The American .. أحد أفلام جورج كلوني المظلومة من النقاد !
6 د
لا يمكنك إنكار وجود الجحيم. فأنت تعيش فيه. إنها بؤرةٌ لا حب فيها. الأب بينديتو
توحي ملامح وجه جاك الآثمة الجافة في فيلم (الأمريكي) للمخرج أنتون كورباين عن قلبٍ مذبوح وجسدٍ بلا روح؛ قاتلٌ يبرع بصنع وإصلاح الأسلحة والآلات، يعجز عن إصلاح نفسه وما تبقى له من دنياه، معاشراً لنسوة من ذات العالم الموحل.
بحثاً منه عن حياةٍ يتفهمها غيره وسط كل هذا الموت وكل هذه الغربة عن ما هو آمنٌ وسعيد. تسير مجمل أحداث الفيلم وفحواه كجثةٍ هامدة بالأتراح تتأملها عدسات المخرج بين المناظر الطبيعية البعيدة والزوايا الضيقة لبلدة ريفية إيطالية سعياً للقليل من الطمأنينة والسكينة..
وكأنها وحشة النفس ووحدة المكان، تلك الدروب الخضراء التي يصل إليها ذاك الأمريكي ويخطو عتباتها بين أجراس الخلاص لكنائس البلدة، حاملاً معه حقائبه التي تقطر بذنوب وكروب ماضية دامية، مصغياً مغلوباً على أمره لتصاعد حسيس ألسنة الجحيم وحسابها العسير.
يتطرق السيناريو الذي اقتبسه روان جوفي – السيناريست لفيلمي “الملاذ الأخير” و“بعد 28 أسبوعاً” عن رواية “رجل شديد العزلة” للكاتب الراحل مارتن بوث – إلى الهفوة الصغيرة التي يقع بشركها أقسى وأذكى القتلة الأمريكان، وأكثرهم حذراً ورجولة: خطيئة الحب المستحيل. وبالرغم من وصول هذا الفيلم متأخراً قليلاً بمضمونه الذي عولج مراراً من قبل (لا عجب حول ذلك علماً أن الراوية صدرت في العام 1990)،
وافتقاره لمعالجة أكثر تعمقاً تعطي كافة أوجه العمل حقها، يبقى فيلم (الأمريكي) عملاً ذكياً ومثيراً للاهتمام في كل مشهد من مشاهده الهادئة الخامدة، كصور ضبابية يتلمس بها جاك طعم الخسارة بمرارة وطعم الحب بشق الأنفس، بعد فوات الأوان.
يفتتح الفيلم في السويد، حيث يستجم جاك (جورج كلوني) مع صديقته في أجواء عاطفية ويبدو منهمكاً بالتأمل والتفكير. يقرران التجوال والسير في الثلج وصفاءه الأبيض، وأثناء ذلك، يلاحظا وقع خطوات أحدٍ ما، قبل أن تبدأ طلقات الرصاص باستهدافهما من شخص مجهول.
يتمكن جاك من إردائه قتيلاً، ويتخلص من صديقته أيضاً التي يتضح لاحقاً أنها لم تكن ذات صلة بالموضوع. نعرف بعيدها أن جاك كان يعمل هناك في مهمة لم تسر كما هو مخطط، فيبلغ منسق عملياته أنه قد قرر السفر إلى روما الإيطالية لبعض الوقت..
لكن زميله يعارضه ويطلب منه المكوث في بلدة أخرى تدعى كاستيلفيكيو، يتخلص جاك الحذر من هاتفه النقال كي لا يتمكن أحد من تعقبه، ويبحث عن مدينة أخرى لا يعلم عنها سواه.
فور وصوله هناك، ومشاعر الحسرة تعتريه جراء قتله لامرأة بريئة، يعترض طريقة ثلاثة أشخاص يغيروا مجرى حياته إلى الأبد. الأب بينديتو (باولو بوناسيلي) الذي يهمس في آذان جاك المفارقة المأساوية لحياته في الدنيا والآخرة..
وماتيلدا (ثيكلا رويتن) العميلة التي تطلب منه صنع سلاح خاص لقاتل آخر، وما تحمله في جعبتها من خبث المجرمين كحاله هو، وكلارا (فيولانتي بلاتشيدو) فتاة الليل التي تضع جاك بين مفترق طرق بين الحب الصادق والخيانة المؤلمة. فهل سيتنازل عن قوانين مهنته ليضفي معناً جديداً لحياته والأخطار تحفوه من كل جانب لاسيما أن أحداً ما يتربص له في الخفاء، ويهدف لقتله عاجلاً أم آجلاً؟
يجد جاك في هذه البلدة الريفية مأوىً يحتمي ويواجه بها مصيره المقدر له لا محالة. فاجتماع هذا القاتل المذنب مع رجل الدين، نقيضي الخير والشر، يعطيه فرصة أخيرة للتعرف على نهايته المنتظرة لما ارتكب من أفعال وما اختاره من مهنة.
يتبين ذلك ليس فقط من الحوارات التي تجمعه مع الأب بينديتو وحسب، إنما أيضاً في الطريقة التي تتسلسل بها ساعات ومشاهد جاك هناك، حيث فطرته بصناعة سلاح فتاك خاص أو احمرار الصورة أثناء معاشرته للنساء أو عتمة مباغتته لشخوص يسعون لقتله..
كل ذلك ونفسيته تحتضر بروية جراء تسرب بصيص الخلاص عنه، ربما لأن “كل الرجال مذنبون” كما يقول، أو أن كل ما قام به من أفعال، كان له “سبب وجيه للقيام به”. ففي حياة عرف من خلالها استحالة الثقة بأي أحد، نجد أن لقاءاته مع بينديتو تمثل فسحة لحب عويص يخلصه من القوانين التي قيدته ليظل سائحاً حذراً طوال حياته المعقدة، ولو لبعض الوقت.
تسهم لقطات المخرج الهولندي أنتون كورباين البعيدة بمساعدة المصور السينمائي مارتن روهي (“هاري براون“) على تأكيد شعوري الحيرة والضيق القابعين في قريرة جاك، سواء تلك البعيدة أو القريبة منها.
فأنتون الحافل بباع طويل من التصوير الفوتوغرافي وإخراج الأغاني المصورة، يعمد الصعود بكاميراته عاليةً مشكلاً لقطاته المحددة عبر الطرق الملتوية النحيلة لتلك البلدة أو المنازل الصغيرة الملتصقة ببعضها البعض كدهاليز وأوكار تعكس خلجات جاك العقلية والروحية المتعبة، أو المتاهات المربكة الخبيثة التي عليه أن يتخطاها في وجه أعدائه كي يصل لنتيجة ما يرتاح إليها أخيراً.
وثمة عامل آخر يوفر قيمة إضافية وبعد ثاني لتصوير أنتون المحنك، ألا وهو استخدام خاصية مقدمة وخلفية الصورة لنقل منظور الشخصية الماثلة أمامناً من الجهتين اليسرى واليمنى، فإن كان وجه جاك على يمين الشاشة مثلاً، يقوم أنتون بتوضيح الصورة وتركيزها على ما هو خلفه والعكس صحيح، لنقل فكرة مبطنة عن الغموض المخيم على الأجواء، والخفي عن الشخصية الرئيسية.
يوفر النسق التأملي الذي ينتهجه المخرج المساحة الكافية للمشاهد ليلتقط ما تشعر وتمر به الشخصيات ضمن الحكاية، وما تمثله من عناصر درامية تخدم الهدف الأساسي من الفيلم ككل.
حيث ينتظر المتابع للمجريات كما ينتظر جاك، ويصغي لهمسات الأب بينديتو كما يصغي جاك لها أيضاً، نجتمع مع ماتيلدا أكثر من مرة كما يفعل بطلنا ونلاحظ مثله كيف يتغير من لون شعرها عند كل لقاء، كحرباء متلونة يستحيل التكهن بأصغر إيماءتها الخبيثة القادمة، ونتفهم مغزى وعنفوان النظرات المتبادلة بين جاك وكلارا ورغبتهما بالتحرر من هويتهما الراهنة.
ويفسر ذلك تلقائياً الكلمات القليلة لحوار الفيلم كحال بطله بالضبط، فتفاصيل الشخصية الرئيسية وسماتها تهيمن على صناعة العمل وأجواءه مما يخدم ويفصح حالة الذعر التي تتآكل بها أعصابه وأوقاته خلال “إجازة العمل” التي يقضيها متحسباً من ظله دائماً.
كما يتكفل المظهر الأوروبي للفيلم ومضمونه الأمريكي القاسي بتوليف مشاعر من الحنين والضياع والراحة والسكون بآنِ واحد، فتارةً نشعر بأن جاك قد وجد ملاذه المناسب في هذا المكان المنعزل، وتارةً أخرى نراه يكابد ليتمكن من اتخاذ قرارٍ جذري لم يقم به من قبل في أرجاء يبدو أنها لم تختلف عن العالم الذي جاء منه مهاجراً.
وهنا يتمحور أداء جورج كلوني الفطن لجوهر شخصيته المظلمة – وإن بدا لي مرتعدا زيادة أثناء إطلاقه للرصاص وليس أهلاً لها عموماً – بحيث أن كلوني يحجبنا عن التعاطف مع جاك المجرم بقدر دقيق ومحسوب كما يفعل جاك مع أولئك المحيطين به..
فقط بتجهمه وضيق صدره، نشعر بوجود حاجز قائم يدفعنا بإرادتنا أن نسترق النظر نحو قريرة الشخص وما يمثله لنا كفرد بمعانِ ومعطيات، وليس حول مهنته كمجرم مذنب أو مظهره الخارجي الأنيق بوسامة الممثل الكلاسيكية المعهودة (يستفيد كلوني من شعره الأشيب بأن يعطي دوره شيئاً من المصداقية كما بدوره في فيلم “سيريانا” للعام 2005).
لا ريب أن الفيلم لن يُرضي كافة أذواق المشاهدين، خاصة أن إثارته لا تثير باعتيادية وحركته لا تحمل ذلك الصخب المعهود من أفلام القاتل المحترف، غير أن نوايا العمل كدراسة شخصية لمجرم عديم الرحمة لا تسعى لما هو تقليدي ومكرر القالب نظراً لأننا قد شاهدنا عشرات الأفلام التي عالجت مسألة ضمير القاتل وطريق خلاصه.
والعقبة العاطفية التي تقلب حياته رأسها على عقب، وذلك بوجهات نظر عديدة. وهو كذلك الأمر الذي يدثر ثغرات العمل، فيتبين اختيار عنوان الفيلم (الأمريكي) بمقصده الأجنبي المغترب؛ فإن تغرب جاك عن موطنه ومهنته وعرج منعطفاً لم يحسب عقباه في عالم لا يعترف بجنسية أو هوية أو رفيق وفي..
فحتما أنه لن يجد مفراً من جزاءه المنتظر، وهناك لن يكون غريباً أبداً، أو أمريكياً بطبيعة الحال، وعليه كان من الأجدر على جاك أن يعرف طعم الحب وهو لا يزال يستنشق الهواء، فلا مكان للحب في الجحيم.
اقرأ ايضاً لمهند الجندي :
همفري بوغارت: الآداء الجيد ديْـنٌ عليك للجمهور !
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
شاهدت الفلم عدة مرات
فعلا تحليل تعمق في جوهر الشخصية.
شكرا
تحليل أكثر من رائع و يسرني أنى وجدت صضديقا عربيا يشاركنى نفس وجهة النظر الرائعة فى الفيلم الرائع
و أيضا الفيلم الاخر الل1ي لم يا أخذ حقه بتاتا Up On Air بكل ما فيه من روعة
دائما ما رأيت هاذين اغلعملين الفنيين الرائعين لم يا خزوا حقهم أبدا