أزمات الهوية بين من نحن وما أخبرونا أن نكون !
حين نُبصر نور هذا العالم ثُلاثي الأبعاد لأول مرة، نكون كصفحة بيضاء، لا نحمل أية تصورات لأحداثنا اليومية أو المُستقبلية، خالون من التوقعات، تملأ جوارحنا أحاسيس بشرية غاية في النقاء وغرائز طبيعية من أجل البقاء، ولكن ذلك طبعاً لا يستمر طويلاً حتى نتعلم أنه علينا نحن أيضا أن ننضم…!
عاجلاً أم آجلاً وبطريقة أو أخرى على كل واحد فينا أن ينضم إلى قطيعه الذي وُلِد به، ويكون عُنصراً فاعلاً فيه بأن يتبنى كل فكرة تُشاع من الأغلبية، ويتشرّب كل المسلمات الأزلية ويُصدق الصورة النمطية التي مُنحت له بل ويفعل المستحيل لأن يتقولب فيها حتى يُناسب مقاييسها وحينها فقط نحقق ما قد نعتقد أنه حقيقة الحياة داخل مُجتمع مُتمدن!
روافد في تشكيل الهوية
الهوية قبل الثورة الصناعية
حسناً! نحن نتفق طبعاً أنه ليس لنا أي اختيار في تشكيل هويتنا فيما هي عليه! لأن جميعنا يُدرك تماماً أن مجموعة من العوامل الخارجة عن إرادتنا بالتأكيد ساهمت في بنائها.
ففي ظل التحولات السياسية المُتسارعة، عولمة الأنظمة الاقتصادية وزخم الثورة المعلوماتية، لم نعد نستطيع أن نحصر بناء الهوية في تلك العوامل الكلاسيكية فقط مثل الأبوين و المدرسة… كما لا يمكننا إنكار التغيرات التي تطالنا وتساهم في توسع رقعة الاضطرابات التي تمس مفهوم الهوية وكيفية تعاطينا مع تأزماتها ومدى إدراكنا لكل ذلك معاً.
الهوية مفهوم معقد وقابل للتمدد وحتى المقاربات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع، هي في تغير دائم وتخضع للتجديد مع الوقت، ففي إطار تطورها التاريخي، عالجت النظريات الأولى هذه الإشكالية بأسلوب تقليدي حيث تطرق أغلبها إلى ماهية الهوية وكيفية تشكلها فحُصرت تلك العوامل في الحدود الجغرافية، الانتماء العرقي والديني، اللغة، التاريخ والأرض المُشتركة إضافة إلى الخاصيات الثقافية والسياسية في التعامل مع الآخر، أي أن هوية الأفراد قبل الثورة الصناعية كانت مبنية على مبادئ التماثل، الانتماء والوحدة، حيث يحمل الإنسان صفات المجتمع الذي ينتمي إليه ويتشارك في نفس العقلية والميول مع المجموعات التي يعيش وسطها ويتآلف معها.
الهوية والخوف من الأخر
بدأت المسألة تأخذ بُعداً آخر مع التطورات الثقافية والاجتماعية، تخلص الأمم من الاستعمار، الحداثة والعولمة كلها روافد وضعت إشكالية الهوية في مأزق كبير، وأصبحت تتمظهر أزماتها على مستوى الفرد والمجموعة أيضاً، فتنامى مع هذا الخوف من فقدانها وضياع بنية المُجتمع الواحد من خلال اختلاط أفراده بثقافات دخيلة، تلك المخاوف كبرت بشكل مُهول لتتحول إلى نوع من الرهاب والتقوقع على الذات.
مُقاومة التغيير والخوف من الأخر أخذ طابعاً مؤسساتياً، فكريا وسياسيا في العديد من دول العالم تحت مظلة المحافظة على الهوية والإرث الثقافي، ومع أنني لا أختلف مع هذا إلا أن مُمارسته أكثر من اللازم وبشكل هوسي ونابع من الخوف من التجديد ساهم بالفعل في تخلف الشعوب، وعلينا أن نعترف أن بعض بلادنا العربية مازالت عالقة في هذه المرحلة، خاصة تلك التي أنهكتها أنظمة الاستعمار، والحكومات الديكتاتورية بعد ذلك فبات معظم مواطنيها مشلولون ثقافياً وفكرياً، قابعين في وهم الحفاظ على الهوية ومُحاربة كل ما هو مختلف خاصة الغرب بصناعته، تجارته… وحتى فنه، والمثير للسخرية هنا أن محاولاتنا للحفاظ على هوياتنا ودفاعنا باستماته بليدة عن خصائصنا الدينية والعرقية خوفا من الانفتاح الكامل على الثقافات الأخرى هو نفسه ما يخلق أزمات الهوية وأجيال ضائعة بين هذا وذاك، تكاد تخطو خطوة إلى الأمام فينتهي بها الأمر بخطوتين إلى الوراء، وقد قالها بصريح العبارة سنة 1968، عالم النفس الاجتماعي الألماني إريك فروم:
“التاريخ هو مقبرة لثقافات عظيمة بنهايات مأساوية، لأنها فشلت في الاستجابة للتحديات الجديدة وكانت غير قادرة على التكيف أو التفاعل مع خطة عقلانية للعمل”
وبعده بسنوات عبّر إدوارد سعيد في مؤلفه عن الاستشراق، عن تلك التصنيفات الدونية التي يربطها الغربيون بالهوية العربية، فيتم تصوير القاهرة أو بغداد كأمكنة تعج بكباريهات للرقص الشرقي ويُوصف تاريخ ملوك العرب بالحريم والجواري المُلتفّة حول السلطان تُطعمه عناقيد العنب وتسقيه من كؤوس الخمر وتخفف عليه حرارة الصحراء بريش النعام العملاق… بينما لم يُنكر سعيد وجود هذه الصور، غير أنه استنكر تضخيمها وإساءتها لثقافة المشارقة وتجاهل علومهم وإنجازاتهم، اليوم نحن والغرب على السواء نعيش أزمات حقيقية للهوية يسببها الحكم على الآخر، إدانته والعيش في خوف مُستمر منه عوض التأقلم معه، تقبله واحترام هويته، وخلق خطة فاعلة للتجاوب معه وأكثر من ذلك التعلم والاستفادة مما يملك.
الهوية والعلاقة بالذات
ومن جانب آخر الهوية هي أيضاً نتاج للبرمجة اللاوعية القادمة من مُحيط المدرسة، البيئة المُجتمعية وبنسبة كبيرة من طبيعة العلاقة مع الوالدين في أول مراحل الطفولة، لأن ما يُطبع في عمق اللاوعي في مرحلة هشة هو ما يُعطينا ذلك التصور عن من نحن الآن، وما يجب أن نكون مُستقبلاً، ما يجوز لنا وما لا يجدر بنا حتى التفكير فيه، أي أن حياتنا بالكامل قد تُقرّر بالنيابة عنا مُسبقاً أو على الأقل تُحصر في اختيارات محدودة غالباً ما ينتهي بنا المطاف مُلتزمين بها باختيارنا أو مُجبرين على تقمص أدوار لا تمت بصلة لذواتنا الحقيقية، فنكون علاقة وثيقة بهوية وهمية نعيش ونموت لكي تبقى صلبة ولا مُتغيرة وهو ما يُدعى في علم النفس بالإيغو.
تجليات ازمة الهوية
والعكس صحيح، فاضطراب الهوية يشمل أيضاً الصورة الذاتية الضعيفة للفرد، حيث يفشل منذ سنوات عمره الأولى كشخص بالغ في تحديد دوره وأولوياته، فتنعدم لديه الثقة بالنفس مع الوقت وتنقصه عُمق الرؤية والموضوعية، ويغلب عليه التخوف فيميل إلى تعريف نفسه من خلال أشياء مادية بحتة كعمل يُزاوله، أو سيارة فخمة يملكها… أو عبر علاقات شخصية معقدة تنهار هويته إذا ما هي انهارت، وأحياناً أخرى عبر تقمصٍ كامل لدور وحيد كأن تُعرّف امرأة نفسها وتلخص حياتها كاملة في دور الأمومة، أو يُحدد رجل نفسه من خلال الدين أو فكر مُعين.
قد تستمر مُحاولة إيجاد الصورة الذاتية المُناسبة لسنوات، البعض يُعرّفون أنفسهم كمُثقفين وفنانين مُبدعين، آخرون قد يدفع بهم رُعبهم من فقدان الهوية إلى نهج سلوكات لا إنسانية كريهة كالإرهاب للدفاع عن الدين والملة.
وخلافاً لما هو معروف، كون اضطرابات الهوية لا تطال سوى فئة المراهقين وتختفي تدريجيا مع تقدم العمر والاندماج مع أدوار الحياة، فقد أثبتت تحليلات طبيب النفس السويسري كارل يونغ والمحلل النفسي الأمريكي إريك إريكسون فيما يُعرف بمراحل النمو السيكولوجي لدى الإنسان، بأن المشاكل التي يتعرض لها الشخص في طفولته ومراهقته ولم تُعالج، تُعاود الظهور بشكل مُتكرر في مراحل عُمره الأخرى، مُتمظهرة في أزمات الهوية التي تكون في غالب الأحيان مُخبأة في أنماط سلوكية شخصية مثل الانسلاخ التدريجي عن الذات لإرضاء الآخرين وتحقيق وهم الانتماء، عدم القدرة على السيطرة على نوبات الغضب، الاندفاعية والتهور في سلوكات معينة كالسياقة، التسوق، تعاطي المشروب… أو الشراهة عند تناول الطعام، إضافة إلى التخوف من الفقدان والتخلي.
نحن نُعرّف أنفسنا كعرب مُسلمين أو مسيحين… نسكن إحدى بلاد العرب ونُعد من مُواطنيها، تعود جذورنا إلى قبيلة أو طائفة مُعينة… بالطبع نحن نعتز بهذا، ولكن هل يعني ذلك أننا الحقيقة المطلقة وأننا نملك الشرعية والمنظور الصحيح للأشياء أكثر من أي شخص لا ينتمي لنا؟ طبعاً لا، فأفكار من قبيل؛ هل تجوز دراسة الطب في بلاد الكُفار؟!! باتت تُشكل حرجاً على حضارة جوهرها الأساس قائم على السعي إلى المعرفة وأخذ الحكمة ولو كانت مطروحة على السكك.
ما نُعرف به أنفسنا دائماً ما هو إلا نُقطة في بحر الحقيقة، فعدا عن كون صورنا الذاتية هي نتاج تجاربنا السابقة وعلاقتنا بآبائنا، إننا بتنا نعيش في العالم القرية، التكنولوجيا والواقع الافتراضي لم يترك لنا خيار أن نُبقي هويتنا في وطن واحد، ملايين يتواصلون يومياً، يشكلون شخصياتهم، يُضيفون لها ويعدلون فيها، يختبرون طبيعة إنسان المُستقبل ذو الهوية الكونية، لذا فالخوف لم يعد خياراً مطروحاً، نحن أمام سفينة الوعي، فإما أن نركبها مُتسلحين بالثقة بالنفس بهويتنا العربية الحقيقية المرنة وتقبلنا للاختلاف أو نُكمل رحلتنا في اتجاه مقبرة الحضارات.
المصادر
1، 2، 3
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
جميل
نعم تلك الدول هي في طريقها للنموورغم أنها دول مصنعة بنسبة أكبرمنا ،فهي أيضا تعيش إشكالية الهوية على المستوى الثقافي،فتعليم اللغة الإنجليزية في الصين مثلاً لم يعرف تطورا إلا في السنوات الأخيرة،وعدا عن الدوافع السياسية(لغة العدو)،هناك مسألة الهوية والخوف من الآخر بالنسبة لهم أيضاً،حيث لم يعد الصينيون أو اليابانيون …كما نتصورهم في أذهاننا وخاصة فئة الشباب واليافعين ، الإقتصاد والسياسة لعبة تفرض شروطها،ولكن كما قلت أخي في تعليقك الثاني،نسبة من شبابنا استطاع أن يتحرر من عقدة الهوية هاته،لأنه حرويثق بنفسه ولايهاب التغيير،المشكل فيمن يُنصب نفسه مُفتياً على الكل في جميع أمورالحياة والضحية فئات المُجتمع الأقل وعياً تزداد خوفاً وتعصبا تجاه هوياتها
نعم تلك الدول هي في طريقها للنموورغم أنها دول مصنعة بنسبة أكبرمنا ،فهي أيضا تعيش إشكالية الهوية على المستوى الثقافي،فتعليم اللغة الإنجليزية في الصين مثلاً لم يعرف تطورا إلا في السنوات الأخيرة،وعدا عن الدوافع السياسية(لغة العدو)،هناك مسألة الهوية والخوف من الآخر بالنسبة لهم أيضاً،حيث لم يعد الصينيون أو اليابانيون …كما نتصورهم في أذهاننا وخاصة فئة الشباب واليافعين ، الإقتصاد والسياسة لعبة تفرض شروطها،ولكن كما قلت أخي في تعليقك الثاني،نسبة من شبابنا استطاع أن يتحرر من عقدة الهوية هاته،لأنه حرويثق بنفسه ولايهاب التغيير،المشكل فيمن يُنصب نفسه مُفتياً على الكل في جميع أمورالحياة والضحية فئات المُجتمع الأقل وعياً تزداد خوفاً وتعصبا تجاه هوياتها
اشكرك يا اختي على هذه الاسطر …ولكن دول الشرق تطورت (اليابان .الصين .ماليزيا ..حتى فيتنام ..ولم تفقد هويتها ..نحن لدينا عقدة فرضت علينا اننالن نرتقي الا بالانسلاخ عن كل قيمنا ….(دع العالم كله ينسلخ من القيم ولنبقى متخلفين ولكن اصحاب هوية …ولكن للاسف لم نجيد هذه ولم نحافظ على تلك ..كالغراب ….
الله المستعان ..
(تلك الايام نداولها بين الناس )……..
مشكلتنا عويصة جدا وتزداد كل يوم لأن من يتصدرالكلام عن المجتمع هم شريحة ليس لها قيمة في رأي الاغلبية من احرار المجتمع واصبحوا مصدر المعلومة حتى في امور الدين والسياسة والاسرة واصبحوا قدوات سيئة لان طريقهم مصدر للثراء والشهرة بدون تعب .وبدون تحمل المحافظة على قيم المجتمع ..هويتنا لن تمنعنا نن التطور ولن تكون حاجزا لنا ان نعيش برقي
مشكلتنا في تغير ايقونات النجاح بشكل مفروض علينا م
صحيح معظمنا يملك هوية مندمجة في هويات اخرى وهذا هو مشكل الذي يتعرض له شباب هذا الجيل بحيث الشاب ينساق الى ان يثبت ما هو وهمي فقط لا غير
شكرا لك، مقال هام وجميل