موت الأرشيدوق.. القشة التي فجّرت نيران الحقد في أوروبا وأطلقت بركان الحرب العالمية الأولى

دعاء رمزي
دعاء رمزي

7 د

انطلق بركان الحرب العالمية الأولى عام 1914 مباشرةً بعد اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد النمسا وزوجته رميًا بالرصاص في سراييفو على يد ثائر قومي صربي مُراهق هو جافريلو برينسيب في 28 يونيو 1914، هذا الحادث الذي في أسوأ حالاته كان المفترض أن يتسبب في فرض عقوبات قوية على صربيا التي أشارت كل الأدلة تقريبًا لتورطها، أو حتى يؤدي إلى حرب محدودة بين صربيا والنمسا، فاقت تتابعاته كل ما يمكن للمرء أن يتخيله كنتائج لحادث اغتيال.

فما حدث أنه أشعل النار في الهشيم، وأدى لاندلاع الحرب في كل أنحاء أوروبا ومناطق متفرقة في العالم لتستمر 4 سنوات دامية، قاتلت فيها قوات المحور والتي ضمت كل من ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا والدولة العثمانية، ضد قوات الحلفاء والتي شملت بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا وإيطاليا ورومانيا وكندا وبلجيكا، ثم انضمت اليابان بعد هذا للفريق الأول في حين انضمت الولايات المتحدة الأمريكية للفريق الثاني.

وبسبب استخدام تقنيات عسكرية جديدة مع استخدام الخنادق بكفاءة، فقد شهدت الحرب العالمية الأولى مستويات غير مسبوقة من الدمار والمذابح والوحشية الشديدة، التي غذتها أحقاد الاستعمار والتعصب للقوميات، وحين انتهت بانتصار قوات الحلفاء كانت تركت خلفها 16 مليون قتيلًا بين عسكريين ومدنيين مع خراب ودمار لا أول له ولا آخر.

فما تفاصيل اغتيال الأرشيدوق فرديناند الذي فجّر نيران الحقد المدمرة في أوروبا؟ وكيف استغلت النمسا الأمر سريعا للسيطرة على البلقان؟ وكيف انزلقت كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وصربيا وروسيا لهذه الحرب الطاحنة.


لماذا أدى مقتل الأرشيدوق فرانز فرديناند لإشعال الحرب؟

كان التوتر سيّد الموقف في جميع أنحاء أوروبا عمومًا وفي منطقة البلقان خصوصًا، فهذه المنطقة التي كانت خاضعة للنفوذ العثماني المتآكل في هذا الوقت، كانت بدأت تطمع في حريتها وتكوين دولة قومية موحدة، ولكن هذا لم يُرضي الدول الكبرى الناشئة مثل روسيا والنمسا والمجر، وكانت النمسا نظريًا ووفقًا للمعاهدات مع العثمانيين وروسيا لها حق إدارة البوسنة والهرسك، ولكنها فعليًا لم تكن تحكمها نتيجة عدم الاستقرار السياسي والنزعة القومية المتطرفة للسلافيين، والتي أثارت حنق الدول الكبرى وقتها ورغبت في استغلال الحادث لإنهاء مسألة القومية للأبد.

فقد أثار اغتيال فرانز سلسلة شديدة السرعة من الأحداث المتصاعدة، فقد ألقت النمسا والمجر اللوم على صربيا في حادث الاغتيال، وتبعتها الكثير من دول العالم التي كان لكل منها أطماع مختلفة في تلك المنطقة وأحقاد متفاوتة في الوقت ذاته.


التخطيط للاغتيال

كان الأرشيدوق فرانز جوزيف هو الوريث المفترض لعرش فرانز جوزيف والده، والذي كان غاضبًا عليه بشدة نتيجة زواجه من صوفي تشوتيك، لأنها ليست من سلالة حاكمة رغم أنها كانت من طبقة نبلاء التشيك، وكان فرديناند أيضًا المُشرف العام على أمور الجيش والشؤون العسكرية، وهذه الصفة الأخيرة تحديدًا هي ما كانت السبب في أنه لقى حتفه.

فقد وافق بصفته مشرفًا على الأمور العسكرية على حضور سلسلة من التدريبات في البوسنة والهرسك التي كانت حديثة العهد بالانضمام إلى النمسا والمجر مع مقاطعات أخرى ضد رغبة قوية من صربيا والتي كانت تطمع فيها أيضًا.

وكان فرديناند يُعارض ضم هذه المقاطعات أو القيام بأي نشاط مستفز بها، حتى لا يؤدي هذا إلى تفاقم الوضع المضطرب بالفعل، فقد انقسم سكان البوسنة والهرسك إلى 40% من الصرب و30% من المسلمين، و20% من الكروات، والـ10% الباقية من عرقيات مختلفة.

وعندما انتشر خبر زيارة فرديناند المُرتقبة والتي كانت ستعزز سلطة النمسا في البوسنة أكثر وتؤكد التبعية للإمبراطورية، بدأ التخطيط للاغتيال على يد جمعية الشباب البوسنيين، وهي جمعية ثورية شكلها الطلاب الفلاحين، وسافر كل من جافريلو برينسيب وتريفكو جرابيز ونيدليكو كابرينوفيتش إلى العاصمة الصربية بلغراد في شهر مايو ليتسلموا 6 قنابل يدوية و4 مسدسات نصف آلية وكبسولات السيانيد للانتحار، من أعضاء جماعة "اليد السوداء" الإرهابية والتي تأكد وجود صلات قوية بينها وبين الجيش الصربي.

كما تدرّب الشباب على استخدام الأسلحة في حديقة بلغراد ليعودوا من جديد إلى البوسنة مع النجاح في تهريب الأسلحة داخل الحدود بمساعدة جديدة من "اليد السوداء"، ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا كانت الحكومة الصربية شاركت بوضوح وفاعلية في هذا المخطط أم فقط تجاهلت ما تحت الرماد من نيران.


المحاولة الأولى لاغتيال الأرشيدوق

غادر فرديناند وصوفي بلادهما إلى البوسنة والهرسك في 23 يونيو رغم علم الأرشيدوق الأكيد بالتخطيط لاغتياله، حتى أنه عندما ارتفعت حرارة سيارته أشار إلى أن الرحلة تبدأ بفأل غريب، فهنا تحترق السيارة وهناك سيلقون علينا القنابل، ورغم ذلك لم يتراجع وقضى يومين في التدريبات العسكرية، كما زارت صوفي المدارس ودور الأيتام واجتمع حولهم عدد من الجمهور وعاملوهم بأدب ودفء شديد ربما يكون السبب في اطمئنان الأرشيدوق.

وقبل اليوم الأخير للزيارة أُقيمت مأدبة مع الزعماء الدينيين والسياسيين، وقد استقل كل من الأرشيدوق وصوفي القطار في رحلة قصيرة إلى سراييفو في 28 يونيو، ومرّت الأمور أيضًا دون أي عوائق أو مخاطر حتى أنه أرسل رسالة تهنئة إلى ابنه بمناسبة نتائج امتحانه الأخير.

ولكن بعد الهبوط من القطار ركب الأرشيدوق وزوجته سيارة مفتوحة وكان المفترض أن تحمل السيارة التي أمامهم 6 ضباط على أعلى قدر من التدريب، ولكن ما حدث فعليًا أن السيارة كان بها ضابط واحد فقط و3 رجال من الشرطة المحلية، حتى أنه أُثيرت الشكوك بعدها من عدم الاهتمام بالتأمين ربما على حساب فخامة التخطيط للمأدبة.

وفي طريق السيارة إلى قاعة المدينة انتشر 7 من الشباب البوسنيين على طول رصيف أبيل وألقى كابرينوفيتش قنبلة على سيارة الأرشيدوق، إلا أنها ارتدت عن السقف المطوي لتهبط أسفل السيارة الأخرى وتنفجر بها مؤدية إلى إصابة ضابطين من الجيش والكثير من المارة ولم يصب الأرشيدوق وصوفي بأي أذى.

وحاول كابرينوفيتش الهرب عبر القفز في مجرى نهر جاف إلا أنه قُبض عليه، وحاول الانتحار دون جدوى ويُقال أنه صرخ بأنه بطل صربي.


المحاولة الثانية والأخيرة ومقتل الأرشيدوق

كان من المفترض بعد هذه المحاولة الواضحة لاغتيال الأرشيدوق والتي أكدت له أن الأمر حقيقي وليس مبالغات أو إشاعات أن ينطلق من فوره إلى بلاده، خصوصًا أن الهدف من الزيارة اكتمل تقريبًا وانتهى برنامج الرحلة، ولكن بدلًا من ذلك أصر على استكمال البقية الباقية منه بالذهاب إلى قاعة المدينة، بل وبعد الانتهاء منها أصر على زيارة الضباط الجرحى بسبب الانفجار حتى يُحبط مخططات أي قاذف آخر للقنابل، ويؤكد لهم عدم خوفه أو انزعاجه ولكن أسلوبه لم يفلح في التقليل من عزيمة القوميين على التخلص منه، وما يمثله من سيطرة النمسا على بلادهم.

فبعد أن أنهى زيارته للضباط انطلق الموكب عبر رصيف أبيل بسرعات عالية للغاية، لتنحرف الثلاث سيارات الأولى عن طريق الخطأ إلى شارع جانبي كان برينسيب يقف فيه، وخلال محاولة السيارات العودة للطريق أمسك الثائر البوسني المسدس وأطلق رصاصتين على الأرشيدوق أصابت إحداهما عنقه، في حين عبرت الثانية بطن صوفي ليجزع فرديناند بشدة على زوجته مناشدًا إياها ألا تموت حرصًا على أطفالهما.

ولكن لم يحتمل كل منهما إصابته المباشرة ومن مسافة قريبة ليتوفيا خلال دقائق من إطلاق النار، وبعد إلقاء القبض على برينسيب ذو الـ19 عامًا أكد أنه لم يكن ينوي قتل صوفي، وبعد الحكم عليه بالإعدام خُفف الحكم إلى السجن 20 عامًا ولكنه أصيب بمرض السل وتوفي في السجن في أبريل 1918 عن عمر يناهز 23 عامًا.


 انطلاق الحرب

ذو صلة

مع تصاعد حدة التوترات في أوروبا أدى هذا الحادث للتعجيل بالانحدار السريع للحرب، ففي البداية أرادت النمسا الانتقام من صربيا والتأكيد على نفوذها وحصلت على دعم ألمانيا الواضح، وقد أرسلت النمسا إنذارًا سيء اللهجة تمامًا إلى صربيا حتى يكون رفضه مؤكدا، وعندما اقترحت صربيا اللجوء للتحكيم الدولي لحلّ النزاع سبقتها النمسا وأعلنت الحرب بعد شهر واحد فقط من اغتيال الأرشيدوق.

ولأن روسيا القوة الصاعدة بجرأة كانت تدعم صربيا فقد انجذبت للحرب أيضًا، وكانت صربيا في هذا الوقت مقتنعة تمامًا بأن النمسا والمجر تستعد للحرب، لذلك أمرت الجيش الصربي بالتعبئة العامة وناشدت روسيا المساعدة، والتي من ناحيتها طلبت تدخل حلفائها البريطانيين والفرنسيين وتعاونت بلجيكا معهم أيضًا ضد النمسا والمجر وألمانيا، لينهار السلام الهش وتبدأ الحرب عبر مواجهات في أكثر من محور وأكثر من منطقة فرضت فيها ألمانيا وعقولها العسكرية الشيطانية الكثير من الهيمنة مع تدمير وخراب شامل في أوروبا وروسيا، وحين بدأت في الاعتقاد بسيطرتها جاءتها الهزيمة من حيث لا تدري، ولكن لهذا حديث آخر…

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة