رواية قلب الظلام: ليست رحلة إلى قلب أفريقيا، بل نظرة إلى نفوس البشر جميعاً!

قلب-الظلام
ياسمين احمد
ياسمين احمد

6 د

في الحقيقة لا تكمن أهمية رواية “Heart of darkness – قلب الظلام” للكاتب البولندي البريطاني “جوزيف كونراد” الأدبية فقط في أنها من الروايات التي ناقشت قضية الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، بما يتبع هذه القضية من تطبيق لفلسفة “نيتشة” التي انتشرت عند نهاية القرن التاسع عشر، ويمكن ببساطة تلخيص غاية هذه الفلسفة في كلمات محدودة وهي “إعادة تقييم القيم” و”تجاوز معايير الخير والشر!”.


قلب الظلام والاستعمار الأوروبي لأفريقيا

رواية جوزيف كونراد قلب الظلام

رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد – طبعة قصور الثقافة.

تكمن أهمية رواية “قلب الظلام” في أن كاتبها “جوزيف كونراد” قد أعتمد فيها على نمط روائي جداً يعتمد على التنقل بين الرواة والقفزات الزمنية والمكانية المفاجئة في سابقة جعلت هذه الرواية هي الأولى من نوعها على كل المستويات، وصنعت من كاتبها رائداً في نمط وتكنيك أدبي مميز اعتمدته من بعده “فرجينيا وولف” و”لورنس داريل”.

وبناءً على هذه المعطيات نجد أنفسنا أمام عمل روائي فريد على الرغم من قصره، فعدد صفحات الرواية في طبعتها الأولى لم يتجاوز المائة صفحة.

نُشرت الرواية لأول مرة في حلقات عام 1899، ثم ظهرت لأول مرة ككتاب عام 1902. وفي عام 1998 وضعتها المكتبة الإنجليزية الحديثة في المرتبة 67 ضمن أفضل 100 عمل مكتوب باللغة الأنجليزية. تُرجمت إلى اللغة العربية لأكثر من مرة منها ترجمة “هاني سمير” عام 1998 وأخرها ترجمة د. مالك السمان الصادرة عن دار التكوين للنشر والتوزيع عام 2019.


من هو جوزيف كونراد؟


الكاتب البولندي البريطاني الشهير “جوزيف كونراد”.

ولد جوزيف تيودر كونراد مورزنيوفسكي عام 1857، من أبوين بولنديين، في أوكرانيا، التى كانت آنذاك تابعة لبولندا، وتوفي عام 1924 في إنجلترا. وقد فقد أبواه في سن مبكر جداً، تعهده خاله بعد ذلك برعايته. وقد كان الأب أديباً، وشاعراً، عُرف بوطنيته ومثاليته. أما الخال فكان رجلاً رزيناً، يبتعد عن الأخطار.

هذه النشأة بين رجلين مختلفين شكلت شخصية “جوزيف كونراد”. فتعلم من أبيه أن يقرأ كثيراً، فقرأ روايات “فيكتور هوجو” ورواية “سرفانتس” الشهيرة “دون كيشوت”. من هنا تعلم المثالية والحماسة التي تناقضت بشكل كبير مع نصائح خاله العقلانية المتريثة.

لهذا السبب ترك دراسته وسافر من وطنه إلى مرسيليا ليعمل بحاراً ليمضي هناك أربع سنوات اتسمت بحب المغامرة وتبديد المال، بعدها التحق بالبحرية التجارية البريطانية عام 1878 ليبقى بحاراً حتى عام 1894. استقر بعدها في إنجلترا وتفرغ للكتاب.


رواية قلب الظلام حالة فريدة في تاريخ الأدب

من المثير معرفة أن “كونراد” قد بدأ في تعلم اللغة الإنجليزية بعد أن تجاوز سن العشرين، ويقال إنه كان يتكلمها بلكنة مزعجة شيئاً ما. ومع ذلك قرر أن يكتب بها، فظهرت أعماله كلها بالإنجليزية، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الأدب الإنجليزي. الأمر الذي لا يعني أن هذا كان عملاً سهلاً. فقد كان يؤكد في أكثر من مناسبة أنه كان يكتب بسرعة السلحفاة وأن إنجازه اليومي لم يكن يتجاوز أبداً صفحة واحدة!

قلب الظلام - رواية جوزيف كونراد

أحد أغلفة الطبعة الإنجليزية لرواية قلب الظلام.

الحديث عن هذه الرواية بالنسبة لي يجب أن يناقش على محورين أساسيين، أولهما هو الفكرة الرئيسية التي تتناولها الرواية وهي فكرة الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، وإيمان بعض البشر بفوقيتهم على البعض لأسباب تتعلق بلون البشرة وخلافه.

والمحور الثاني وهو بناء الرواية نفسها ونمط كتابتها المختلف والاختلاف الذي يثيره تفسير عنوانها، فما المقصود بالضبط بقلب الظلام؟ هل يقصد مثلًا قلب قارة أفريقيا الغامض المجهول؟ أم قلب المستعمر الأوروبي الذي يبيح الشر والاستعباد بغرض نشر الحضارة والعلم والتقدم؟ أم يقصد قلب “كورتز” نفسه الذي حول نفسه إلى معبود وسط مجموعة من الرعاة المغيبين عن حقوقهم؟


نبذة عن أحداث رواية جوزيف كونراد

رواية جوزيف كونراد باختصار هي رحلة بحرية إلى أعالي الكونغو، يقوم بها “مارلو” بطل الرواية الذي يعمل في شركة بلجيكية نشاطها الأساسي هو تجارة العاج، مع مدير مقر “كينشاسا” وعدد من الأوروبيين المسلحين، من أجل إحضار “كورتز” مدير فرع الشركة في الكونغو بعد أن انتشر خبر مرضه، ليتم نقله إلى أوروبا للعلاج.

تتطلب الرحلة من القبطان شيئاً من الخبرة، فمجرى النهر ضيق في بعض أجزائه، ومياهه السوداء متفاوتة العمق وعلى القبطان أن يتفادى الاصطدام بسيقان الأشجار الضخمة، التي تطفو فوق الماء، وأن يتفادى أيضاً الارتطام فجأة بالقاع. لذلك أصبح “مارلو” مضطراً للبقاء بالقرب من الشاطئ، أي بمحاذاة الغابات السوادء المظلمة، التي كان ينبعث من داخلها صياح غاضب، كان يقلق “مارلو” أكثر من كل ما عداه، فيشعر على حد تعبيره (وكأن الأرض قد أصبحت غير الأرض).

خلال الرحلة يبدأ “مارلو” نفسه في التغير، فيتساءل إن كان السود ينتمون حقاً إلى الجنس البشري الذي ينتمي هو إليه! يتساءل هكذا عندما يشاهدهم يرقصون عرايا وقد أمسكوا برماحهم، أو عندما يسمع صياحهم، أو غناءهم، ينبعث من قلب الظلام. ثم يعود فيعترف بأن هذا الصياح يجد صداه في أعماق نفسه، التي ما زالت تحتفظ ببقية من الماضي البعيد، ذكريات في اللاشعور، مضت عليها عشرات أو مئات الاّلاف من السنين.

ولو لم يصف “جوزيف كونراد” هذا التباين في أحاسيس مارلو، لفقدت الصورة مصداقيتها. فكثيراً ما يبدو على حال البشر أو في أفعالهم نوعاً من القبح لا ذنب لهم فيه، لكننا ننفر منه أردنا أم لم نرد، ونستحي في نفس الوقت من نفورنا!

وعندما تقترب السفينة من مقر الشركة حيث يقيم “كورتيز” يلاحظ الجميع الحزن الذي يخيم على السكان الأفارقة وتصيب الدهشة الجميع عندما يجدونهم يهاجمون السفينة في سابقة لم تحدث من قبل، وكأنهم يرفضون مغادرة “كورتيز” للمكان فلقد حول نفسه بينهم إلى آلة يأمر فيطاع ويصدر الأحكام وينفذها وهم بدورهم أعجبتهم الفكرة ربما لمجرد معناها الديني في تحول الصورة التي رسموها طويلاً للمعبود إلى كيان ملموس!


صور أدبية رائعة

استوقفني طويلاً مشهد مقابلة “مارلو” لمدير مقر الشركة بمدينة “كينشاسا”، وهو يتأمل لوحة لامرأة في منتصف العشرين، معتدلة القامة، مرفوعة الرأس، تقتحم الظلام وقد أمسكت شعلة بيمناها تضيء وجهها وحده، الذي ينبعث منه سحر خاص. غير أن المرأة، التي تخطو هكذا في فخر واعتزاز، معصوبة العينين، قد جاءت بالنور، لكنها هي نفسها لا ترى!

وعندما يسأله “مارلو” عن هوية الرسام يجيب بأنه “كورتيز” مدير مقر أعالي الكونغو، “كورتيز” مبعوث الرحمة والعلم والتقدم. الذي يعتقد أن أوروبا جاءت لتنير هذا العالم الجاهل المظلم كما رسمها في لوحته. لكن الحقيقة أنها تقلب كل المعايير والقيم لما يتناسب مع مصالحها الشخصية، فهي لا ترى الحقيقة المجردة وهي أنها تنير لنفسها فقط وتستعبد طاقات وحريات هؤلاء الأفارقة ظناً منها أنها تحميهم من الجهل والمرض وترسم أمامهم طريق التقدم والرقي، فقط لأنها أدرى وأعلم منهم بمصلحتهم!


بوستر فيلم “القيامة الأن” المستوحى من رواية “قلب الظلام”

في النهاية لا يسعنا سوى أن نقر بأن رواية “جوزيف كونراد” المعنونة بـ “قلب الظلام” قد رسمت صورة صادقة للأستعمار الأوروبي في أفريقيا، ولا يوجد اليوم محقق أو معلق صحفي يعرض للأوضاع السياسية في أفريقيا دون أن يتذكر هذه الرواية. أنها كانت السبب في أن يخرج فيلم “القيامة الآن” الذي أخرجه “فرنسيس كوبولا” عام 1979 للنور. وهو من أروع وأصدق الأفلام التي ناقشت حرب فيتنام وجميع أحداثه مستوحاة من هذه الرواية.

ذو صلة

اقرأ أيضًا للكاتبة ياسمين أحمد:

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة