تريند 🔥

📺 Netflix

الطوطم والتابو لعالم النفس سيغموند فرويد: عندما بدأ الإنسان بتحريم الأشياء!

الطوطم والتابو
صالح محمد
صالح محمد

17 د

في كتابه “Totem and Taboo – الطوطم والتابو” استعرض “Sigmund Freud– سيغموند فرويد” دراسة تُعد السابقة من نوعها في التحليل النفسي، وهي دراسة أصل المحرم الجنسي والزواج الخارجي وعلاقته بالنظام “الطوطمي” وقبل أن نشرع في استقراء رؤية فرويد للمحرم، نحتاج أن نشير بالضرورة أن هذه الكلمة لا تعني المحرم الديني، لكنها ترجمة عن الكلمة البولينيزية “التابو” والتابو يختلف عن المحرم الديني في أنه لا ينعكس عن أي أصول ثقافية، معرفية أو دينية غالبًا، بل هو في بعض الأحيان يسبق وجود الدين.

نرشح لك قراءة: تطور أشكال الزواج من الإنسان البدائي وحتى الآن.. كيف بدأ الزواج وكيف أصبح؟ 💖

سيغموند فرويد

سيغموند فرويد طبيب أعصاب نمساوي، اشتُهر بتطوير نظريات التحليل النفسي وتقنياته، والتي تشكل الأساس الذي تعتمد عليه معظم طرق علاج الأمراض النفسية.
سيغموند فرويد

رهاب زواج المحارم والطوطمية

الطوطم والتابو

قراءة في كتاب “Totem and Taboo” لعالم النفس “سيغموند فرويد”.

يتناول فرويد الدراسات الإنثروبولوجية للشعوب الأسترالية القديمة، التي تركت إرثًا عظيمًا ساعد الباحثين في دراسة تلك القبائل، وقبل أن نخوض في تلك التفاصيل نحتاج أن نوضح مصطلح “الطوطمية”، وهي -بكل اختصار- نظام تقسيم عشائري. كانت القبائل قديمًا تنقسم إلى عشائر وكان لكل عشيرة منهم طوطم، والطوطم عبارة عن حيوان يؤكل لحمه وغير مفترس كالماشية، تختاره القبيلة حتى يكون سلفها وحاميها، ولا يكون ذلك إلا بشروط محددة، فمثلًا يُحظر أكل حيوان الطوطم على كل العشيرة التي تنتمي لهذا الطوطم وتؤدى طقوس سنوية لهذا الطوطم. وما يهمنا في كل هذه المراسم هو أن: أبناء الطوطم الواحد لا يجوز لهم ممارسة الجنس وبالتالي الزواج.

هذا التحظير لا نعده غريبًا فقط لشعوبٍ بدائية لم يتطور عندها الدين إلى المرحلة التي تجعلها تضع “محرمات” إلا أنه يزداد غرابة عندما نلتفت إلى أن هذه الشعوب كانت بالكاد تنال لقمة عيشها، فكيف تضع لنفسها محظورات اجتماعية صعبة كهذه، فالنظام الطوطمي ليس فقط حاظرًا لزواج الأخوة، بل إنه -كما سنرى- قد يصل لحظرٍ يمس القبيلة بأكملها، ومخالفة هذا الحظر كانت تواجه مباشرة بأشد عقوبة، وهي الموت المُحتم للزوج، ورمي الزوجة بالرماح حتى الموت هي كذلك.

يعمل الطوطم ببساطة بنظام التوريث، فكان إما يورث عن الأب (ويعرف بتوريث الطوطم الأبوي) أو عن الأم (ويعرف بتوريث الطوطم الأموي)، والأغلب أن توريث الطوطم الأبوي هو النظام السائد (وسنذكر سبب هذا لاحقًا).

المخطط التالي يعطي توضيحًا أفضل لمفهوم توريث الطوطمية:

النظام الطوطمي - الطوطم والتابو - سيغموند فرويد

النظام الطوطمي: توريث الطوطم الأبوي وتوريث الطوطم الأموي

كما نرى، يرث الابن الطوطم إما عن الأم أو عن الأب، ولكننا نجد ثغرةً في كلتا الحالتين، ففي حالة توريث الطوطم الأموي وكانت الأم من طوطم الحمام والأب من طوطم الجدي، سيكون الابنان (البنت والولد) تابعان لطوطم الأم (طوطم الحمام) بينما سيكون الأب من طوطم الجدي، أي أنه يختلف عن طوطم الابن والابنه وبالتالي تُباح له ابنته.

وفي الحالة السابقة، إذا طبقنا مفهوم الطوطم الأبوي، سيكون الابنان من طوطم الجدي، وبالتالي يختلف طوطم الإبن عن طوطم والدته وستكون علاقتهما مباحة. ولهذا السبب تحديدًا يرجح فرويد أن الطوطم الأموي كان نظام التوريث السائد، لأن غالبية المحظورات الطوطمية تستهدف بشكل أساسي العلاقة بين الابن ووالدته.

من الواضح أن العشائر البدائية كان يسيطر عليها خوف عارم من زواج المحارم حتى كانت تصبح العشيرة كلها من محارم ذكورها، فلفظ “أب” مثلًا لم يكن يستخدمه القبلي الأُسترالي لمناداة والده وحسب، بل كان اللقب شاملًا لكل رجلٍ في القبيلة كان من الممكن أن يتزوج والدته ويصير أبًا له، ونفس الأمر مع لفظ الأم والإخوة، ويرى فرويد أن هذا الجزء من النظام الطوطمي قد انعكس على التنظيمات المجتمعية الحالية، فالطفل ينادي أصدقاء والده “عم” كما يدعوا أصدقاء والدته بالخالة.

سيجموند فرويد

عالم النفس الألماني سيغموند فرويد.

يرى فرويد أن النظام الطوطمي، بشكل أو بآخر ساهم في تأسيس مصطلح التابو حاليًا، خصوصًا في الزواج العشائري، وقد نرى أبسط صوره حاليًا عند الكنيسة الكاثوليكية التي مدت حظر المحارم بين الإخوة ليصل حتى القرابة فباتت زيجات أبناء العم محظورة.

سنشهد بعض الأمثلة القديمة لأصول هذه المحظورات عند تلك القبائل الأسترالية القديمة التي يتخطى فيها الحظر أمر الزيجات ويصل لشؤون الحياة اليومية ومعاملاتها، ولكن ما يهمنا بشدة في هذه الأمثلة هي المحظورات المستهدفة (أي التي استهدفت العلاقة بين الأب وابنته أو الأم وابنها) لمحاولة تفسير هذا الاستهداف دون غيره.

تستهدف أولى الأمثلة التي يطرحها فرويد لنا العلاقة بين الابن والأم والإخوة، في النظام الطوطمي في جزر ميلانيزيا، في هذه القبائل البدائية يستوجب على الابن أن يغادر منزل والدته في حال وصوله لسن الرشد، وأن يذهب لدارٍ مشتركة Club House يعيش فيها لحين زواجه، ولا يجب عليه أن يقرب منزل والدته على الإطلاق إلا لطلب الطعام وحسب، وإن كانت أخته في البيت فلا يمكنه المجيء للطلب، وفي كلتا الحالتين محظورٌ عليه أن يدخل البيت وإن قدمت له أمه الطعام فإنها تُقدمه من وراء حجاب. كما لا ينبغي على الفتى أن ينادي اسم اخته في أي حالٍ من الأحوال، وعليه أن يتجنب استخدام كلمات اللغة الدارجة التي تحتوي حروفها على حروفٍ تتواجد في اسم اخته!

النظام الطوطمي - الطوطم والتابو

النظام الطوطمي – قبائل جزر ميلانيزيا. مصدر الصورة: Wilderness Travel.

وقد كان هذا هو التحظير شبه السائد، وهو قد يكون منطقيًا بعض الشيء لرهاب جنس المحارم عند تلك الشعوب، ولكن ما يثير انتباهنا بالفعل هو النوع الآخر من المحظورات والذي يحظر العلاقة بين الصهر وحماته، نال هذا الحظر انتشارًا واسعًا للغاية عند القبائل الأسترالية والميلانيزية والبولينيزية وزنوج أفريقيا، أي يمكننا القول إنه ارتبط بشكل أساسي بالنظام الطوطمي.

وعلى خلاف حظر جنس المحارم الآنف ذكره، فإن حظر العلاقة بين الصهر والحماة كان يُعامل بقساوة أشد لدرجة أن بعض حالاتها يُستحب فيها محاشاة الحماة من الأصل. في فانا لافا، نرى مثالًا على هذه التحظيرات القاسية، فلا يجوز عند تلك القبائل للزوج أن يطأ شاطئ البحر بقدمية بعد مرور حماته من عليه إلا بعد أن يمحو المد أثر قدميها، وفي كل حال لا يجوز للزوج أن يحادث حماته أو أن يلفظ اسمها، ولو حدث والتقيا معًا خارج المنزل فإن الزوج أحرى به أن يدعي أنه لا يعرفها قبل أن يعدو سريعًا هاربًا منها.

وإن كنا ننسب أصل محظورات الطوطمية الأموية والأخوية لرهاب المحارم فإننا نجد معضلة في تفسير حظرها العلاقة بين الصهر وحماته، يرى بعض الباحثين أن موقف الحماة هذا نابع من العلاقة الموترة بينها وبين الزوج، فذلك الأخير يُعد رجلًا غريبًا على الأسرة وخاطفًا لابنتها ينتقد فرويد هذا التفسير من جانبين، الأول أنه لا يفسر لما يستمر هذا الحظر في حالة الإنجاب التي يصبح الزوج فيها فردًا من الأسرة، والجانب الآخر افتقار هذا التفسير للعامل الجنسي.

أما تفسير فرويد لهذا الحظر المرتكز على التحليل النفسي هو  المشاعر المختلطة عند الصهر والحماة، فهي من جانب ما آسفة على مفارقتها لابنتها التي ربتها وخائفة من ذلك الغريب الذي خطفها، أما الصهر فهو يشعر بغيرة من هؤلاء الذين أحبتهم زوجته وعاشت في كنفهم من قبله، والأهم من ذلك -عند فرويد- هو حاجة الحماه الجنسية-النفسية، تبقى الحماه طيلة حياتها تعاني من خطر عدم التشبع الجنسي بسبب توقف العلاقة الزوجية وغالبًا فإنها تقي نفسها من هذا الخطر بانشغالها مع أولادها، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الوسيلة بمجيء الزوج الذي سيخطف أبناءها.

كذا يعاني الزوج -كما يُفسر فرويد- من حبه الأول والذي يذكره بصورة أمه فهو يهرب من كل فكرة تذكره بهذه الصورة المحرمة وينقل حبه (أو أثرته) من هذه الصورة المحرمة وإلى شخص غريب عنها يشبها شكلًا، يتولد في نفس الزوج رغبة في الغوص في زمان حبه الأول (ولا يذكر فرويد سبب هذه الرغبة) وسرعان ما يعترض هذه الرغبة استفظاع الزوج للمحارم، ولكن المقاومة تصبح أصعب في حالة الحماة لأن الزوج لم يمر بتجربته الطفولية معها فلن يتمكن من استحضار تلك الصورة الطفولية في مُخيلته إذا ما حاول مقاومة أو استفظاع فكرة الجنس مع الحماة.


التحليل النفسي للتابو

الطوطم والتابو - سيغموند فرويد

صورة من الطبعة التاريخية لكتاب “الطوطم والتابو”.

وكما أشرنا في المقدمة “التابو” هي كلمة بولينيزية، ليست تعني المحرم الديني بل المحرم العرفي الذي قد لا يوجد له أي أصل ديني واضح، أو كما يُعرفه فرويد، مجموعة من التحديدات التي تفرضها الأقوام البدائية على نفسها، والتي تجهل هذه الأقوام علة الحظر، لعلها لا يخطر في بالها أن تتساءل عنه ولكنها تخضع له كخضوعها لأي شيء طبيعي وبشكل صارم له عقوبات وخيمة إذا انتُهك.

ومن الواضح أن تلك الشعوب كان لها كل الحق في أن تتجاهل علة هذه المحظورات وأن تؤمن بها إيمانًا أعمى، إذ أن عواقبها كانت قد تحققت بالفعل، فمن كان يأكل من لحم حيوانٍ محظور كان يسقط في اليوم التالي ميتًا ويعزى السبب في ذلك غالبًا إلى الاستجابة الوهمية (البلاسيبو) وسنرى أمثلةً على ذلك.

يمكن أن نقسم التابوهات إلى نوعين: (التابو الدائم permanent taboos والتابو المؤقت temporary taboos) يرتبط التابو الدائم بالملك وزعيم القبيلة، بينما يُنسب التابو المؤقت للحالات الفردية التي يصاب بها العوام، كالموت والنفاس والطمث.

يعمل التابو -كما يصفه فرويد- عمل الشحنة الكهربية، فالملوك والكهنة وهم كبار المحرمات والتابوهات، لديهم كم كبير من هذه الشحنة القابلة للانتقال، والتي عندما تنتقل لشخص الفرق بين شحنته وشحنة الملك أو الحاكم كبيرة فغالبًا ما سيؤدي به الأمر للموت، لهذا لا يمكن للملك أن يتعامل مع عوام الناس (لحمايتهم من قوة التابو) ولكن عوضًا عن ذلك يتعامل مع وزيره (بما أن فرق الشحنة بينهما ليس كبيرًا) ومن ثم يحادث الوزير الكاهن ثم كبار الشيوخ وهكذا حتى يصلوا لعوام الناس.

وعلى الرغم من أنه يتوضح لنا أن هناك أصلًا تمايز الطبقات الاجتماعي في قانون التابو الطبقي (ويظهر هذا بشدة عند البولينيزيين والأرخبيل الماليزي)، ولكن من الأكيد أن هناك مصدرًا أعمق من التمايز الطبقي أو الاجتماعي.

فكما يرى فيلهلم فونت: الخوف من الجن والقوى الخفية هو نبع التابو، فكل انتهاك من انتهاكات التابو لا يُقابل سوى بعقاب من الأموات والجن والقوى الخفية. ومع تطور سمات التابو، أصبح منفصلًا عن العقاب والقوى الجنيه بل أصبح من العرف الذي إذا انتُهك فإن من يعاقب عليه هم أعضاء القبيلة والمجتمع بنفسه، إلا أن فرويد لا يقبل بتفسير فونت ويبحث عن جذور التابو فيما هو أعمق من قوى الجن والخوف.

التابو

النظام الطوطمي – تابو تقديم الأضحية البشرية، من طقوس قبائل التوبيناميا Tupinamba في البرازيل. المصدر: ويكيميديا.

أصل التابو والوسواس القهري


“لو لم نكن اعتدنا على نعت تلك الأنواع من الأمراض بالوسواس القهري، لكان اسم «مرض التابو» مناسبًا جدًا لوصفهم”. – سيجموند فرويد، الطوطم والتابو.

في البحث المتوغل عن أصل التابو يعقد فرويد مقارنة بين سمات تصرفات مرضى الوسواس obsessional patients وتصرفات الشخص الملتزم بتعاليم التابو، فكلاهما يتبعان محظورات حرمية بصرامة، وكلاهما يخشى خرق تلك المحظورات.

يمكننا تلخيص مقارنة فرويد للوسواس والتابو بالمخطط التالي:

سيغموند فرويد - الطوطم والتابو - النظام الطوطمي

النظام الطوطمي – تلخيص مقارنة فرويد للوسواس والتابو

بالتالي يمكننا أن نعطي تفسيرًا مبدئيًا لما يتعلق بالبداية السحيقة للتابو، أنها ارتبطت بمرض عصابي أو برغبة ازدواجية متناقضة في المُحرم، ولنفرض أنها كانت باللمس كما في المثال أعلاه، وانتقل هذا التحظير من جيل إلى جيل من خلال السلطة الأبوية والطبقة الاجتماعية حتى تطورت وصارت جزءًا من الحياة النفسية للأجيال اللاحقة، ولكن هذا لم يمنع تورث تلك الرغبة الازدواجية في فعل ما هو محرم، بل كان ذلك مطلبًا عميقًا في اللاشعور Subconscious إلا أنها تخشاه (وهذا تشابه آخر مع الوسواس، فمريض الوسواس يجد لذة في اللمس أو التجنب [أيًا كان وسواسه] ولكنه يجد بجانب اللاشعور بتلك اللذة لا شعورًا آخر بخطرها وحظرها وذلك الخوف يغلب رغبته في الحصول على اللذة).

يستدل فرويد على بقاء رغبة فعل الحرام (التابو) في اللاشعور بالغيرة ممن ينسخ هذا التابو ولا يلتزم به، فمن هنا -كما يرجح فرويد- قد ظهر العقاب المجتمعي بديلًا عن عقاب الجن والعفاريت، من يفعل الحرام يوقظ تلك الرغبة عند الآخرين في اللاشعور ويحفزهم على أن يفعلوا مثله، وإلى جانب ذلك شعور الغيرة: فلما يكون ذلك التابو حلالًا له وحرامًا علينا؟

يخبرنا فرويد أنه بين كل هذه الاشتباهات فإن أهمها عندنا هو الازدواجية المتواجدة عند مريض الوسواس والتي تتواجد مثلها عند تأدية طقوس التابو أو في ماهية التابو ذاته، فمثلًا، لسادة قبائل النوبا في شرق افريقيا تأثيرًا مزدوجًا للتابو الخاص بهم، فإن ملامسة الملك أو الزعيم عند هؤلاء القوم قد تأتي بكل الشرور على سيئ الحظ، ولكنها كذلك قد تكون قوى شفائية عظيمة تشفي المريض، وقد تطور هذا في شعوبٍ لاحقه، فقد كان ملوك إنجلترا يمارسون هذه الوصفة لعلاج التهاب العقد السلي Scrofula.


هنري الثالث يقوم بعلاج مرضى العقد السلي

في الناحية الأخرى كان للمسة السلبية أثر كبير كذلك، فهناك حكاية المحارب في زيلندة الجديدة عندما تناول فضلات وجدها على الطريق، ليخبره أحد المشاهدين وهو مذعور أن تلك الفضلات من طعام أحد الزعماء، فيموت المحارب في اليوم التالي، وهناك كذلك حكاية امرأة الماوري، التي أكلت من بعض الثمار علمت فيما بعد أنها من مكان ذو طاقة حُرمية، فماتت في اليوم الذي يليه، ولعلنا نُعد أن السبب في هذه التأثيرات هو الاستجابة الوهمية في حالة الشفاء، والاكتئاب الشديد والذي يؤدي إلى المرض في حالة الإيمان بالنتيجة السلبية.

لم يحدث فيما سبق تصادم بين التنظير الماركسي والنظرية الجنسية، إلا أن ما يعرضه فرويد في سياق الازدواجية تجاه الملك يُفند النظرة الاستبدادية الأنظمة المَلكية، فالتوقير الديني والتابو ليس فقط هو ما يرفع الملك إلى رتبة الإله ولكنه يُحطه أيضًا لرتبة المجرم الهارب.

تجد تلك الشعوب البدائية لذة في مراقبة حاكمها، وكأنهم يريدون تقويم سلوكه كي لا يستخدم طاقته [القادرة على التحكم بالرياح والماء والشمس والحياة بكل أوجهها] فيما لا طائل له وإذ لم تجدي تحذيرات الشعب له، فهو يغدو مجرمًا خائنًا لشعبه الذين لا يجدون بُدًا في استبداله مباشرة وعقابه.

هذا النوع من المراقبة يجلب على الملك أعباءً تجعل حياته أكثر تعقيدًا من حياة الفرد العادي، فهو في بعض الأحيان لا يمكنه الخروج للهواء الطلق، ولا أن تسقط على رأسه الشريف شعاع الشمس، بل إن في القبائل النيجرية لا يمكنه أن يحلق شيئًا من شعر جسده لأنه تابو!

ومن الطريف في تلك الازدواجية أنه في قبيلة تيمو في سيراليون يجدون حقًا في إيساع الملك الذي ينتخبونه ضربًا قبل يوم التتويج، والغالب أن ما كان يحدث أن الملك التعيس يموت قبل يوم تتوجيه، ما كان يجعل كل رجال القبيلة يسلحون أنفسهم قبل يوم التتويج خوفًا من أن يكونوا تعساء الحظ ليصبحوا الملك.


كيف بدأ الطوطم: الزواج الخارجي

السؤال الأكبر حول مفهوم الطوطمية هو كيف بدأ ذلك الشكل البدائي يأخذ مكانة التنظيمات الاجتماعية عند تلك الشعوب البدائية في وقتٍ سبق حتى أول الأديان؟ سنحاول هنا أن نُركز على أصل هذا النظام البدائي الذي تطور، في وقتٍ من الأوقات، حتى وصل إلى نظام الزواج الخارجي Exogamy.

نعود مبدئيًا لمفهوم الطوطم البدائي، الطوطم كما شرحنا بالأعلى -بدائيًا- حيوانات تُعد أسلافًا للقبائل، كان ينتقل الطوطم بعمود الأم وكان ممنوعًا أكل لحمه أو قتله، وكان محظورًا على أبناء الطوطم الواحد أن يتزاوجوا. وشرحنا كذلك أن الطوطمية منهج منتشر، مرت به أغلب الحضارات الأولى ويسعنا أن نقول كلها، ولكن السؤال المهم هنا، كيف اشتركت كل تلك الحضارات في رهاب زواج المحارم؟ وكيف اشترك جميعها في تحريم هذا النوع من الزواج حسب النهج الطوطمي؟ وهل النهج الطوطمي لتحريم زواج المحارم هو السبب في انتشار الزواج الخارجي؟

النظام الطوطمي

الزواج الخارجي. المصدر: tozali – blogger

يؤسفنا القول بأن كل هذه الأسئلة ليس لها أي جواب واضح وأجوبة الباحثين فيها تتنافر وتتباين أشد التباين، والقول بأن الزواج الخارجي كان نتيجة للنظام الطوطمي لا يزال محل جدلٍ واسع. يشير فرويد لأهمية الملاحظة التي طرحها أندرو لانغ حول الطوطمية أنها نظامٌ قد اندثرت وضمرت أشكالها الأصلية عندنا اليوم بل وحتى كانت ضامره في الأيام التي عاش فيها تلك القبائل البدائية وبالتالي ليس هناك حلٌ للإتيان بتفسيرات لهذا النظام العجيب سوى بطرح الفرضيات التي تملأ ذلك الفراغ، سنعرض هنا كي لا يطول بنا الأمر أكثر من ذلك أحد أهم التفسيرات وهي النظرية الإسمية.


النظرية الإسمية

تُفيد هذه النظرية الاستفادة بالعلاقة بين تطور أنظمة التسمية وبين ظهور الطوطمية، فهي تفرض أن هذا النظام الطوطمي كان مبتغاه الأول هو تمييز القبائل المتعددة بأسماء عن بعضها، أحد داعمي هذه النظرية هو عالم الأساطير واللغويات والدين، ماكس مولر، فالطوطم -كما يراه مولر- إما شعار القبيلة، أو اسم لأسلاف القبيلة، أو اسم شيء توقره القبيلة. يقول مولر:


“وهكذا نشأت الطوطمية، لا من حاجة دينية، بل من حاجة نثرية عملية نتيجة لانتشار الكتابة البدائية، الطوطم في حد ذاته يشكل أحد أشكال الكتابة البدائية المنتشرة، وهي الرمز الحيواني، وبالتالي قد استنبطت تلك أن لها صلة قرابة تربطهم ببعضهم البعض وبذلك الحيوان”.

كذلك يرى هربرت سبنسر، الفيلسوف البريطاني، الأب الثاني لعلم الاجتماع، أن التسمية هي السبب الحاسم لنشوء الطوطمية، فيرى أن هناك بعض الأفراد الذين قاموا بعرض صفات أوجبت تسميتهم بأسماء حيوانات ما جعلهم يورثونها فيما بعد لأبنائهم. وبسبب غموض اللغة البدائية، فهمت الأجيال التالية أن هذه الأسماء تعني تحدرهم من هذه الأنواع الحيوانية، فالأطفال الذين كانوا آبائهم يسمون بالدب أو الأسد، كان طبيعيًا أن يجعلوا من هذا الحيوان موضعًا للاحترام أو حتى العبادة.


هربرت سبنسر

صاغ الإنثروبيولوجي الأسترالي لوريمر فيسون نقدًا لهذا التفسير أسسه أن الطوطم لم يكن على الإطلاق تسمية لفرد بعينه ولكن تسمية لجماعة من الناس، فلا يمكننا أن نُسلم بأن منشئهُ صفه عند الأفراد، كما أنه لو كان كُنية أو اسمًا، فكيف يُورث من الأباء للأبناء وتوريث من الأم كما يحدث في الطوطم الأموي؟

وبالإضافة لذلك فهذا الطرح وإن أصاب فهو -كما يرى فرويد- غير كافٍ بتاتًا لتفسير النظام الطوطمي، فهي لا تفسر الأهمية الذي اتخذها الطوطم فيما بعد عند تلك الشعوب، ولا تُفسر ربط نظام الطوطم بالزواج الخارجي.

يعرض أندرو لانج، الإنثروبيولوجي والمؤرخ البريطاني، نظرية يمكن القول إنها شبه مشتقة من النظرية الإسمية لكنها تتضمن أسبابًا سيكولوجية: يرى لانج أن الشعوب البدائية قد فقدت تمامًا الذكرى المرتبطة بهذه التسميات، وحاجتهم العملية للتميز بين بعضهم جعلتهم يستمرون باستخدامها حتى وصلوا ليومٍ من الأيام لم يكونوا محتاجين لاستخدام هذا النوع من التسمية، وعندما حاولت تلك العشائر أن تجد لهذه الواقعة تفسيرًا اهتدوا لتعلقهم بتلك الأسماء وتطور هذا التعلق ليصل في النهاية لشكل النظام الطوطمي.


النظام الطوطمي والزواج الخارجي

من الواضح أن ما ينشدهُ فرويد في كتابه كُله هو البحث عن أصل الزواج الخارجي، على الرغم من التشابه الشديد والمتداخل بين الطوطمية والزواج الخارجي إلا أن الباحثين كثر ما يفضلون أن يفصلوا بين كلتا المؤسستين عن الأخرى، يقول جيمس فريرتز:


“ينبغي علينا أن نفهم أن مؤسسة الزواج الخارجي والطوطمية مؤسستان منفصلتان تمامًا على الرغم من أنهما تتصالبان وتتداخلان عرضًا واتفاقًا لدى عدد كبير من القبائل”.

على الرغم من ذلك يوجد بعض الباحثين الذين ينضم لصفهم فرويد، يحاولون الربط بين هاتين المؤسستين، يرى إميل دوركايم، عالم الاجتماع الفرنسي، أن التابو المرتبط بالطوطم هو ما أدى بالضرورة لتحظير حدوث اتصال جنسي بين المرأة والرجل الذين ينتميان لنفس الطوطم.

ولعل ما يجعل فرويد ينحاز لجانب أن الطوطمية نتجت عن تطور الزواج الخارجي هو أن مفهوم الزواج الخارجي قد ظهر في العصور اللاحقة للطوطمية، أي أن الطوطمية قد تكون نظامًا هدفه الوقاية من زواج المحارم، ولكن هذا يبدو لنا غير منطقي، فهي فقط ليست تقي من العلاقة بين الأخوات أو ذوي النسب الواحد، بل إنها تصل في أغلب الأحيان حتى يصبح ثلثا أو كل أفراد القبيلة الواحدة محرمين على بعضهم البعض.

لنعود للسؤال الأول، لما كل هذا الخوف من زواج المحارم؟ قد يجيب أحدهم عن هذا السؤال أن هذه لطالما كانت فطرة الإنسان، أو كما يقول إدوارد وسترماك، عالم الاجتماع الفنلندي: إن الأشخاص المختلفين في الجنس من نوع لآخر، والذين يعيشون مع بعضهم مذ نعومة أظافرهم، من الطبيعي أن يساورهم نفور فطري من الدخول في علاقات جنسية.

تتبع هذه الفرضية الحظر البيولوجي من زواج المحارم على أنه يظهر في شكل سيكولوجي، إلا أن فرويد يعترض عليه تمامًا من جانبين، الأول أنهُ يستحيل أن يصل التظاهر السيكولوجي لحد فرض المحظورات التي نجدها في الطوطمية، بالإضافة إلى أن الطوطمية تصل للعلاقات غير الضارة بيولوجيًا كالعلاقات بين أبناء القبيلة الواحدة.

s

جيمس فريزر

والجانب الآخر هو تجارب التحليل النفسي التي من وجهة نظر فرويد: “تُثبت استحالة وجود نفور فطري من العلاقات المحرمية، بل تظهر تلك التجارب أن تلك الرغبات تستولي على الرغبات الأولى للمراهق”. ويُضيف لهذا السؤال الذي طرحه جيمس فريزر إلى وسترمارك، إذا كان رهاب جنس المحارم أمرًا فطريًا في ذلك الحين، فلما نجده محرمًا قانونيًا في ذلك العصر؟ فلسنا نجد قانونًا يأمر الإنسان بالشرب والأكل أو ألا يضع يده على النار، فالناس تأكل وتشرب وتبقي ايديها بعيدة على النار غريزيًا وخوفًا من العقوبة الطبيعية غير القانونية التي ستقع عليهم، ولكن إذا كان جنس المحارم فطريًا ولا يوجد من ينتهك تلك الجريمة الفطرية فما الحاجة إلى حظرها؟”.

ويُكمل:

ذو صلة

“..وبهذا فنحن لسنا بصدد أن نستنتج من أن هناك نفور فطري بسبب القانون التحظيري لجنس المحارم، بل إننا نستنتج وجود غريزة فطرية لجنس المحارم لوجود قانون يُحظر هذه الغريزة، وقد يكون سببه أن مجموعة اجتماعية من الناس أدركت أن إشباع هذه الغريزة قد يسبب ضررًا اجتماعيًا”.

في نهاية الكتاب وفصله الأخير، يُذكر فرويد إقراره الواضح بأن أصل الخوف من زواج المحارم سيظل غامضًا إلى أجلٍ غير مسمى، فالعلماء “لا يعلمون حتى الاتجاه الذي يتعين عليهم البحث فيه، وما من نظرية قد اعتمدوها إلا وظهرت فيها المشاكل التي تُزيد من صعوبة القبول بها”.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة