي على وجه التحديد، ويورطه في متاعب مواجهة ماضيه وحاضره ومستقبله، واضعًا صورته عن ذاته وفهمه لها على المحك.


إميل حبيبي

ولد أميل حبيبي -" الساحر الساخر من كل شيء" كما وصفه محمود درويش في حفل تأبينه- في حيفا عام  ١٩٢١ وهو من بلدة شفا عمرو التي تبعد عن حيفا ٢٠ كم،  كان كاتبًا وروائيًا وصحفيًا وسياسيًا فلسطينيًا.

عاش حياة مليئة بالتحولات السياسية والاجتماعية والتناقضات، حيث انضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني وكان ممثلًا عنه في الكنيست الإسرائيلي لعشرين سنة "، فحبيبي لم يكن مجرد كاتب بل كان ناشطًا سياسيًا بارزًا، واحتلت أعماله الأدبية مكانة مهمة في التعبير عن معاناة المجموعة القليلة الباقية في فلسطين المحتلة الذين وجدوا أنفسهم "أقلية" في وطنهم ويحملون هوية مضطربة مشوهة بمسميات متعددة  " عرب إسرائيل، فلسطينيون من الداخل، فلسطينيون إسرائيليون" .

حصل حبيبي على عدة جوائز تقديرًا لأعماله الأدبية، منها وسام القدس الذي منحته له منظمة التحرير الفلسطينية، و"جائزة إسرائيل للأدب" عام 1992، التي تسلمها من حكومة يتسحاق شمير آنذاك وتبرع بقيمتها لاحقًا  إلى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي كانت تشرف على معالجة جرحى الانتفاضة (فكما ذكرت فإن أميل حبيبي كبطله سعيد مليء بالتناقضات)، وأثار قبول أميل لهذه الجائزة جدلاً واسعًا.

توفي أميل حبيبي في أيار  1996، وأوصى أن يُكتب على شاهد قبره: «إميل حبيبي: بقي في حيفا».


"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل": رحلة في قلب العبث


كتاب المتشائل

"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، رحلة سريالية مليئة بالمفارقات والتناقضات والسخرية الفجة، التي تجعل القارئ يتأرجح بين الضحك والبكاء عبر حياة بطلها سعيد أبي النحس المتشائل الذي يعِد القارئ منذ السطر الأول بأن القصة التي هو على وشك قراءتها  هي " أعجب ما وقع لإنسان منذ عصى موسى وانتخاب زوج الليدي بيرد رئيسًا على الولايات المتحدة الأمريكية" وليخبرنا بنهايته العجيبة منذ البداية والمتوائمة مع حياته العجيبة على حد وصفه قائلًا : "فقد اختفيت ولكنني لم أمُت"

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: (الكتاب الأول يُعاد، الكتاب الثاني: باقية، والكتاب الثالث: يُعاد الثانية) نُشرت منفصلة في مجلة الجديد والتي كان يحررها آنذاك (سميح القاسم) بين الأعوام من ١٩٧٢ وحتى ١٩٧٤، وتعود أسماء الكتب إلى الشخصية النسائية التي كانت في حياة سعيد في فترة كل منها.

منذ السطور الأولى ستدرك عبثية  سعيد أبي النحس وحياته المليئة بالمفارقات وشخصيته التي تجمع الصفة ونقيضها، فهو ذكي وغبي، ومثقف وسلبي، وعميل ووطني في آن واحد، وهو ما سيجعل القارئ غير قادر على تحديد موقفه تجاه سعيد.

يخبرنا سعيد  كيف أنه ولد في "إسرائيل" مرة أخرى بفضل حمار، وبأصل عائلته "المتشائل" هي "عائلة عريقة في البلاد، يعود نسبها إلى جارية قبرصية من حلب لم يجد تيمورلنك لرأسها مكانًا في هرم الجماجم المحزوزة، مع أن قاعدته كانت عشرين ألف ذراع وعلوه كان عشرة أذرع، فأرسلها مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل وتنتظر عودته، فاستغفلته، (ويقال - وهذا سر عائلي - إن ذلك كان السبب في المذبحة المشهورة)، ثم فرت مع أعرابي من عرب التويسات، اسمه أبجر، فطلقها حين وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة أبو عمرة كنية الجوع من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير السبع. وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر، قيل إنه عكاء، فإلى حيفاء على الشاطئ المقابل من البسيط. وبقيا مطلقين حتى قامت الدولة.

وبعد النحس الأول، في سنة 1948، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لم يجر احتلالها." مما سيهيء القارئ منذ البداية بأن  سعيد ليس هو البطل الفلسطيني الذي اعتدناه فهو كما وصفه كاتبه في إحدى المقابلات "أسوأ خلق الله" .

وبالمناسبة كلمة المتشائل هي كلمة دخيلة على اللغة العربية نحتها أميل حبيبي من كلمتين هُمَا: المتشائم والمتفائل وتم استحداث مقابل  لها عند ترجمتها بالإنجليزية "The Pessoptimis . 

يستمر سعيد بالسخرية من نفسه ومما آلت إليه حياته دون تردد، فيخبرنا عن "تسلله" "لإسرائيل" أول مرة من لبنان في سيارة دكتور من "جيش الإنقاذ" ودخوله هناك لأول مرة وشعوره بالذل الذي يقابله رغبة أقوى في أن يعود إلى حيفا وطنه وداره التي خلت من أهلها،  ثم يسخر من حالة ضياع الهوية وإدراك ماهية ذاته وصفاته قائلًا

" أقوم من الصباح من نومي فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا، المتشائم أم المتفائل"

كذلك يسخر من والدته والتي هي أيضًا من عائلة المتشائل والتي كانت كلماتها الأولى لدى استلامها لجثة ابنها البكر وأخو سعيد  مقطعة إربًا بعد أن اقتلعه ونش  في ميناء حيفا:

"مليح إنه صار هكذا وما صار غير شكل"! 

تظهر العديد من الشخصيات الثانوية "الإسرائيلية" التي لا ينفك سعيد بالسخرية منها دون أن يخبرنا بأسماء معظمها بل يستدعيها  بصفات "كالرجل الكبير" أو "ذو القامة القصيرة" على طول صفحات الرواية.

يقع سعيد في حب يُعاد التي تُنتزع منه وتنفى إلى لبنان، ثم يلتقي ب باقية ويتزوجها وتخبره بسرها الدفين الذي يؤدي بسعيد إلى خسارتها مع ولدهما "ولاء" الذي يقرر أن لا يشابه أباه ويختار عدم الاختباء، وفي مشهد حصاره يدور الحوار التالي:

"واقتربت أمه من القبو المهجور خطوة، ثم اقتربت منه خطوة أخرى، ثم نادت عليه:

- ولاء، يا ولاء. بني لا تطلق الرصاص فأنا أمك! فأطبق صمت.

- لا جدوى من المقاومة، فقد كشفوا أمرك.

فأتانا صوته، وقد جعله العمق أجش، وهو يتكلم، كعادته، مضطرًا:

- كيف؟

- هم أرشدوني إلى مخبئك.

ذو صلة

لست بمختبئ يا أماه، إنما حملت السلاح لأنني مللت اختباءكم."

يدخل سعيد -المُفرط  في ولائه للدولة- السجن، بعد أن يرفع راية الاستسلام فوق منزله، بعدما سمع المذيع يطلب من" العرب" رفع راية بيضاء ليناموا آمنين، فيقول سعيد الذي لم يعد يعلم من هو " أنهزم أسلم لي" ورفع الراية في منزله في حيفاء، وهو ما يعني أن باطن سعيد مؤمن بأن حيفا مدينة محتلة ليأتي معلمه يعقوب ويخبر سعيد  بأنه "حمار" لأن النداء موجه "لعرب الضفة" فما شأن سعيد الذي يسكن حيفا التي هي قلب الدولة ولا أحد يعتبرها مدينة محتلة؟
فهل كان بذلك يسخر من نفسه أم من الدولة؟

يلتقي سعيد في الكتاب الثالث بيُعاد ولكنها يُعادٌ أخرى، أترككم مع فضولكم لاكتشافها.

المتشائل هي إحدى تلك الكتب التي يصعب تلخيصها، لأن هيكلها متعمد الفوضى في دلالة على حالة الاضطراب التي يعيشها الفلسطيني الذي بقي في أرضه، أعتقد أن المتشائل رحلة خيرة عليك أن تخوضها كقارئ وحدك ولكن بحذر.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة