روايات غريبة خارجة عن المألوف: ترشيحات أراجيك للقراءة في يناير 2021
7 د
كان العام الذي مضى عامًا مختلفًا غريبًا، لم تكن أيامه متناسقة، وقلب كل الموازين والخطط. قد يكون هذا العامل المشترك بين كافة أبناء الكرة الأرضية. خلال العام الماضي، قمت بترشيح العديد من الروايات والكتب، وفي كل مرة كنت أفكر في ثيمة غير اعتيادية لتعمل توليفة تضيء شعلة في رأس القارئ، فتعمل على إثارة الحماس ليقرأ هذه الكتب.
فكرت كثيرًا هذه المرة، ماذا يمكن أن أكتب، هل أرشح كتبًا كان أبطالها أطفالًا؟ أم أن علي ترشيح كتب مختصة بالأدب ونظريته؟ فكرت حتى وصلت إلى أن نهاية السنة الغريبة ستدفع الكثيرين إلى وضع أهداف في حياتهم ومتابعة البحث عن ذواتهم ولملمة أفكارهم التي بعثرتها السنة التي مضت هنا وهناك.
لا! لن تكون كتب تنمية بشرية، فلا أومن بأن هذه النوعية من الكتب ستساعد في أي شيء، حتى أنها تسرق متعة القراءة، ما رأيكم بأن يكون هناك مقال مخصص بعنوان: “لماذا لا أقرأ كتب التنمية البشرية؟”.
اقرأ أيضًا:
روايات غريبة من العيار الثقيل
عمومًا، عودة للحديث عن ثيمة ترشيحات شهر يناير، قررت أن تكون الثيمة كالتالي: ترشيحات لروايات غريبة. أحب دائمًا أن أعرّف الكلمات التي أكتبها، فمعنى غريبة هنا: خارجة عن المألوف في الإطار العام وتركيب الشخصيات والأحداث.
لم أقم بتعريف الثيمة بالشكل المطلوب، ربما لأنني لو استمريت في تعريف الكلمة، لطالت المقدمة كثيرًا (وهو المعتاد عندي في أغلب مقالاتي)، ولكن أعدكم بأنكم لو قرأتم الروايات المرشحة، ستقولون عنها غريبة، وستفهمون ما أرمي إليه هنا.
أخيرًا، قبل البدء بالترشيحات، ما يجمع هذه الروايات ثيمة أخرى: البحث عن الذات والمعنى. بالتالي، قد حاولت جمع غرابة 2020 واستمرارية فضول الكائن البشري في محاولة البحث عن المعنى خلال 2021 والأعوام التي تليه.
أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي
غرابة الاسم تكفي لوضع هذه الرواية ضمن ثيمة الروايات الغريبة. شيء غريب، سحر أسود يحملك على قراءة هذه الرواية. تشعر بأن خوان خوسيه مياس كتب هذه الرواية ببرود أو لا مبالاة، ومع ذلك تتابع قراءتها، لم تكن تلك اللامبالاة السيئة، ربما العبقرية، كعازف ماهر يعلم بأنه ولكثرة ما عزف وتمرن، يستطيع أن يبهر الحاضرين دائمًا. هذه اللامبالاة كنت أعني.
يسرد مياس في روايته أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي سردًا غريبًا، حيث يتشابك الواقع بالخيال، كأنه لوحة سيريالية، فكل عناصر الكون أصبحت سائلة لتتسع في إناء مياس وتأخذ الشكل الذي يطلبه.
بطل الرواية خيسوس، موظف حكومي يحتل منصبًا رفيعًا، يقال خيسوس من منصبه، وتبدأ حكاية البحث عن الذات لبطلنا. يبحث عن الحقيقة، يريد أن يتخلص من كل ما هو مزيف، ويعمل ذلك من خلال رغبة غريبة ألحت عليه ليقلد شارب أبيه، فيصنع شاربًا مستعارًا ليشبه الأب الميت. قد يمثل الشارب الأبوي التعلق بالماضي، هو ذلك الجزء البسيط الذي يتملكنا إلى الأبد، باختيارنا، فالمستقبل مرعب؛ لأن ما سيحدث مخيف أكثر مما حدث فعلًا. الشارب: كل ماضٍ صلب يمنعك من أن تكون نفسك الحرة الحقيقة، فتكون مستعارًا. خيسوس هو رجل يبحث عن هوية، وعيه الفردي يثقله.
يسرد خيسوس رواية قصيرة لابنه دابيد، لنصبح في متاهة شهرزادية على طراز الليالي العربية. بطل الرواية التي يرويها خيسوس هو أوليجاريو الذي يشبه خيسوس كثيرًا، فهو أيضًا يضع شاربًا مستعارًا. للشارب دلالة كبيرة في هذه الرواية. نتعرف أكثر على خيسوس وأوليجاريو، إلى اللحظة التي يقرر فيها خيسوس أن يكتب الرواية عوضًا عن سردها لابنه، لنصبح نحن أبناء خيسوس.
نحن قطع متناثرة، تجتمع لتكوننا (أو لتحاول ذلك) ولكن قطعة بسيطة مثل الشارب قد تجعلنا بهويتنا وشخصيتنا وآلامنا وهدفنا في الحياة.. محض استعارة.
ربما كان الأحمق هو القطعة المتناثرة والتي تمثل طفولتنا، والميت هو الماضي الذي يجعلك مستعارًا كالشارب، وابن الحرام هو تلك الأشياء التي حولنا والتي لا نعرف من أين أتت؛ لا نعرف أصلها أو منبتها، هي فقط موجودة فلنتعايش معها، والقطعة الأخيرة، غير المرئي، شعورنا بأننا لا ننتمي لهذا المكان وهذا الزمن. قد تحمل تلك القطع المتناثرة معانٍ أكثر عمقًا أو أكثر تفاهةً. تجتمع هذه الأجزاء المتناثرة لتشكيل هويتنا:
“خلفت في طريقي أحمق وميتًا وابن حرام وغير مرئي، أي هؤلاء كلهم الذين شكلوا نواة هويتي الحقيقية”
لعبة الكريات الزجاجية
واحدة من أصعب الروايات التي قرأت، ولا أقول هذا كي أرعبك منها، بل لأجعلك تهيئ لقراءتها وقتًا مناسبًا.
لعبة الكريات الزجاجية، رواية خلق هيسه من خلالها شخصية خيالية، ويصورها حقيقة إلى الحد الذي جعله يكتب سيرتها. هذا كتاب سيرة غيرية لشخصية خيالية، وهذا الوصف تحديدًا كان قادرًا على إدراج الرواية ضمن الروايات الغريبة. هيسه بنى عالمًا كاملًا من بنات أفكاره.
البطل كنشت، طفل صغير وموسيقي عبقري، يتابع دراسته وحياته بعيدًا عن أهله في كاستاليا، ضمن الصفوة المنعزلة تمامًا عن البشر والعالم الخارجي لتفني حياتها في سبيل العلم والمعرفة. نظام كاستاليا الهرمي يلتقي في أعلى نقطة ومرتبة عند لعبة الكريات الزجاجية. هي لعبة لم يخبرنا هيسه عن تفاصيلها، إلا أنه باستطاعته أن يستنبط قوانين وقواعد اللعبة.
تنتهي قصة كنشت، لنقرأ بعدها مؤلفاته التي وصلتنا. مرة أخرى، راقب ما فعل هيسه: بنى عالمًا كاملًا، وشخصية خيالية، وكتب عنها كتاب سيرة، وفي النهاية استعرض أعمال هذه الشخصية. أي ترابط للأفكار بلغ هيسه. يستعرض أعمال كنشت الشعرية، وثلاث قصص أو سير آخرها الأجمل. بنظري كانت مؤلفات كنشت أجمل ما في الرواية.
هيسه هو الموسيقى والطبيعة والتأمل والفطرة والمجتمع والبحث عن الذات والسعي الدائم إلى المعرفة والإنسانية.
معلومة مثيرة وغريبة: احتاج هيسه إلى 10 سنوات ليخرج بهذا العمل البديع، ولم يستطع أن يكتب بعدها أي عمل أبدًا، استنفدت اللعبة كل ذرة أدبية عند هيسه.
أخيرًا، أقدم لكم نصيحة خالصة: استمعوا إلى “موسيقى الماء” من تأليف هاندل أثناء قراءة الرواية.
دميان
مرة أخرى مع هيسه، أقدم لكم رواية غريبة، ممتعة جدًا، كتبت بذكاء لا مثيل له، وأصفها بالتالي: من أجل هكذا روايات، نسمي الأدب أدبًا، ومن أجل هكذا روايات نقرأ، فيا لحظ القارئ ويا لتعاسة غيره.
لا تحمل رواية دميان اسم البطل، أو هكذا نظن. هيسه يحكي لنا حكاية سنكلير الفضولي الباحث عن المعنى، الذي يروي قصته منذ أن كان طفلًا. يعترض طريقه شخصيات أثرت على جوانب تشكيل شخصيته ولكن لا شك بأن أهمها هو دميان، ومن هنا جاء العنوان الثانوي للقصة: قصة شباب إميل سنكلير.
الذكاء في طرح هذا العمق في الأفكار على لسان أطفال ومراهقين كان مذهلًا حقًا (من هنا كانت لدي رغبة في ترشيح كتب أبطالها أطفال) أيريد هيسه أن يعمل على بيان معنى الفطرة الإنسانية؟
في رحلة البحث هذه، لا بد أن يتكلم عن الإنسانية، والمجتمع والفرد، عن واجب الإنسان نحو نفسه في رحلته إلى مصيره وذاته، وفي كل مرة لا بد للحوار بين سنكلير ودميان أن يأخذ جانبًا عظيمًا، كأنهما شخص واحد، سنكلير يسكن بداخل دميان: دميان هو المشكك في كل شيء، هو الباحث عن المعنى المعشعش بين السطور، هو الصوت الضروري الذي يقودك في رحلة البحث تلك.
هيسه تحدث عن عالم النور والخير وعالم الظلام والشر، الموجودان لا محالة في كل إنسان، فنحن، بنو البشر، الخير الخالص ونحن أيضًا الشر الكبير.
“لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقة. فلم كان ذلك بهذه الصعوبة؟”
ملاحظة: ستحب هذه الرواية بالضرورة، إذا قمت بقراءة الرواية ولم تعجبك، ضعها جانبًا ولا تتحدث عنها، قم بقراءة الرواية مرة أخرى بعد سنة أو أكثر في مرحلة أخرى من حياتك، ربما حينها ستحب الكتاب. لأن حب الرواية هذه ضرورة.
ثلاث روايات غريبة من العيار الثقيل، كلها وظفت الأدب لتحكي لنا حكاية البحث عن الذات والمعنى بطريقة غريبة، غير تقليدية، وأحيانًا ينزع كل ما هو غير تقليدي عامل الملل ويزيد عامل الإثارة، روايات أثبتت بأن دور الأدب يفوق حد التسلية وتمضية الوقت، أثبتت بأن الكتابة فن يثلج الصدر. قراءة ممتعة أتمناها لكم.
لك أيضًا:
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.