رواية طبيب أرياف: قصة حب متقدة يتعرى خلالها الريف المصري
عن رواية طبيب أرياف وكاتبها
محمد المنسي قنديل هو روائي مصري ويعتبر واحدًا من كبار كتاب العرب المعاصرين لنا، تخرج من كلية الطب عام 1975، وبالطبع خلفيته كطبيب ساعدت بشكل كبير للغاية في إثراء الرواية التي بين يدينا “طبيب أرياف”.
قرر المنسي قنديل مبكرًا أن يتفرغ للكتابة وبالفعل اشتغل بالكتابة التراثية، وصدرت له عدة أعمال قُوبلت بحفاوة كبيرة من قبلِ كبار النقاد و مختلف القُراء، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر “قمر على سمرقند“، “انكسار الروح“، “ثلاث حكايات عن الغضب“، وفي نهاية العام الفائت أثناء تفشي فيروس كورونا في عالمنا، فاجأنا الكاتب بروايته الجديدة طبيب أرياف.
اقرأ أيضًا:
أكثر الكتب إثارة للجدل خلال عام 2020 ستفقدك عقلك!
واقع المجتمع الريفي المصري ووقعه المؤلم
يحاول محمد المنسي قنديل في روايته طبيب أرياف أن يعالج القضايا المختلفة للريف المصري في بداية ثمانينات القرن الماضي، تأخذنا الرواية في أكثر من قضية ومشكلة يعيشها الريف المصري، القضية الأولى هي انعدام الموارد، وفشل النظام الصحي، ونجد أن الريف يتم التعامل معه كمكان يقع خارج حدود الدولة لذلك لا تعيره الدولة بالًا.
نعرف ذلك من خلال عشرات المرضى الذين يتوافدون كل يوم على الوحدة الصحية يقفون أمام الطبيب بآلاف الأمراض، بعض الأمراض نعرف علاجها، والبعض الآخر لا يظهر إلى في الريف المصري، في هذه البيئة البدائية المليئة بمسببات الأمراض وجهل المواطن مما ينتج عنه في النهاية باقة كبيرة ومتنوعة من مختلف العوائل والمُمرضات يضطر المواطن أن يتعايش معها بقية حياته.
أما القضية الثانية فهي القضية الاجتماعية، وتعتبر هذه القضية هي الأهم والأكثر ألمًا في الرواية، المكان الذي ذهب إليه الطبيب هو مكان يدور داخل إطار محدد، هذا الإطار حددته العادات والتقاليد، مهما كانت هذه العادات والتقاليد بالية ولا فائدة منها فلن تجد متمردًا ثائرًا يستطيع أن يغيرها ويجهر أمام أبناء جلدته بأنه قد حان الوقت ليخطو خطوة ناحية العقل.
لكن على الرغم من ذلك نجد أن هذه العادات يتم اختراقها والعبث بها في الخفاء، يمكن تشبيه عادات الريف بشرائع الأديان، تحدد للإنسان ما يفعله ويحاول هو بدوره أن ينفذ ما تخبره به لكنه في النهاية يقوم بعكس ما جاءت به ويقع فريسة لشعوره بالذنب أحيانًا!
نجد المشاكل الاجتماعية في أكثر من عرض وأكثر من محاولة لتحليلها، بشكل أولي العلاقة بين الرجل والمرأة معقدة للغاية، الريف هو تربة ملحية للغاية والحب هو بادرة صغيرة تموت كُلما تزرع، لذلك نجد أن هناك حلول أخرى غير الحب، مثل زواج الأقارب الذي يتم الاتفاق عليه والزوجان في مرحلة الطفولة، أو أحيانًا أخرى قبل إنجابهما، كل الأقدار قد تم تقديرها سلفًا هذا لهذه، وهذه لهذا.
كما نجد المرأة التي تعيش حياة بائسة مع زوجها الذي لا يستطيع أن يلبي لها أي حاجة نفسيةً كانت أو جسدية لكنها يجب أن تصمت وتبقى هكذا إلى أن تموت؛ الأمراض تأكل الأرض والناس، والجهل يكبلهم ويبعدهم عن الاستمتاع بالحياة، والفقر هو الجندي الذي يضرب كل من أراد التغيير والخروج ويأمره بأن يقبع مكانه ويستمر في الدائرة اللانهائية للشقاء حتى يموت ويفنى.
والقضية الثالثة التي اهتم الكاتب بمعالجتها في الرواية هي القضية السياسية، وقد اشتهر الكاتب بمعالجته السياسية في معظم أعماله، الرواية تدور في بداية الثمانينات، نجد حديثًا عن اغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، كما نجد حديث عن صعود محمد حسني مبارك.
كما يتحدث الكاتب عن الانتخابات والتلاعبات التي تتم فيها، والصعود غير الشرعي لكراسي الحكم، وهناك أيضًا حديث عامل مكافحة البلهارسيا في الوحدة الذي يتحدث عن قصصه مع الرئيس السابق جمال عبد الناصر، وأخيرًا نجد عمدة القرية، الذي يعيش في قرن عاجي، القرية تحترق من سوء الأحوال، وهو في جنته الخاصة.
الطبيب.. ماضيه وحاضره
بطل روايتنا هو طبيب، طبيب له ماضٍ مؤلم، تم القبض عليه بسبب أحداث سياسية خاصة بثورته وتمرده وتم إلقاؤه في السجن، هذا السجن الذي أبعده عن العالم وحبيبته، وقد ظن الطبيب أن حياته قد انتهت، غير أنه ذات يوم أخبره أحد الضباط المسؤولين عنه أنه سيتم تعيينه في قرية ريفية بعيدة، وإن لم يلتزم بعمله سيلقيه في السجن إلى أن تذبل خلاياه وتموت، لم يكن هناك خيارات فذهب.
وصل الطبيب إلى القرية وهناك استنشق روائحها وشاهد صورها، الطيور المختلفة والمنازل الطينية، هناك عرف الطبيب أنه أمام عالم آخر، خواء وفضاء بلا ملامح، المستقبل أمامه رماديًا مثل أدخنة القرية، لكن في كل الأحوال سواءً أعجبه الحال أم لا، ليس أمامه إلا أن يقوم بفتح أبواب الوحدة الصحية التي تم هجرها منذ وجود آخر طبيب ويبدأ عمله.
فرح.. الروح الخفيفة التي تحولت إلى حقيقة
كما قُلت جاء الطبيب هاربًا من ماضيه، من السياسية والحب والسجن وضربات السوط والمدينة وصخبها، هرب من كل شيء وتُركَ وحيدًا في الريف، هناك وفي يوم عمله الأول وأثناء انشغاله بالحالات العجيبة التي تتوافد على الوحدة لمح ملاكًا يمرُ، لمح روحًا خفيفة، لمح الخيال في أحسن صوره، وبعد ذلك لم يجد شيئًا، لكن مع مرور القليل من الوقت يكتشف أن المرأة التي أسجت الرعشة في جسده هي فرح مساعدته في الوحدة، بالطبع في الوحدة ممرضتان غير فرح، لكن رفض القلب أن يصدق بوجود أحد غير فرح، وهكذا من البداية تبدأ ملامح جديدة بالظهور في حياة الطبيب، ذهب للقرية فوجد الفلاحين وأحلامهم -أتوبيس القرية- ودسوقي والأرض والمنازل، لكنه الآن هو وفرح فقط.
دائمًا ما تعرض الحياة أمامنا مختلف النعم، وألوانًا من الشيء الذي نتمناه لكنها لا تعطينا إياه تقف لتضحك وتسخر علينا ومنا، هذا ما حدث مع الطبيب بعد أن أنعمه القدر بفرح، ألقى عليه صاعقة تخبره أنها متزوجة، وهكذا كانت فرح بعيدةً على قربها، وقريبةً على بُعدها، لا يستطيع الطبيب إخفاء مشاعره، وسرعان ما تعرف فرح ذلك فهي بجواره معظم الوقت ويختصها دون غيرها في الكشف الخاص في المنازل؛ نرى العلاقة بين فرح والطبيب تتطور وتتعقد، تحيا وتموت، على طول الرواية، قصة حب تتم حياكتها ببطء وشوق ولهفة.
أبانوب الخياط.. وزوجة العمدة
يعتبر أبانوب الخياط من الشخصيات المهمة في الرواية، فهو المسيحي الوحيد في القرية، لا أهل له ولا صديق، نبتة ظهرت في الحقل الخاطئ، الوحدة تقتله، لكن سرعان ما نكتشف أنه على علاقة بإحدى نساء القرية، أرملة قرر القدر أن تحمل بذور أبانوب بداخلها، امرأة مسلمة تحمل جنين خياط مسيحي وحيد، أقارب الزوج يحيطون بمنزلها، والحامل تحتاج إلى رعاية، ماذا سيحدث؟
لا نجد هذه الغرابة في هذه العلاقة فقط، بل في زوجة العمدة التي تترجى الطبيب وتخبره أنها تريده، أو بشكل أكثر دقة هي تريد أي أحد حتى يشبع رغبتها ويقضي على شبقها، فزوجها لا يقوم بشيء سوى بعض الأفعال العنيفة التي لا تأتي بثمار تشبعها.
أسلوب الكاتب محمد المنسي قنديل
كما قلت في المقدمة نفس الإنسان كتاب يقرأه الكاتب وهذا أمر يسهل ملاحظته مع تقدم صفحات الرواية وأحداثها، يخترق نفس الطبيب ويتحدث عن مشاكله ومشاعره بكل سهولة، ينقل لنا بسهولة وبأقل الوصف مشاعر وأفكار الريف بأكمله الذي يحيط بالطبيب، وكقدرته على التحدث عن الإنسان يتحدث عن المكان، يتحدث الكاتب عن الريف بجميع أبعاده، الصور الكلاسيكية التي نعرفها، والصور الخفية التي لا نعرفها، وفي أوقاتٍ كثيرة كان يقوم بوصف الروائح والأصوات حتى يصل الأمر في بعض الأحايين إلى شم محسوس وسمع مُدرك في واقع القارئ.
قرر الكاتب محمد المنسي قنديل أن تكون رواية طبيب أرياف على لسان بطلها الطبيب، وقد كان هذا الأسلوب هو الأنسب حيث ساعد في نقل التجربة الكاملة للطبيب، كما استطاع أن يستغل هذا الأسلوب السردي أحسن استغلال، فعند قراءة الرواية لن تشعر أن هناك شيء ناقص إذا تحدث الكاتب عن أمر معين يخص الريف وأهله، كل شيء متداخل ومنصهر ويعطي في النهاية صور نهائية جيدة.
كما قرر الكاتب كتابة فصول مميزة تحرك الأحداث، وتغير إيقاع القصة، وتخلق نوع جديد من الإثارة والرغبة في معرفة الأسطر القادمة، وقد فعل هذا بشكل واضح في الفصل السادس حينما ذهب الغجر للقرية وقرروا تقديم عروض ترفيهية لأهل القرية، وفي هذا الفصل سنجد التداخل الممتع بين السيرة الهلالية وقصة بطل الرواية الطبيب علي.
سلبيات وعيوب في رواية طبيب أرياف
لم يتطرق الكاتب في رواية طبيب أرياف كثيرًا لذكر إيجابيات الريف، بل اهتم فقط بإظهار عيوبه ومشكلاته، وفي بعض الأحيان كانت هذه النظرة الأحادية تخلق نوع من عدم التوازن مما يُصعب على القارئ عملية التفاهم مع العمل؛ العنصر النسائي في العمل محدود لكن ليست هذه المشكلة، المشكلة في نمطية وتكرر المشكلة أي سنجد أن زوجة العمدة شبقة، والأرملة تنام في الخفاء مع الخياط، وحتى فرح الملاك المتزوج تريد الطبيب قلبه وجسده، ودور الممرضتان الأخريتان غير مهم، لذلك نجد أن المرأة في الرواية لا يتم التحدث عنها إلى من خلال الجانب الجنسي فقط.
لا أعرف هل التحدث عن سيدات الرواية من الناحية الجنسية فقط، هل هذا الأمر سلبية ظاهرة أم أننا أمام تحليل قوي وعميق للريف ومشاكله، ومحاولة لنزعِ القشرة عن مشاكل يتم التغاضي عنها، وإنكار أنها موجودة لكن يصعب التحدث في هذا الأمر يثقة من خلال رواية أو مراجعة لها.
يلوم البعض الآخر من القُراء نمطية الأحداث وتكرر اليوم إلى في القليل منه، ويمكن اعتبار أيضًا أن قصة الحب المتهورة أمرًا مبتذلًا، لكن أعتقد أن هذه النظرة قاصرة فالعلاقة بين الطبيب وفرح أعمق من القصص المعروفة، كما يتم معالجة الكثير من الأمور خلال تطور هذه العلاقة، فسنجد حديث فرح عن التعليم وزوجها وزواجها وأمور أخرى كثيرة.
هكذا أكون قد أنهيت مراجعة رواية طبيب أرياف للكاتب المصري محمد المنسي قنديل، هذه الرواية التي لم تصدر إلا منذ أسابيع قليلة والتي قد أعجبت السواد الأعظم من قارئيها، قد تجد اختلافات بسيطة حول بعض تفاصيل الرواية، لكن لا أحد يختلف على قوة السرد وعمقه ورصانته.
في النهاية رواية طبيب أرياف لمحمد المنسي قنديل هي رحلة لم يؤثر شيء على خروجها بهذه الكيفية وهذا الشكل حتى فيروس كورونا وتفشيه في العالم، الرواية هي مغامرة ستخسر كثيرًا إذا لم تعشها وتتفاعل مع شخصياتها وسطورها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.