كيف استخدمت الـ CIA أسطورة مصاصي الدماء في السيطرة على الفلبين؟
8 د
الحرب، كما نعرفها، هي قيام جبهتين متناقضتين بالهجوم على بعضهما بالأسلحة والنيران، ويفتك بعضهما بالآخر وتتم إراقة الدّماء وتصفية الجنود والرؤوس الكبيرة إن أمكن، ليخرج منها في النهاية ناجٍ وحيد، مع الكثير من الخسائر في الصفوف المادية والبشرية، هذا هو مفهوم "الحرب" بالنسبة للأغلبية، ولكن لا أحد يخطر له أن يأتي على ذِكر ما يُسمى "الحرب النّفسية"، التي لا تحتاج إلى جنود، أو عتاد، بل تحتاج إلى التفكير فقط.
يمكنني شرح مصطلح "الحرب النفسية" لك بمثالٍ قصير وبسيط: هل تتذكر عندما كنت تدرس مادة الرياضيات (أو أي مادة كنت تكرهها أو تخاف منها لصعوبتها بالنسبة لك) بشكلٍ جيد وتقنع نفسك أنك قادرٌ على اجتيازها بنجاح، وتتشجع وتدخل الامتحان بكامل ثقتك بنفسك.
ثم بعد قليل، وبعد استلام ورقة الاختبار بدقائق، يأتي الأستاذ ليرشق بعض الكلمات: "هل الأسئلة صعبة؟ هل لدى أحدٍ منكم سؤال؟ لقد قررت أن أرفع مستوى الصعوبة لكم في هذا الامتحان، فمن يمكنه حلّ السؤال الأخير يُعتبر بطل الرياضيات، والسؤال الثالث، انتبهوا له، يجب أن تدققوا فيه كي لا تقعوا في سهوة أو خطأ".
في تلك اللحظة، تشعر أنت كما لو أنك لم تقرأ، لم تحفظ، لم تدرس شيء، يتجمد عقلك، وتوقن أنك لن تحلّ السؤال الأخير، وستقع في لغط السؤال الثالث، لتُفاجأ بعد الامتحان، وبعدما شبعت "تخبيصًا" ونواحًا في الداخل، أن الاستاذ كان يمزح فقط، وكان يريد تهويل الأمور كي لا نعتبره أستاذًا سهلًا. تبًا له أليس كذلك؟ جعلك في حربٍ نفسية أوقعتك في خسائر. هكذا هي الحرب النفسية.
يلعب الإعلام اليوم دورًا كبيرًا في نشوء الحروب النفسية حول العالم قبل نشوب الحروب الحقيقة على أرض الواقع، فيعزف على وتر إيمان هذه المجموعة الدينية بقداسة معينة، وعلى وتر العقول المتحجرة لتلك المجموعة الأخرى، وانقياد مجموعة أخرى بالتحريض، وهكذا، يحاول تحقيق مُبتغى الأطراف ذات المصالح، بدون الكثير من إراقة الدماء، وقصّتنا اليوم تحكي كيف لعبت إحدى الدول على وتر إيمان خصمها بخرافات معينة، وأشعلت حربًا نفسية في قلبه، جعلتها تسيطر على ما تريد، باستخدام العقل، وبدون اشتباكات.
بداية القصة: استقلال الفلبين
القصة مبنية على ثلاثة أطراف هي الولايات المتحدة الأمريكية، والفلبين، وجماعة من العصابات الشيوعية التي انقسمت عن حكومة الفلبين.
بدأ الأمر خلال الوقت الذي حصلت فيه الفلبين على استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت القوات الأمريكية لا تزال على أراضي الفلبين، وأُنشئت وقتها مجموعة الـ "Hukbalahap" الفلبينية لمحاربة اليابانيين الغزاة في المنطقة، والقتال جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية لتحرير الفلبينيين من اليابانيين.
وقبل أن نكمل، من المهم معرفة مَن هم الـ Hukbalahap أو الهوكس (Huks)؛ فهم معروفون بكونهم مجموعة من العصابات الشيوعية المتمردة التي كوّنت أصلًا بغية محاربة اليابانيين، بقيادة زعيم الهوكس "لويس تاروك (Luis Taruc)" الذي كان مشهورًا كبطل في أعين الريفيين هناك خلال انتهاء الحرب العالمية الثانية.
دمرت الحرب الفلبين، وعاشت فترةً قاسية كانت فيها بحاجة لإعادة بناء كل بنيتها التحتية، بما فيها السكك الحديدية ومحطات المياه والطرق والجسور ومحطات الطاقة. كانت البلد تملك مواردًا طبيعية هائلة مثل الأخشاب والنفط والمعادن، ولكنها تفتقر إلى رأس المال والقدرة الصناعية، لذا كانت بحاجة يد العون.
التعاون بين الفلبين والولايات المتحدة الأمريكية
وكون القانون الفلبيني يحظر على الأجانب امتلاك أي أعمال واستثمارات في الجزر، فكان من المستحيل تقريبًا التأمّل في أي استثمار أجنبي ينهض بالدولة. لذا، ولعمل نقلة نوعية، كان لا بد من إصدار قانون يحكم العمل بين الكونغرس والولايات، وهنا أقر كونغرس الولايات المتحدة قانون تجارة بيل (قانون التجارة الفلبينية)، وعلى أساسه، مُنحت الفلبين 800 مليون دولار كمساعدات، وفُتحت التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والفلبين لمدة 12 عامًا، ولكن من جهة أخرى، طلب الكونغرس أن يسمح القانون الفلبيني لمواطني الولايات المتحدة بامتلاك شركات في الجزر الفلبينية، ذلك لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى اقتصادهم.
لم يُعجب ذلك مجموعة الهوكس، فاعتبروا أن هذا القانون سيجلب لهم المتاعب، كما لو كانت الفلبين تتنازل عن سيادتها لقوة أجنبية أخرى، وسينتشر الأمريكيون في المساحات الفلبينية، أو على الأقل هكذا بدا لهم الأمر.
بالنسبة لرئيس الفلبين في ذاك الوقت، "مانويل روكساس"، فلم يُعِر اهتمامًا لما فكر به الهوكس، بل وطردهم وأبعدهم عن الكونغرس.
انقلاب الهوكس على حكومتهم
وردًا لاعتبارهم، أعلن قُدامى المحاربين من الهوكس (الذين قاتلوا في الحرب العالمية الثانية) تمرّدهم ضد كل من الحكومة الفلبينية والقوات الأمريكية الموجودة على أرضهم.
وبعدما توفي مانويل روكساس، تسلّم بعده "البيديو كويرينو"، الذي لم تكن إدارته فعّالة في محاربة الهوكس، لذا أدى غياب قوة سياسية وطنية تسيطر على الوضع، إلى اضطرار تدخّل وكالة الاستخبارات المركزية لمواجهة ما تبين أنه ثورة شيوعية بقيادة حزب التحالف الديمقراطي، ولأجل ذلك، أرسلت الوكالة المقدم "إدوارد لانسديل (Edward G. Lansdale)" لكبح جماح المتمردين، وهو جندي سابق في سلاح الجو الأمريكي، أصبح فيما بعد ضابط وكالة المخابرات المركزية.
ضرورة الانتقال إلى نوعٍ آخر من الحرب
لم يفكّر لانسديل بالحلول العسكرية التقليدية، فلو نفعَت، لما استُدعي هو في الأصل، لذا كان لا بدّ من حلٍّ بديل. نظّم إدوارد مجموعة من فريق CIA، وقرر التفكير بخطة استراتيجية، وهي إيجاد نقطة ضعف نفسية، أو مخاوف، لدى الفلبينيين، واللعب على وترها، وبالفعل، درس لانسديل وفريقه الفلكلور والأساطير الشعبية في المناطق الريفية المحيطة، وخرج بخطة لاستخدام معتقداتهم ضدهم.
الفلكلور الفلبيني: مخلوقات شريرة مخيفة!
توصّل المقدّم وجيشه إلى فلكلور فلبيني شعبي شائع جدًا في المنطقة، هو "أسوانغ (Aswang)"؛ مصطلح يعبر عن المخلوقات الشريرة، التي نعتبرها عمومًا مخلوقات خيالية، مثل مصاصي الدماء، الغول، والسَّحَرة والحيوانات الضّارية الشريرة. تلعب هذه المخلوقات دورًا كبيرًا في حكايات الأساطير والقصص والأفلام في الفلبين، وهي مخيفة بالنسبة لهم، مخيفة حقًا! خاصة في أجزاء محددة من المنطقة، مثل الأجزاء الجنوبية من لوزون، وبعض أجزاء مينداناو، وبشكل خاص في مقاطعة كابيز في بيسايا.
طبعًا تختلف أسماء المخلوقات المخيفة هذه، وما تفعله في البشر، فمثلًا، هناك "السيلاغان (Silagan) في محافظة كاتاندوانس؛ مخلوق يمزّق كبد ضحيته ويأكله، والـ "ماناناغال (Manananggal)"؛ امرأة ذات أجنحة ضخمة تشبه أجنحة الخفاش، يمكنها فضل جسمها من منطقة الخصر إلى قسمين، لتتمكن من الطيران وأكل الناس ليلًا، بينما تتحول في الصباح إلى امرأة جميلة، وهناك "أسوانغ (Aswang)"؛ مصاص الدماء الذي يمكنه مص دم ضحيته من خلال لسان على شكل خرطوم، وابن عم أسوانغ، وهو "تيك تيك (tiktik)"؛ الذي يستخدم أيضًا خرطومه ليمصّ الأجنة من أرحام أمهاتهم.
*ملاحظة: يُستخدم مصطلح "Aswang" للتعبير عن المخلوقات الشريرة هناك عمومًا، وعن مصاصي الدماء بشكل خاص.
تجهيز العتاد للحرب النفسية
ماذا فعل المقدم لانسديل؟ استخدم معتقدات هؤلاء عن الأسوانغ ضدهم، وذلك من خلال خطة تضمّنت القيام بكل ما يؤمن به الفلبينيون عن هذه المخلوقات:
الجزء الأول من الخطة كان بسيطًا، وهو تخويف الأهالي بـ "اللّعنات السماوية" التي ستحلّ عليهم إذا ساعدوا الهوكس. انتظر المقدم وفريقه يومًا غائمًا، وحلّقوا فوق القُرى المحلية، وبيدهم مكبّّر الصوت، وبدؤوا بعَرض اللّعنات والشتائم باللغة التاغالوغية الأصيلة على الأهالي، وركّزوا بلعناتهم على الأهالي الذين يساعدون الهوكس بتخبئتهم بالملاجئ وإعطائهم الإمدادات اللازمة.
الجزء الثاني كان بالتهويل النفسي من خلال رسم ما يُسمى "عيون الله (Eyes of God)" على جُدران المنازل المجاورة للمنزل الذي يتبين أن سكانه متعاطفين مع الهوكس، وهذه العيون تبيّن الغموض والحقد للناظر إليها.
قام الفريق برسم عيون طوال الليل على المنازل المجاورة للمنزل الهدف، ذلك لتحذير أصحاب المنزل بأن عيون السماء تراقبهم وحاقدة عليهم، وتخويف بقية السكان وكأنّه تنبيه لهم بألّا يفكروا في مساعدة الهوكس.
أما الجزء الثالث، جاء على أعقاب دراسة الفلكلور في المنطقة، حيث اكتشف فريق الاستخبارات أن هناك إحدى المخلوقات التي يعتقد السكان المحليين أنها تجوب التلال ليلًا، وهي مخلوقات "أسوانغ"، مصاصة الدماء التي عرّفناها سابقًا.
عَلم الفريق أن مجموعة الهوكس تعمل خارج المنطقة الحرجية المحيطة بالمدينة وتهاجم القوات الحكومية هناك، لذا قرروا محاولة تكرار أسطورة أسوانغ هناك. بمجرد وصولهم إلى المنطقة، اختطف الفريق مجموعة من الهوكس المقاتلين، أحدثوا ثقوبًا في رقابهم، وتركوا دمائهم تُستنزف، وتركوهم في المنطقة ليعثر عليهم المقاتلون الآخرون.
والنتيجة من خطة لانسديل كانت أن: الأهالي الذين سمعوا اللعنات السماوية، ذعروا ودمّروا نفسيًا، وقام البعض بتجويع الهوكس في المخابئ، بينما فضّل البعض الآخر الكشف عن مخابئهم. وأما عن "عيون الله"، فكان لها تأثير حادّ على الأهالي ظهر في صباح اليوم الذي رُسمت فيه، على حد تعبير لانسديل. وأخيرًا، بالنسبة للقتلى بسبب مصاصي الدماء المُفتَعلين، فقيل إنّه وبمجرد عثور المقاتلين على القتلى، غادروا المنطقة فورًا.
كان هناك أيضًا تعاون بين الـ CIA والقوات المحلية الفلبينية والمستشارين هناك، حيث عمد هؤلاء إلى نشر أفلام دعائية عن الموضوع، وحاولوا زرع الفتنة بين مؤيدي الهوكس، لدرجة أن اضطرت القوات الفلبينية أحيانًا لارتداء زي الهوكس ومضايقة المدنيين، أي انتحلوا شخصيتهم وتصرفوا بسوء.
كانت الخطة ذهبية، عملت مفعولها وكأنها سحر، حيث قيل إنّ السكان عاشوا رعبًا نفسيًا جعلهم يتنقّلون من بلدة لأخرى خوفًا من أن يكونوا الضحية التالية لأشرار "أسوانغ".
استسلم الهوكس بحلول عام 1954، وجاءهم العفو من الحكومة الفلبينية، وأيقن الفلبينيون عندها أن الوحوش توقفت ولن تهجم عليهم!
السيطرة على الفلبين: استغلال الفُرَص!
لاحظت وكالة الاستخبارات المركزية أن التكتيك النفسي عمل عمله، لذا استغلت الفرصة لمكاسب أعلى. حاول لانسديل التلاعب بالهيكل السياسي للفلبين لتناسب وكالة الاستخبارات المركزية، واستفاد من صداقته مع وزير الدفاع الفلبيني السابق "رامون ماجسايساي"، وقام بإقناعه بالترشح لرئاسة البلاد بدعمٍ من وكالة الاستخبارات الأمريكية.
امتثل رامون لأوامر الوكالة بالتهديد، وفاز بعد حملة كبيرة تضمّنت الكثير من المال، والتهديد بالتسلل إلى البلاد مسلحين إذا لم يفز ماجسايساي. تحكّمت وكالة المخابرات المركزية بما يقوله ماجسايساي في خطاباته، وفي سياسته الخارجية والداخلية، وجعلوه يقنع شعبه بتقارير كاذبة عن سياساتهم الشعبية المسقبلية بين الشعب الفلبيني. كما ذهبت وكالة المخابرات المركزية إلى حد إطلاق حملة تشهير ضد المنافس السياسي لماغسايساي، أي باختصار، جعلوه وشعبه تحت قبضتهم.
ببساطة، قدرت وكالة المخابرات المركزية على تحويل دولة الفلبين إلى مجرد عميل برعاية الولايات المتحدة، اعتبرتها قوّة للصراع مع الأعداء، أو حتى نقطة انطلاق لأي عمليات عسكرية في جنوب شرق آسيا، وكان ابتكار الحرب النفسية والتحليل والتكتيك، بابًا فتح أمام أمريكا دولةً كاملة تحت إمرتها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.