كيف اخترع التسويق عصير البرتقال ؟
4 د
استخدم الإنسانُ التسويق منذ قرون لبيع منتجاته والإشهار لخدماته، لكن حين تكون الحملات التسويقية ضخمة وشرسة فإنّها لا تتحكّم برغبات المستهلك فقط، بل تُشكّل ثقافته أيضًا وأسلوب حياته اليومي. دعونا نتعرّف معًا على مثال لذلك من خلال هذا المقال.
التسويق الإلكتروني: الآليات الفعالة لجعل منتجك الخيار الأول
كيف اخترع التسويق عصير البرتقال؟
الحاجة أمُّ الاختراع
في بداية القرن العشرين، مُنتِجو الحمضيّات في ولاية كاليفورنيا الأمريكية -الذين اتّحدوا في جمعية تعاونية في أواخر القرن التاسع عشر باسم California Fruit Growers Exchange– عانوا من زيادة كبيرة في الإنتاج بعد أن أثمرت الأشجار المغروسة حديثًا، فكانت الغلّة أكبر بخمسة أضعاف مِن المواسم السابقة.
كان العرض أكبر بكثير من طلب السوق، فلم يتمكّن المُنتجون من تسجيل أرباح مُرضية وعزموا على تدمير نسبة من المساحة الزراعية بحيث يكون الإنتاج مناسبًا للطلب.
سنة 1904، قرّر المنتجون اللجوء إلى خطة تسويقية واسعة النطاق قد تنجح في بيع المنتوج دون اللجوء إلى التضحية بجزء من المساحة الزراعية.
وكالة التسويق التي تعامل معها مُنتِجو كاليفورنيا هي “Lord & Thomas”، وكانت مِن أولى وكالات التسويق وأحسنها عالميًا، وكان ينشط فيها “آلبرت لاسكر- Albert Lasker” الملقّب بأبِ التسويق الحديث.
لم يتّفق الطرفان على السعر، فقد طلبت الوكالة 3000 دولار مقابل الخطة التسويقية التجريبية، ووجد المنتجون هذا الرقم عاليًا جدًا!
استمرّت تجارة حمضيات كاليفورنيا بالتذبذب وفق قاعدة العرض والطلب، وكانت الخسائر المادية تضيّق على المنتجين، فعاد مسؤولو مجلس CFGE إلى شيكاغو للتفاوض مع الوكالة من جديد.
سمح المجلس بإنفاق 10000 دولار لاختبار فعالية التسويق في حل المشكلة، لكن بالتوازي مع ذلك، قاموا بالتواصل مع شركة القطارات Southern Pacific Railway التي كانت تستفيد ماديًا من توصيل الحمضيات من كاليفورنيا إلى ولايات أخرى، واتفق الطرفان على أنّ شركة القطارات ستنفق نفس المبلغ لدعم هذه الحملة من جهتها.. وهكذا عرف التاريخ أوّل حملة تسويقية واسعة النطاق لـ”منتوج قابل للتلف- Perishable commodity”!
سِحر التسويق
أوّل خطوة اتّخذتها الوكالة لتسويق المنتج هي اقتراح علامة تجارية تجمع كل منتوجات CFGE، لكن المجلس لم يقبل تذويب الفوارق الفردية لمنتوج كل شخص تحت اسم واحد.
الخطة التجريبية التي اتفقت عليها الأطراف الثلاثة هي تسويق البرتقال الكاليفورني في ولاية آيوا في أول أسابيع شهر مارس تحت شعار “أسبوع البرتقال في آيوا”؛ هذا الشهر يوافق عادة ذروة إنتاج الحمضيات، ولهذا تم اختياره لإطلاق الحملة التسويقية وإقامة الأسبوع الاحتفالي.
كما أنّ الخطة استهدفت هذه الولاية بالذات لأنّ سكانها عُرفوا بأسفارهم المتكّررة إلى كاليفورنيا شتاءً للاستمتاع بأيام العطلة هناك، لهذا فالمنتوجات الحمضية الخاصة بكاليفورنيا لم تكن غريبة عن الجمهور المستهدف.
استعملت الوكالة ملصقا جذّابا صوّرت فيه “الآنسة كاليفورنيا” تقدّم حبات برتقال طازجة لفتاة أخرى مغلّفة بالملابس الشتوية تعبيرًا عن ولاية آيوا.
كما روّجت الوكالة للمنتوج بشعارات مُغرِية مثل: “Oranges for health. California for wealth – برتقال للصحة، كاليفورنيا للثروة”.
عرفت هذه الحملة التسويقية نجاحًا عظيمًا، حيث ارتفعت نسبة مبيعات برتقال كاليفورنيا بـ 50% في آيوا، وبـ17.7% في باقي الولايات.
وهكذا، اقتنع مجلس المنتجين باستراتيجية التسويق، وقبلوا استعمال علامة تجارية موحّدة “Sunkist” لمنتجاتهم، وعقدوا اتفاقات تسويقية أخرى مع الوكالة بأسعار أعلى، وارتفعت أرباحهم بوتيرة سريعة لم يكن يتوقّعها أحد.
سنة 1914، كان كل أمريكي يستهلك حوالي 40 برتقالة في السنة، وهو ما يمثل ارتفاعًا في الاستهلاك بنسبة 80% مقارنة بسنة 1885.
برتقال للشُرب
استأجرت شركة Sunkist رجلًا يدعى “دون فرانسيسكو- Don Fransisco” ليقوم بتفقّد شُحنات الفواكه في شيكاغو. وفي صيف 1914، تَقَلّد عملًا جديدًا، وهو التجوّل بين الباعة والتجار للاستفسار عن مواصفات البرتقال والليمون التي يبحث عنها الناس ويطلبونها كثيرًا، ثم يقوم فرانسيسكو بإطلاع مسؤول التسويق بالمعلومات التي جمعها.
بمرور الوقت، تبادر إلى ذهنه أنّ مبيعات البرتقال سترتفع بشدّة لو أنّ الأشخاص استهلكوا حبّة برتقال أو أكثر لصنع مشروب طازج.
بالعمل مع وكالة آلبرت لاسكر التسويقية، طوّر فرانسيسكو عصّارة زجاجية بسيطة للاستخدام المنزلي، وأخرى كهربائية مناسبة للمحلات، وهكذا اختُرِع عصيرُ البرتقال!
سنة 1916، انطلقت حملات تسويقية جديدة تحت شعار: “اشرب برتقالة”، “أجود مشروبات الطبيعة”، “عصير برتقال صافي”، كما روِّج للبرتقال كعصير مناسب للرّضع وأنّ الأطبّاء يوصون به للصحة.
بهذه الطريقة، باعت الشركة 70 ألف عصّارة استهلاكية، و140 ألف عصّارة كهربائية، وأكثر من 3 ملايين عصّارة زجاجية بسيطة، وتضاعفت كمية استهلاك البرتقال في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مسبوق.
عصير البرتقال في الثقافة الأمريكية اليوم
لا يمكن لأحد إنكار مكانة عصير البرتقال على طاولة الإفطار الأمريكي وفي العديد من الدول الأخرى، وهناك عدد هائل من الأشخاص الذين لا يستطيعون الاستغناء عن كأس عصير طازج لبدء يومهم.. لقد عرفنا الآن كيف أنّ هذه القيمة لم تكتسبها الفاكهة برتقالية اللون بفضل فوائدها الغذائية فقط، بل بفضل سنوات طويلة من التسويق المكثّف، ولخدمة المصالح المادية لجهات محددة.
فهل عصير البرتقال هو المنتوج الوحيد الذي أدخله التسويق إلى روتيننا اليومي؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.