ألغاز وأسرار من حضارات الشرق الأوسط القديم لم نستطع فهمها حتى اليوم: من سومر كانت البداية
17 د
ما هو لغز مجموعة الكواكب التي تحيط بالشمس والتي رسمها السومريون قبل الميلاد بـ 3500عام! هل علموا منذ ذلك الوقت بمركزية الشمس وعدد كواكب النظام الشمسي! و ما هو سر التشابه الكبير بين العديد من النصوص الدينية السماوية مع الأساطير البابلية! وما هي حقيقة تلك الحدائق المعلقة، أين اختفت!
حضارات الشرق الأوسط القديم، هي عجائب قائمة بحد ذاتها. تلك المدن والصروح التي أقاموها، القصص والأساطير التي كتبوها، الاختراعات والعلوم والتقنيات التي أبدعوا بها، العجائب التي ما زالت تبهر العالم. من بين كل ذلك، سوف نتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بتلك الحضارات والتي ما زالت غامضة أو غير مفهومة بالنسبة لنا. وربما نستطيع وصفها بالألغاز والأسرار التي لم نستطع فهمها حتى اليوم.
القادمون من الفضاء
اليوم، وفي القرن الحادي والعشرين، بعد 6000 عام على وجودهم، لا بد وأننا نستخدم يوميًا إحدى اختراعاتهم، في سؤالك عن الوقت، في استخدامك المركبات ذات العجلات، أو في استماعك إلى ما يقوله برجك اليوم! إنهم السومريون. لقد كانت الحضارة السومرية حضارة متفوقة ومتطورة، وهي بحد ذاتها لغز محير لم نستطع فهمه حتى اليوم. لماذا! لأن كل شيء بدأ عندهم، بل إنّ “التاريخ يبدأ من سومر”.
وسومر، هي حضارة قديمة تأسست في بلاد الرافدين، في المنطقة الجنوبية بين نهريّ دجلة والفرات، ما يُعرَف اليوم باسم العراق. استوطن هؤلاء القوم هذه المنطقة منذ حوالي 4500 أو 4000 عامٍ قبل الميلاد، وقد استمرت سيطرتهم على المنطقة حوالي 2000 عام، حتى تولى البابليون زمام الأمور بعدهم.
لغز نقوش المجموعة الشمسية عند السومريين وقضية كوكب نيبيرو
قبل القرن التاسع عشر، لم يسمع أحد عن الحضارة السومرية، كأنها لم تولد قط. ولكن، تغيّر كل شيء عام 1850م، عندما عثر المستكشف وعالم الآشوريات الإنجليزي “أوستن هنري لايارد” على مكتبة الملك “آشور بانيبال” صدفةً أثناء بحثه عن الآثار البابلية والآشورية، في أنقاض مدينة نينوى شمال العراق. تتكون المكتبة من 30,000 قطعة من ألواح طينية وبقايا مكتوبة باللغة الأكادية والسومرية.
استيقظت الحضارة السومرية من سباتها الطويل، وكشفت عن عجائبها. إذ أثارت بعض من هذه الألواح حيرة ودهشةً كبيرة، خصوصًا ذاك الختم الاسطواني ذو الاسم (VA 243) نسبةً للرقم الذي يحمله في متحف Vorderasiatische في ألمانيا. انظر عزيزي القارئ إلى النقش الموجود في الزاوية اليسرى العليا من هذا الختم، ماذا ترى؟ ألا يشبه هذا النقش رسمًا للشمس وحولها أحد عشر جرمًا!
وبالطبع، نحن ندرك اليوم وجود ثماني كواكب في المجموعة الشمسية، وتسعةً مع بلوتو- الكوكب القزم- وبوجود الشمس والقمر (اعتبرت الشعوب القديمة بما فيهم السومريين أنّ الشمس والقمر عبارة عن كواكب)، فإن قطعة البازل الناقصة هي الكوكب الثاني عشر، كوكب نيبرو، والذي سنعود إليه فيما يلي. لنعد إلى النقش، هل يُعقل أن السومريين كانوا على معرفة بعدد كواكب المجموعة الشمسية ومركزية الشمس قبل الميلاد بـ 4000 عام؟
يفترض “زكريا سيتشين” والذي يُعرف نفسه على موقعه الرسمي على الإنترنت بأنه “واحد من قلة من العلماء القادرين على قراءة وتفسير الألواح الطينية السومرية والأكادية القديمة”، أنّ السومريين امتلكوا معرفة فلكية متطورة جدًّا، وأنّ هذه المعرفة قد أُعطيت لهم من آلهتهم، آلهة الأنوناكي، والذين قدموا إلى الأرض منذ نصف مليون سنة.
وفقًا لترجمته للألواح السومرية، فقد جاءت هذه المخلوقات التي يبلغ طولها ضعف طول البشر العاديين من كوكب نيبيرو، وهبطت في إفريقيا للتنقيب عن الذهب اللازم لكوكبهم، لكنّ صعوبة التنقيب دفعتهم إلى خلق مخلوقات بشرية عاملة قابلة للاستغلال، وذلك عن طريق التعديل الجيني لأبناء الأرض الأصليين، أو ما دعوهم بالأسلاف!
قال سيتشن لصحيفة نيويورك تايمز عام 2010، قبل وفاته بفترة قصيرة: “أنا لم اختلقها. لقد أرادوا إنشاء عمال بدائيين من Homo erectus الإنسان المنتصب، وإعطاءه الجينات اللازمة للسماح له بالتفكير واستخدام الأدوات”. وبالطبع فإنّ الختم (Va 243) هو حجر الزاوية في نظرية سيتشن.
ما هي الحقيقة وراء نقوش المجموعة الشمسية عند السومريين
قد تبدو قصة سيتشن قصة سخيفة بعض الشيء، لكنها تلقى انتشارًا كبيرًا، تتناقلها العديد من مواقع الويب الأجنبية والعربية، وقنوات اليوتيوب، وصفحات الفيسبوك وغيرها. يمكنك عزيزي القارئ مشاهدة المقطع التالي على قناة History لتتأكد من مدى انتشار هذه الفرضية.
لا بدّ أن نذكر في البداية أنّ دراسة الأختام الاسطوانية هي دراسة فرعية تخصصية جدًّا في السومريولوجيا وعلم الآشوريات. يقول مايكل هايرز وهو مختص في دراسة اللغات السامية القديمة في بحث نشره في جامعة ويسكنسون الأمريكية، أنّه ومن خلال جهود المختصين في الأختام الاسطوانية فإنّ تفسير سيتشن للنقش خاطئ ويفتقر للجدارة العلمية.
إذ أنّ رمز الشمس المزعوم على النقش لا يتوافق مع التصوير المتسق للشمس في مئات الأختام الاسطوانية الأُخرى، والأعمال الفنية السومرية، والذي عُرِف نتيجة ظهوره المتكرر جنبًا إلى جنب مع النصوص المتعلقة بإله الشمس السومري “أوتو”. كان رمز إله الشمس في الديانة السومرية يُرسم على شكل دائرة مركزية مع أربع أذرع مع خطوط متموجة بين كل ذراعين، وفي أغلب الأحيان يُحاط الرمز كله بدائرة خارجية.
يقول الباحث أنّ الرمز الموجود على النقش هو رمز نجمة، إذ غالبًا ما رسم السومريون النجم بثماني أو ست أذرع. وعلى الرغم من أننا بتنا نعلم اليوم أنّ الشمس هي نجم أيضًا، لكن ليس عند السومريين، فقد فرقوا الشمس والقمر والنجم عن بعضهم البعض في أعمالهم.
لكن، إن لم تكن تلك “الشمس” في النقش تشير إلى الشمس، فما هي تلك النقاط المحيطة بها؟ حسب تفسير مايكل هايرز، فإنّ تلك النجمة المركزية ذات الأشعة الستة مع النجوم المحيطة بها هي عبارة عن كوكبة نجمية، وعلى الأغلب فإنها تشير إلى عنقود الثريا.
فالثريا هي من العناقيد النجمية المفتوحة الأكثر شهرة ولمعانًا، تقع على بعد حوالي 410 سنة ضوئية من الأرض، في كوكبة الثور. أطلقت عليها الحضارات القديمة المختلفة تسميات مختلفة مثل “الأخوات السبع”، أو “العذارى السبع”، الفتيات الصغيرات السبع”. وقد يبدو هذا غريبًا للمراقبين المعاصرين، إذ يستطيعون عادةً تمييز ستة نجوم فقط في العنقود. وهذا بالطبع نتيجة التلوث الضوئي الذي تعاني منه حضارتنا. لكن مع سماء قديمة صافية ومظلمة، وعيون حادة تراقب بكثب، يمكن اكتشاف ما يصل لـ 12 نجمة من عنقود الثريا! هل يذكرك هذا الرقم بشيء!
كوكب نيبيرو، هل يتربص بنا منتظرًا في ذلك الفضاء المظلم البارد
حسب ترجمة سيتشن للكتابة السومرية فإن كوكب نيبيرو هو الكوكب الثاني عشر في مجموعة كواكب النظام الشمسي عند السومريين. وقد أدى اصطدام أحد أقماره في الأزمنة الغابرة مع كوكب تيامات، وهو كوكب يقع بين المريخ والمشتري، إلى تشكيل كوكب الأرض وحزام الكويكبات والقمر.
لا بد من التنويه إلى أنّ مصطلح “نيبيرو” يرد ذكره في الألواح والكتابات المسمارية السومرية، ويعني “كوكب العبور”، وكانت علامته المسمارية عبارة عن صليب أو قرص مجنح. ويقترح بعض الخبراء أن المصطلح يشير إلى نقطة ثابتة في السماء، وبعد إعادة تشكيل اللوح الخامس من ملحمة “إينوما إيليش” ترجم الخبراء الاسم “نيبيرو” إلى “نجمة القطب”. أما افتراض وجود الكوكب نيبيرو الذي يتم دورته حول الشمس كل 3600 عام من الأعوام الأرضية، هو احتمال ترفضه المجتمعات العلمية في مجال الآثار وعلم الفلك، وتعتبره علمًا زائفًا وهامشيّا.
كما أنّ وجود كوكب ذو مدار شاذ لدرجة أن يستغرقه الأمر 3600 عام للدوران حول الشمس من شأنه أن يخلق عدم استقرار داخل النظام الشمسي، إذ وبعد عدة دورات فقط، فإن جاذبيته كانت ستؤدي إلى اضطراب كبير في الكواكب الأُخرى.
لكن، وعلى الرغم من كل ما سبق، قد يكون هناك بالفعل كوكبًا غير مكتشف في الأعماق المظلمة والباردة للنظام الشمسي الخارجي. يدعوه بالكوكب التاسع بعد أن خسر بلوتو مكانته، والبعض يدعوه بالكوكب X. حيث لاحظ بعض علماء الفلك وجود تجمعات غريبة في مدارات الأجسام الصغيرة خارج نبتون، وأفضل تفسير لها هو وجود ذلك الكوكب الغامض.
حقيقة سومر
باعتراف الجميع، الحضارة السومرية كانت حضارة استثنائية، وإلى اليوم لم يستطع البعض فهم لغز هذه الحضارة، وأسباب ذلك التقدم والتفكير الإبداعي الذي تحلى به السومريون، فارتأوا أن الكائنات الفضائية والتعديل الجيني الذي قامت به وراء ذلك التفوق! وربما تكون هذه النظرية مدعاة للسخرية، لكن ما فعله السومريون يُعتبر شيئًا خارقًا، وحتى تصلكم الصورة كاملة سأذكر بعض ما حققته تلك الحضارة، ولو ابتعدنا قليلًا عن القصة الأساسية، فأتمنى أن تشملني بحلمك أيها القارئ العزيز.
لقد كتب المؤرخ والخبير في التاريخ السومري واللغة السومرية صموئيل نوح كرامر “كان لدى السومريين ميل غير عاديّ للاختراع التكنولوجي. لقد ركزوا روحيًا ونفسيًا على الطموح والنجاح والريادة والشرف والتقدير”.
كما كتب كرامر في عمله “التاريخ يبدأ من سومر” 39 بندًا من بنود الحضارة الإنسانية التي نشأت في سومر، ومن هذه اللائحة: أول مدرسة، أول حالة لخفض الضرائب، أول دستور للأدوية، المؤرخ الأول، أول تقويم زراعي، أول قصيدة ملحمية عن جلجامش، التجربة الأولى في زراعة أشجار الظل، أغنية الحب الأولى، أول حوض مائي، المناظرات الأدبية الأولى، وغيرها الكثير.
ابتكر السومريون نظام العد الستيني، والذي استخدموه في قياس الزمن وما زال حتى يومنا هذا، إذ يرجع أصل الستين دقيقة في الساعة، والستين ثانية في الدقيقة إلى حضارات تلك المنطقة. بالإضافة إلى معرفتهم الواسعة بالعمليات الحسابية والعلاقات الرياضية.
ومنذ ذلك الزمن السحيق، اهتم السومريون بعلم الفلك والتنجيم، فتتبعوا حركة الشمس والقمر، ووضعوا التقويم القمري، وكانوا قادرين على التنبؤ بالأحداث الفلكية مثل الكسوف. كما رسموا النجوم في مجموعات، وقسموا سماء الليل إلى 12 قسمًا، وأطلقوا عليها أسماء الأبراج، والتي وصلت إلينا من الترجمات اليونانية واللاتينية اللاحقة.
أنشأت الحضارة السومرية وفقًا للأدلة الأثرية ما يقارب الاثني عشر مدينة بحلول الألفية الرابعة قبل الميلاد. وهو نظام يسمى بالدول المدن، حيث تحتوي كل مدينة على سور يحيط بها، يقع في منتصفها “الزاقورة”، وهي معبد على شكل هرم متدرج المصاطب مرتبط بالديانة السومرية.
تضمنت دول المدن الأساسية كلًّا من “إريدو”، و”نيبور”، و”لجش”، و”كيش”، و”أور”، وأول مدينة حقيقية، مدينة “أوروك”. مدينة أوروك هي مركز تجاريّ مزدهر، احتوت في عصرها الذهبيّ عام 2800 قبل الميلاد على عدد من السكان يتراوح بين 40,000 و80,000 شخص، يعيشون بين 6 أميال من الجدران الدفاعية، مما يجعلها على الأرجح أكبر مدينة في العالم القديم.
وعندما كان التاريخ البشري صفحةً بيضاء، نقش السومريون الكلمة الأولى. لقد طوّروا أول نظام كتابة في العالم، والمعروف بالكتابة المسمارية، وذلك قبل الميلاد بحوالي 3400 عام. وهي عبارة عن نص يتكون من علامات على شكل إسفين، تكتب باستخدام القصب الحاد الذي يضغط به على الطين الرطب، ثم يُجفَّف، ليشكِّل الألواح الطينية. على الأرجح قد استُخدِمت الكتابة في البداية لتسجيل الحسابات والمعاملات التجارية، إلا أنها سرعان ما تطورت إلى نظام كتابة كامل يستخدَم في تدوين التاريخ والقوانين والأدب والشعر وغيرها، وقد وثّقوا كل سجلاتهم على الألواح الطينية.
أبدعوا أيضًا في الهندسة الهيدروليكية، إذ اكتشفوا كيفية جمع وتوجيه فيضان نهري دجلة والفرات، وصمموا أنظمة معقدة من القنوات المائية، وسدود يمكن فتح وإغلاق بواباتها لتنظيم تدفق المياه. وبرعوا في علم المعادن، واستخدموا النحاس في تصنيع العديد من العناصر المفيدة، بدءًا برؤوس الحراب إلى شفرات الحلاقة، والأعمال الفنية. اخترعوا المحراث، بنوا المراكب الشراعية، وابتكروا العجلات الدوارة التي تستخدم لتصنيع الفخار بكميات كبيرة، وغيرها.
هم أسلاف شركات التصنيع الحديثة، فبينما كانت الثقافات الأُخرى في الشرق الأوسط تجمع الصوف لتنسج الملابس، كان السومريون أول من فعل ذلك على نطاق صناعيّ، وشكّلوا ورشات عمل كبيرة لصناعة المنسوجات.
لغز النصوص الدينية المتشابهة بين الديانات السماوية مع الأساطير البابلية والسومرية
لنعد قليلًا إلى البدايات. مذكور في القرآن الكريم في سورة هود: “وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء”، وأيضًا في سورة الأنبياء الآية 30 “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ”. وقبل القرآن الكريم، كُتِب في التوراة: “وكانت الأرض خربةٌ وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق وجه المياه”.
وقبل وجود التوارة، كتب المصريون أنّ الإله رع كان أول إله يخرج من المياه الأُولى، ومنه خلق الكون وباقي الآلهة. وقبل المصريين، كانت الأسطورة السورية في التكوين، وفيها كانت الآلهة يم هي المياه الأُولى، والتي انتصر عليها الإله بعل، ثم شرع في تنظيم الكون. وقبل السوريين، كتب البابليون “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض”. لم يكن في الوجود سوى المياه. تروي أسطورة الخلق البابلية هذه والمعروفة بـ”إينوما إيليش” أنّ الكون كلّه وُلِد من آلهة المياه الأُولى تعامة.
وقبل البابليين، بل وقبل كل شيء، كان السومريون. وأساطير الخلق انبثقت من أفكارهم. نقشوا على ألواحهم الطينية، بخطهم المسماري الأول، أسطورة الخلق الأولى. من الآلهة السومرية نمو وهي المياه الأولى، انبثق كل شيء.
هذا التشابه بين النصوص الدينية وبين أساطير التكوين الوثنية عند حضارات الشرق القديم هو أحد أكثر القضايا المحيّرة المتعلقة بتلك الحضارات في اعتقادي. لا يتوقف الأمر على فكرة ميلاد الكون من المياه، هناك الكثير من القصص المتشابهة إلى حد كبير، منها:
فصل السماء عن الأرض
في الأسطورة البابلية، والبابليون كما ذكرنا سابقًا هي الحضارة أو الامبراطورية التي تلت السومريين وسكنت بلاد الرافدين قبل الميلاد بــ 2000 عام تقريبًا، يقوم مردوخ كبير آلهة البابليين بقسم جسد الإلهة تعامة وهي المياه الأولى إلى شطرين، فيرفع أحدهما وهو السماء، ويبسط الآخر وهو الأرض.
تلاهم الإغريق، وفي الأساطير الإغريقية أيضًا تكون جيا إلهة الأرض والتي تلد أورانوس إله السماء الذي يحيط بها بشكل كامل، ثم يتم إبعادهما عن بعضهما والتفريق بينهما عنوةً. ولاحقًا في التوارة، يفصل يهوه إله العبرانيين المياه الأُولى إلى جزئين، يرفع أحدهما ليشكل السماء، ويبسط الآخر والذي تتجمع ماؤه في جانب وتبرز فيه اليابسة في جانب.
وأخيرًا، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: “أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما”.
الطوفان
في القرآن الكريم، في سورة هود، قال الله تعالى: “قلنا احمل من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَن آمن وما آمن معه إلا قليل”. وفي التوراة: “وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك فإني إياك رأيت بارًا أمامي في هذا الجيل”. وعند البابليين أسطورة تقول: “قوض بيتك وابن سفينة، اهجر ممتلكاتك، وانج بنفسك اترك متاعك وانقذ حياتك. واحمل فيها بذرة كل ذي حياة”.
تتكرر المحاور الأساسية لقصة الطوفان في الديانات السماوية وأساطير حضارات الشرق، فالخطوط العريضة للأسطورة هي: أمر إلهي بحدوث طوفان هائل يدمر الأرض، مع اختيار إنسان صالح لبناء سفينة وإنقاذ بعض المخلوقات، ثم انتهاء الكارثة المائية واستمرار الحياة من جديد. لكن بالطبع فإن أقدم نصوص الطوفان قد ذُكِرت في ملحمة جلجامش، وهي ملحمة أدبية سومرية، عُثِر عليها في مكتبة الملك آشور بانيبال والتي أشرنا إليها سابقًا.
الهبوط من الجنة
كلكم تعلمون القصة، لا داعي لنكز الجرح القديم، والحسرة على تلك الأيام. سوف أذكر فقط أسطورةً سومرية بخصوص تلك الأرض السعيدة، ثم قوموا بالمقارنة أنفسكم.
“أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء”
تقول الاسطورة السومرية أنّ دلمون هو الفردوس الذي عاش فيه إنكي إله المياه، مع زوجته ننخرساج إلهة الأرض. فهل يحتاج الأمر أكثر من تربة صالحةٍ يرويها ماءٌ عذب لخلق جنةخضراء! لكن السعادة لا تدوم. إذ تقوم ننخرساج بإنبات ثماني أنواع من الأشجار العجيبة، وقبل أن تجني ثمارها وتفرح بها، يقول إنكي بقطف تلك الثمار وأكلها جميعًا.
تغضب ننخرساج وتلعن إنكي قائلةً: “إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة”. لعنة كهذه تعني الكارثة، كارثة تعني شح المياه وندرتها. يصاب إنكي بثماني علل، ويتألم، ويندم. ثم تتدخل الآلهة لفضّ الخلاف، فتوافق ننخرساج على شفاء إنكي، وتقوم بخلق الإله المناسب لكل علة، حتى يصل الأمر إلى علة الضلع، فإنكي يؤلمه ضلعه، لذا تقوم ننخرساج بخلق الإلهة ننتي من أجله.
و”ننتي” هي كلمة من جزأين، الجزء “تي” يعني في اللغة السومرية ضلع، كما تأتي بمعنى “جعله يحيا” أو “أحيا”، والجزء “نن” بمعنى سيدة، بالتالي يصبح معنى الاسم “ننتي” هو السيدة التي تحيي، أو سيدة الضلع. هل تشبه هذه القصة قصة حوّاء التي خلقت من ضلع آدم، حواء التي “تحيي”!.
لماذا كل هذا التشابه بين النصوص الدينية السماوية مع الأساطير البابلية والسومرية
هناك ثلاث احتمالات، الأول هو اعتماد الأساطير البابلية والسومرية على نصوص التوراة، وهو احتمال مستبعد، بسبب أنّ ملحمة إينوما إيليش يعود تاريخها إلى قبل الميلاد بـ 1800 عام، أي قبل ولادة النبي موسى بأربعة قرون تقريبًا.
الاحتمال الثاني هو أنّ التوراة قد اعتمد على الأسطورة البابلية، وهو احتمال معقول، فاللغة البابلية والكتابة المسمارية قد انتشرت في المنطقة برمتها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. كما قد شاءت الظروف أن يطّلع العبرانيين على الأدب البابلي إبان السبي البابلي للعبرانيين في القرن السادس قبل الميلاد.
أما الاحتمال الثالث هو أنّ كلا النصيّن البابلي والتوراتي قد اعتمدا على نصوص أقدم، أي ربما تأثرت العقيدتان بديانة قديمة تركت بصماتها في العقائد اللاحقة.
لغز الحدائق المعلقة في بابل
لن نبتعد كثيرًا عن الحضارة البابلية، ففيها من الأسرار ما يثير العجب. لكن سنأخذكم قليلًا إلى اليونان، إلى قبل الميلاد بحوالي 225 عام، حين كتب المهندس اليوناني فيلو قائمةً بسبع أشياء، قائمةٌ أصبحت تُعرَف اليوم بعجائب الدنيا السبع في العالم القديم: أهرامات الجيزة، معبد أرتميس في أفسس، تمثال زيوس في أولمبيا، ضريح هاليكارناسوس، فنار الإسكندرية، والأكثر غموضًا على الإطلاق، حدائق بابل المعلّقة.
ما يزال صامدًا منها إلى اليوم أهرامات الجيزة فقط، في حين أن خمسًا منها قد اختفت أو أصبحت في حالة أنقاض. ورغم ذلك، هنالك ما يكفي من الأدلة الوثائقية والأثرية التي تدل على وجودها، وأنها ليست وليدة الأساطير والشائعات. كلها ما عدا واحد، حدائق بابل المعلقة، وهي اللغز الأكبر في القائمة.
تُعتبَر هذه الحدائق من إنجاز ملك بابل العظيم نبوخذ نصّر الثاني، والذي تولى الحكم في الفترة (605-561) قبل الميلاد. وإلى اليوم، لم يتم العثور على أي دليل يشير إلى أيّ أنقاض أو آثار تروي لنا شيئًا عن تلك الحدائق، ولم يرد ذكرها في أيٍّ من المصادر البابلية.
تُعتبر عملية البحث عن هذه الأعجوبة أحد أكثر البعثات الخاصة بدراسة بلاد ما بين النهرين إثارة للمشاعر. ولم يزل علماء الآثار في حيرةٍ من أمرهم حول الأماكن التي قد تتواجد فيها الحدائق، كيف كان شكلها، وما يعنيه مصطلح “معلّقة” أساسًا، وكيف تم ريها، باختصار، هل وُجِدت أصلًا أم لا!
كتب فيلو أنّ الحدائق زُرعت على منصة من عوارض النخيل التي رُفعت على أعمدة حجرية. على هذه التعريشة من عوارض النخيل، زرعت جميع أنواع الأشجار والزهور. لا تكمن الأعجوبة في مظهرها المعلق فقط، وإنما- حسب فيلو- كونها تضم في تربتها كل أنواع الزهور، كل ما هو مبهج ومفرح للعيون. كما أنّ الماء الذي تم جمعه على ارتفاع كبير في العديد من الحاويات، يروي الحديقة بأكملها.
ليس فيلو وحده من ذكر الحدائق فقط، بل يعتمد المؤرخون على العديد من المصادر الأُخرى التي تأتي على ذكرها، منهم الجغرافي سترابو، والمؤلف اليوناني ديودوروس سيكولوس والذي وصف الحدائق بأنها “عجائب”.
بعد الكثير من الحيرة حول فيلو وديودوروس وغيرهما من المؤرخين والكتّاب ورواياتهم عن بابل وآثارها، قرر المؤرخون البحث عن مصدر آخر للمعلومات، مصدر أقدم، كاتب مثل كاليسثينين، مؤرخ بلاط الإسكندر وابن أخ الفيلسوف أرسطو، والكاتب كليترخوس، كاتب سيرة الإسكندر الأكبر. بالإضافة إلى مصدر مهم آخر، وهو الكاهن البابلي بيروسوس، ويبدو أن التفاصيل التي كتبها هذا الكاهن عن الحدائق قد ألهمت كل الفنانين الذين أتوا بعده.
لكن الوثائق شيء، وعلى الأرض شيءٌ آخر، فأين نبحث! فكل عمليات الحفريات والتنقيب التي جرت في بابل لم تسفر عن نتيجة. ماذا عن الهيكل المقوس الذي عُثِر عليه في الركن الشمالي من القصر الجنوبي لبابل عام 1899! لا! ليس أثرًا على الحدائق، ربما كان مستودعًا، أو هكذا اتفق العلماء بشأنه. ماذا عن الثقوب المتباعدة التي عُثر عليها في الطوب الذي بُنيت منه زقورة مدينة أور! هل يكون دليلًا على نظام الري الذي استخدموه لري الحدائق! لا! تم إحداث الثقوب لتأمين التجفيف المتساوي لأعمال الطوب أثناء بنائها.
إذًا، هل اختفت حدائق بابل المعلقة، أم أنها لم تنوجد أساسًا! في مواجهة هذا النقص في الأدلة الوثائقية والأثرية، طرح بعض العلماء السؤال التالي، ماذا لو لم تكن الحدائق المعلقة قد بنيت في بابل أساسًا، ماذا لو كنا نبحث في المكان الخطأ!
فالمصادر اليونانية الرومانية التي تشير إلى الحدائق المعلقة تميل إلى ذكر تفاصيل تاريخية متشابكة مع الأساطير. على سبيل المثال، يضع ديودوروس مدينة نينوى، عاصمة الآشوريين، على ضفة نهر الفرات، في حين أنها تقع على ضفاف نهر دجلة. وفي فقرةٍ أُخرى، يشرح ديودوروس مشهد صيدٍ لأسد رُسِم على جدران بابل، والذي لم يتم العثور عليه في بابل، إلا أنه يتوافق بشكل وثيق مع نقوش الصيد الآشورية المنقوشة على الجدران الحجرية للقصر الشمالي في نينوى!
تقول عالمة الآشوريات بجامعة أكسفورد، ستيفاني دالي، والتي تعتمد على سجلات عهد الحاكم الآشوري سنحاريب (704-61 قبل الميلاد)، والتي تم العثور عليها منقوشة على أحجار بشكل موشور. أنّه وعلى إحدى تلك النقوش، يتباهى الملك سنحاريب بالبناء المذهل الذي بناه: “لقد رُفعت ارتفاع محيط القصر لتكون أعجوبة لجميع الشعوب… حديقةٌ عالية على غرار جبال أمانوس، وضعت بجانبها جميع أنواع النباتات العطرية”.
فهل تصبح حدائق بابل المعلقة حدائق نينوى المعلقة؟
ربما تكشف أعمال البحث والتنقيب في المستقبل الستار عن هذا اللغز الضائع، وربما لا.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
رغم كل الاكتشافات والدراسات وانه لم يعثر على حدائق بابل المعلقة لا بد في يوم من الايام ستكتشف كما اختفت منارة الإسكندرية و أكتشفت في مياه البحر.
اما عن التشابه بين الديانات السماوية و الأساطير المروية اعتقد ان المصدر التشريعى واحد وتم تحريفه بما يتناسب مع الحكام ورجال الدين المسيطرون على شعوبهم .