🎞️ Netflix

Taxi Driver.. هل هو أفضل فيلم عن الوحدة ؟

taxi driver
مهند الجندي
مهند الجندي

9 د

تنبعث مركبته من الدخان الأبيض للطريق، ويرسو نظرنا فوق مقلتيه الحمراوتين، ولا نرى أو نسمع بعدها سوى ما يطلعنا عليه من أقوال وأفعال رمادية، وعلينا الآن إما أن نصدق أو نكذب ما يحدث لامرئ يستوطن الخصم مخيلته؛ فذاته هي ألد أعدائه…وهل يودي بنا إلى الاستمتاع بمشاهدة أفضل فيلم عن الوحدة ؟

يعرض فيلم (سائق التاكسي Taxi Driver) للمخرج مارتن سكورسيزي بطلاً يصارع وحشة عصيبة تسيّره ليبتكر عالمه الخاص ويلعب دور المنقذ لحياة شخص آخر طالما أنه لا يستطيع إنقاذ روحه، السبيل الوحيد الذي يضمر شعوره بالذنب بعد أن فشل بذلك أمام رفيقه الأوحد الذي يداهمه عبر المرآة.

إنها الشخصية السينمائية الأدق وصفاً لحال الفرد الأمريكي؛ رجلٌ وحيد دون أي وجهة يصبو إليها، فيدفعه تخبطه لأن يمتهن قيادة سيارة الأجرة ويقل ركابه إلى وجهتهم المحددة، إذ هو يتمنى الاقتراب من هذا الشعور بأية صورة محسوسة، ويبحث عن هدفه وسبب وجوده ولكن عبثاً!

يجوب ترافيس خلال عمله شوارع مدينة نيويورك الليلية ويدون على أسطر يومياته ما يشهده من شخصيات منحطة أو كما يُطلق عليها “الحيوانات”، ويتمنى أن “يهطل المطر يوماً ما ويجرف معه الحثالة عن الطرقات”، ويسمح لأنبوب المياه العام أن يطهر سيارته بعيد توصيله لأحد ركاب المدينة الوضيعين قبل أن ينهي ورديته اليومية. وفي نفس الوقت الذي نلحظه ينفر من هؤلاء الحثالة..

نراه يتردد كذلك لمشاهدة الأفلام الإباحية، ويحاول بشكل بائس أن يتعرف على موظفة استقبال تلك السينما. يعمل على انتشال فتاة مراهقة من العمل كعاهرة مضطهدة مع أنه قد تعرف في السابق على بيتسي “الملاك ذو الرداء الأبيض” ويصطحبها معه لمشاهدة فيلم إباحي في موعدهما الأول.

يدعي أنه من أشد مناصري أحد المرشحين الانتخابيين على الرغم من اعترافه لغيره بأنه لا يعرف شيء عن هذا الرجل. تعطي بيتسي العبارة الأنسب لشرح شخصية ترافيس بيكل، وتقتبسها من مقطع غنائي يقول: “بعضه خيال وبعضه حقيقي، إنه تجسيد حي للتناقض.”

أفضل فيلم عن الوحدة

يُفسر هذا التناقض عندما نقرأ التعريف الاصطلاحي لشعور الوحدة: وهي حالة شعورية يختبر فيها الشخص إحساسي الفراغ والعزلة الشديدين، والوحدة هي أكثر من الرغبة بالحصول على رفقة معينة أو الحاجة لعمل شيء ما مع شخص آخر، بل هي شعور بالانقطاع والانفصال والغربة عن الآخرين.

كما أن الشخص الذي يعاني من الوحدة قد يجد مسألة إنشاء أي علاقة إنسانية ذات معنى أمراً صعباً أو مستحيلاً. وغالباً ما يتملك الأشخاص الوحيدين حالة الفراغ الداخلي أو الجفاء، ويصاحبهما شعوري البعد والانعزال عن العالم.


 من أفضل خمسة أفلام حققها المخرج مارتن سكورسيزي

نتعرف على ترافيس بيكل (روبيرت دي نيرو) في بادئ الأمر عند توجهه للعمل كسائق تاكسي، فيعلمنا حينها أنه جندي سابق من الحرب الفيتنامية وعمره 26 سنة، يسأله الموظف المسؤول عن تعيين السائقين الجدد “لماذا تريد أن تعمل كسائق؟” فيجيبه “لا أنام ليلاً”.

وبما أنه يمضي ليله وهو يجوب الطرقات عاطلاً عن العمل، يقرر أن يقتات من أرقه والعمل كسائق لا يمانع أي وجهة يختارها الراكب، ولا يكترث بوقته أو مكانه، فالمسألة “لا تشكل فرقاً عنده”. ندخل عالمه وعقله اللذان يعيش وفقهما معزولاً عن الناس ونستمع لصوته يسرد مذكراته التي غالباً ما تدور حول دناءة مدينة نيويورك وهي مسرح حياته أو إبرازه للأشخاص الذين يتركون أثراً مغيراً في شخصيته أو أولئك الذين يرى أنهم يفسدونها.

يقدم لنا ترافيس المرأة التي تستحوذ على تفكيره واسمها بيتسي (سيبيل شيبيرد)، واصفاً ظهورها الأول “كملاك يرتدي فستاناً أبيضاً”، مترقباً لها بنظراته من خارج مكان عملها في مقر الحملة الانتخابية للمرشح تشارلز بالنتاين،  معجباً بما يراه فيها من استقلالية وعفة مستمتعاً بطعم شرابه..

وكأن مخيلته قد شطحت بعيداً في ملامحها. يتجرأ أخيراً للتحدث معها بحجة تطوعه لحملة الانتخاب، والأكيد أن ترافيس لا يملك أدنى فكرة حيال بالنتاين أو أفكاره أو أهدافه، وجوابه عن سؤال بيتسي “لماذا ترغب بالتطوع؟” يوضح ذلك “لأنكِ أجمل امرأة شاهدتها في حياتي”.

يتمكن من إقناعها في قبول دعوته لاحتساء كوب من القهوة ومن ثم الذهاب معه إلى السينما (مرتديةً فستاناً أبيض اللون كذلك)، إلا أنه يُفسد كل شيء عندما يعمد على اختيار مشاهدة فيلم إباحي، ضارباً طهارتها التي وصفها سابقاً بعرض الحائط، جارفاً بها أسفل عالمه الشيطاني الدنس.

تمتنع بيتسي بعيد تلك الواقعة عن الاستجابة لمكالماته وتنفر منه كلياً، فيهاجمها ويضعها مع البقية في نفس الخانة “أنتِ في الجحيم وستموتين هناك كالآخرين”. تأخذ حياة ترافيس منعطف مناقض جديد، حيث يصمم على لعب دور البطل في حياة فتاة ليل مراهقة تدعى آيريس (جودي فوستر)..

والتي يشعر أنها قد لجأت إليه ليجد لها مخرجاً من هذا العالم الدنيء ومن هذه المهنة الرخيصة ويعيدها إلى منزلها سالمة، بيد أنه لا يدرك بعد العواقب التي تنتظره في هذه المهمة.

(سائق التاكسي) بلا أدنى شك من أفضل خمسة أفلام حققها المخرج مارتن سكورسيزي طوال مسيرته الوافرة بالإنجازات المهمة (يصعب حصرها). وتكمن قيمة الفيلم كمقام أول في تعدد أبعاد وقشور القصة التي كتبها بول شريدير، حيث يمكن النظر لأحداثه كإثارة بحتة حول رحلة هذا الرجل في عالم الوضاعة لمنتصف سبعينات نيويورك، أو متابعتها كدراسة لواحدة من أعقد الشخصيات السينمائية وأكثرها تحدياً، أو كذلك مشاهدتها كدراما نفسية تتناول مواضيع الوحدة والهوس وتشويه الذات وتعذيبها.


أفضل فيلم عن الوحدة

 ثورة سينمائية

غير أن ثورة الفيلم المتمثلة في تنفيذه البصري وعمقه السينمائي المرئي على الشاشة تعود لعبقرية مارتن سكورسيزي والممثل روبيرت دي نيرو. وتؤكد الاختيارات التي قام بها سكورسيزي في أسلوب سرده لهذه الحكاية على فهمه الشخصي لما يريد بول شريدير أن يقوله تحديداً.

يتبنى كل من الكاتب والمخرج مدينة نيويورك كبقعة مثالية وفصيحة لروح الشخصية الرئيسية، بحيث أنهما يقدمان نسخة طبق الأصل لما كانت عليه تلك المدينة وما عانته من انحطاط وخلاعة وارتفاع في نسبة الجريمة آنذاك، وهي القاعدة التي تعطي تبريراً للأرضية التي تقف عليها نفسية ترافيس بيكل وافتقداه لأي وجهة يهتدي إليها. لكن هل سبب عذاب ترافيس يعزى إلى قذارة مدينته التي تحيطه، أم أنه يتخذها حجةً تتستر على أفكاره وتعذر أفعاله؟

ونجد من خلال التمعن الصحيح بين عنصري الكتابة والإخراج أن الفيلم يتجدد عند كل مشاهدة، فالنص الذي خطه بول شريدير يعد من أكثر السيناريوهات ابتكاراً وحيويةً في الأربعة عقود الأخيرة؛ ويتضح ذلك في الاحتمالات العديدة التي يطرحها الفيلم والتفسيرات المتعاقبة التي تحتملها المشاهد الرئيسة فيه.

وكان سكورسيزي قد فطن لهذه الميزة فتعمد تقديم القصة كاملةً وعرض مجرياتها من وجهة نظر ترافيس، فنقبل ما يمليه علينا عن حياته الشخصية وتاريخه ونصدق ما تراه عينيه ونصغي لما يدونه من يوميات، وبذلك صرنا أسرى طوعيين لعقله وتصرفاته، وتولف بيننا علاقة اهتمام وتعاطف لا إرادية عند أي موقف يتعرض إليه.

يستفيد سكورسيزي من المقدمة التي يبدي فيها ترافيس رأيه حيال الفواحش التي يشهدها وامتعاضه الشديد منها، وعليه نرضى تلقائياً أن يمثلنا على الشاشة بطل يتضح فيما بعد أنه رجل مختل، بجنونه الذي يسكن كل مشهد في الفيلم دون أن يعي ذلك.

ويضفي (سائق التاكسي) فكرة أخرى ألا وهي تكفير الذنوب التي لازمت الكثير من أفلام سكورسيزي اللاحقة، وبما أن ماضي شخصيته الرئيسة غامض ومجهول فعلياً بالنسبة لنا (كيف لنا أن نتأكد أنه جندي فيتنامي بحق ونحن نسمع ادعاءاته الكاذبة بالعمل لدى الحكومة في حين وأنه موظف في قسم مكافحة المخدرات في حينٍ آخر؟

عدا عن اللقطات التي تعطي تلميحاً لعنصريته تجاه السود أو مقته من تجار المخدرات)، فنشعر بلا ريب أن ثمة مرارة ومآسي تلقي بظلالها على وجه ونفسية ترافيس، وبذلك فإن التناقض الذي غمر أفعاله يؤكد محاولاته الملحة الموجعة للقلب لمسح ما ارتكبه من خطايا فائتة..

ومن هنا يأتي دور آيريس لتوفر له الفرصة الثانية كي يغير نظرته تجاه نفسه في المرآة. تشير عين سكورسيزي لهذه النقطة في بعض اللقطات التي توضح ما يعانيه من عزلة وحاجة للرفقة، تذكّر المكالمة الهاتفية التي يجريها ترافيس مع بيتسي، راقب حركة الكاميرا وهي تتجه يميناً إلى رواق موحش وفارغ وتثبتها هناك للحظات قبل أن يختتم المشهد بعبور ترافيس فيه، مرتحلاً وحيداً ومتأملاً لتجرد المكان بعبوس (وكأن الكاميرا نفسها لا تتحمل الألم النابع من صوته وتشفق عليه من نظراتنا).

ترافيس بيكل هو حتماً شخصية يجب أن تُفهم جيداً، والدليل أننا نشعر بصدق مشاعره تجاه بيتسي، خاصة في المشهد الذي تهرع به خارج السينما ويحاول أن يوضح لها جهله فيما يتعلق بالأفلام، فهل كان سيتغير حاله لو طلب نصيحة أحدهم حول النساء؟

من جهة أخرى نشاهده يحرق الورود التي رفضتها بيتسي منه كإشارة على تخليه عن فكرة الحب راكناً مرساته على ضفة نسائية مختلفة، بحيث أن محاولته الأولى لإنقاذ بيتسي من وحدتها ومللها كان مصيرها محتوم بالفشل لأنه قد تعامل معها كما كان يعامل نفسه، ومحاولته بقتل مرشحها المفضل باءت بالخذلان أيضاً..

في حين أن قراره بإنقاذ آيريس فرض عليه إجراء تغييرات جذرية ومنها صورة “المحارب الهندي” والقضاء على أصل هذه الأوساخ والرجال المسؤولين عنها بالعمل؛ ومن هذه اللحظة بدأت مأساة ترافيس تزداد سوءاً بقناعته أنه لا يستطيع الاختلاط مع الناس بصورته الحقيقية، بل أضحى واثقاً أن مثوله دون أقنعته لن يجديه نفعاً مهما كان مقصده أو فعله.

أفضل فيلم عن الوحدة

 أداء لا ينسى من روبيرت دي نيرو

لن يسهل على المشاهد هضم أو استيعاب فحوى الحكاية ككل من المشاهدة الأولى أو الثانية، وهذا جزء من باطنية الفيلم الأزلية. تُفصح موسيقى بيرنارد هيرمان عن أسرار القصة المرعبة بالمزج بين شاعرية آلة الساكسفون ونقرات الطبل..

وتساعدنا على تفهم القصة بطريقة أو بأخرى؛ وكأنها تلحن لآذاننا كيف ينظر ترافيس لمدينته وسكانها (تقترح وجود علاقة حب وكره بينه وبين نيويورك، وإلا لماذا لا يرحل للعمل في مدينة أخرى؟ وبالتالي المزيد من التناقض). بينما تصوير مايكل تشابمان يقدم صوراً حمراء بالية عن نيويورك وكأننا نمقت وجودنا داخل نادي ليلي عفن، وبخروجنا منه تتعثر أقدامنا في مستنقعٍ دمويٍ موحل.

حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على إنتاجه، لا يزال من الصعب أن نقدر مدى مرض أو اختلال ترافيس بيكل، فبراعة كتابة وتصوير الشخصية ساهمت في إثراء شعبية الفيلم لدرجة وصلت أن بعض المشاهدين يرونه بطلاً يجسد شعورهم الخاص حول الوحدة وآخرون يعدونه نقل حي للشر الدفين في نفسية كل إنسان.

سرعان ما ستكتشف أن المفتاح الرئيس لفهم رسالة الفيلم وتفوقه يأتي من خلال أداء روبيرت دي نيرو الماهر بتحوله السلس ليكون ذلك الشخص بلحمه ودمه، ويفزعنا لتفهمه تلك التعقيدات والمشاكل التي تؤرق صميم ترافيس وتعبيره المقلق عنها.

ستبقى مسألة الاقتناع أو الشك بمجريات المشهد الأخير قابلة للنقاش إلى الأبد (فوقية الكاميرا وتجوالها هي نظرية إلهية حيال فدائية ترافيس، وبدورها تعطي الفيلم وترافيس خلاصهما الروحي).

تسائل بعض النقاد إن كان هذا المشهد برمته من فبركة خيال ترافيس نفسه أم لا، بيد أنني مهتم أكثر بالمشهد الذي يجتمع به مع بيتسي قُبيل الخاتمة، انتبه لوجهها وهي تنادي اسمه من خارج التاكسي بعد أن أوصلها، تبدو اللقطة وكأنه الموقف الذي يتمنى ترافيس أن يخدع به الفيلم نفسه بالقول “هل أصبحت بطلاً بنظر بيتسي؟”، لأننا داخل التاكسي لم نرها سوى من خلال مرآة ترافيس، ومنذ متى نثق بما نشاهده فيها؟ ترافيس نفسه راودته الشكوك حول ما رآه وقام بتعديلها.

 اقرأ ايضاً لنفس الكاتب :

ذو صلة

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ندمت اني ضيعت وقتي مع الفيلم ده بس بعد شرحكم فهمت قد ايه الفيلم حلو

انا عايز افهم نظرة الفزع اللي ظهرت عليه ف المشهد الاخير بعد مانزلت بيتسي من التاكسي

أيضا Gravity
127 Hours
كانت افلام أكثر من ممتازة عن الوحدة

فلم رائع ومن افضل اعمال دي نيرو ,ولاكن حسب رأي افضل فلم عن الوحدة هو Her في السنة الماضية و أيضاً لاننسى الديزاين الخرافي للشخصيات والذكاء الاصطناعي !

ذو صلة