أولاد حارتنا الرواية المثيرة للجدل: لماذا كرهوها ولماذا أحبوها؟
15 د
“هذه حكاية حارتنا.. أو حكايات حارتنا وهو الأصدق” بهذه الجملة استهل نجيب محفوظ افتتاحية روايته الجديدة “أولاد حارتنا” والتي كانت محل انتظار العديد من الصحف والقُراء وقت نشرها، والتي قال عنها محفوظ بنفسه (قبل نشرها) مجيبًا أحد السائلين عن نوعها: إنها قصةٌ من نوعٍ جديد، لم أكتب مثله من قبل وأنا متهيب جدًا لذلك[1]، وهي التي ستصبح فيما بعد القصة التي سيحتاج نشرها إلى مساعدة شخصية من رئيس الجمهورية، والتي سيحارب الكثيرون لمنعها، كما سيحارب آخرون لأجل نشرها.
اقرأ أيضًا:
محمد حسنين هيكل ينقذ نجيب محفوظ
جمال عبد الناصر: بقالنا كتير ما قريناش لك قصة (يحدث نجيب محفوظ).
محمد حسنين هيكل: لا معلش..دي بكره طالعه له قصة، نعمل إيه.. ما هي قصصه تودي اللميان [أي لا يُلام عليها؛ تعبير عن خطورتها].
عبد الناصر: لأ دي تودي رئيس التحرير [يقصد هيكل نفسه، رئيس تحرير الأهرام التي نشر بها محفوظ].
هكذا وصف نجيب محفوظ أحد المواقف النادرة التي قابل فيها رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر عام 1967 عندما سأله عنه أحد القُراء[2] عن لقاءاته بعبد الناصر، وقد لا تبدو هذه المقابلة غريبة على الإطلاق -أي أن يقابل نجيب ناصر- فمن المتوقع أن أديبًا من أدباء الثورة ومن المعتزين بالاشتراكية العلمية كنجيب محفوظ، يُحتفى به من رئيسٍ اشتراكي كجمال عبد الناصر، ولكن إن حاولنا أن نعيد هذا المشهد مرة أخرى ولكن بحذف هيكل من الصورة لكنا نرى محفوظ يجلس في أحد السجون في الصحراء الغربية وهو يحدث مأمور السجن بعد أن انتهى من جلسة تعذيب أخرى عن أمور حياته السابقة!
إحدى المقولات الشهيرة التي قيلت عن نجيب محفوظ تقول “أشجع فنان وأجبن إنسان” ولعل المقصود بأنه جبان فهو ما ينشره من أدبٍ جريء ولكنه (أي محفوظ) أبسط من أن يقع في الصدام فيهرب من أدبه كالجبان، قد يفسر لنا هذا لجوءه المستمر للرمز بل وهروبه من تفسير الرمز، كقوله إن رواية أولاد حارتنا لا علاقة له بالأنبياء[3] وإنما هي حكاية حارة مصرية.
وأما المقصد بكونه “أشجع فنان” فهذا يجعلنا نرجع للوراء بعامٍ واحد من عام لقاءه مع عبد الناصر، كانت كتابات محفوظ في ذلك الوقت هي الكتابات الوحيدة التي تجرأت على نقد الناصرية بكل صراحة، ولعل أشهرها رواية ثرثرة فوق النيل والتي رصد فيها محفوظ الاختلاس والفساد السياسي الذي كان يمارسه كبار رجال الدولة من الضباط، وتحول مصر من جديد للدولة الملكية التي يحكمها العسكر بدلًا من العائلة الملكية.
كان المستحيل نقد الناصرية في ذلك الوقت، أي في ذروتها تحديدًا، وقت الاستعداد للحرب وقمع أي معارضة قد تعطلها فما بالك نقدٍ حاد وموجهة لشخصيات محددة في الدولة؟ وصلت الرواية لعبد الحكيم عامر قبل أن تصل لجمال عبد الناصر، يحكي نجيب أنه تخيل عامر يقول بعد أن انهاها “لا، الجدع دا زودها أوي، أحنا لازم نخلص عليه”[4].
“ثرثرة فوق النيل، التي تقدم موقفًا شرسًا جدًا من عسكرة المجتمع المصري، لا يتصور أحد ولا يصدق أحد أن ثرثرة فوق النيل كُتبت قبل عام 1967” – بلال فضل، في حوار لقناة الجزيرة[5]
وبدأ عامر بإجراء منع نشر الرواية تمامًا، بل وتوجهت سيارة عسكرية إلى منزل نجيب محفوظ لتقبض عليه، ولكن توقف خط سيرها بمكالمة من حسنين هيكل للرئيس جمال عبد الناصر ملطفًا الأمور ومتحدثًا بالنيابة عن نجيب بأن الرواية لا تمت بصلة قريبة أو بعيدة للنظام والسلطة، ليجيب عبد الناصر على هيكل: “إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟” [6]وتنشر الرواية ويلغى أمر اعتقال محفوظ.
اقرأ أيضًا:
دهاء هيكل جعل أولاد حارتنا تخرج للنور
“إنها رواية كتبها نجيب محفوظ؛ لا بد من نشرها، حتى آخر كلمة” – محمد حسنين هيكل مخاطبًا جمال عبد الناصر.[7]
يحكي هيكل ونجيب أن علي حمدي الجمال، مدير تحرير الأهرام ورسول هيكل حينئذ، قد جاء في يومٍ قديم إلى نجيب محفوظ ليطلب منه رواية جيدة تُنشر على حلقات في دورة النشر الأسبوعي، وعندما انتهى محفوظ من الرواية بعثها للجمال الذي ممرها لهيكل.
يقول هيكل إنه أنهى قراءة الرواية في ليلة واحدة، وفي الصباح قرر نشرها على الفور وبشكل يومي، وهو ما كان غريبًا جدًا لأن الأعمال الأدبية كانت عادة ما تنشر في الملحق الأدبي ليوم الجمعة بجريدة الأهرام، ولكن هيكل أمر بنشرها يوميًا حتى ينتهي منها سريعًا لترى النور قبل أن يحاول أحدهم تعطيل عملية النشر بخلق مشكلة دينية[8].
جمال عبد الناصر
وقد ظهرت أهمية فِعل هيكل عندما ضغط عليه عبد الناصر في أمر الرواية، ويجب أن نتوقف هنا عند موقف جمال عبد الناصر لأنه سيمثل لنا فيما بعد موقف الدولة (والذي سيؤثر كثيرًا على قرار محفوظ) والذي كان نادرًا أن يتفق مع موقف التيار الإسلامي، كانت محاولة عبد الناصر لمنع الرواية تقع في حدود تبيين أنه لا يسعى لقمع “الإسلام” أكثر من أنه يسعى لوقف التيار السياسي للإسلام.
بعد أن توضح الرواية مقصدها أكثر فأكثر، وبعد أن ترسل الشكاوى مباشرة لمكتب الرئيس لا إلى الأزهر، وخصوصًا بعد أن بدأ محفوظ في سرد جزئية قاسم (النبي محمد) ووصف مكة بـ “حارة الجرابيع” طلب عبد الناصر توضيحًا من هيكل لإيقاف نشر الرواية، فقال له هيكل “اجمع لجنة من رجال الأزهر واجعلهم يفحصون الرواية وسننفذ رأيهم[9]“، قال هيكل فيما بعد عن هذه الخطوة “أردت أن أكسب وقتًا لاستكمال ما تبقى من الرواية، وقد جاء قرار اللجنة بمنع النشر، وكان ذلك قبل عشرة أيام من انتهاء الرواية”[10].
هل أولاد حارتنا هي الرواية التي قرأناها؟
“الترجمة الإنجليزية قد تكون هي النص الوحيد المكتمل للرواية” – فيليب ستيورات، مترجم رواية أولاد حارتنا.
محفوظ مواطن تقليدي لا يحب الصدام، من قرأ عنه ولو قليلًا يعلم أنه أبسط ما يكون عليه شخصٍ ما، حتى أنه يُحكى أنه من بساطته قد رفض أن يغادر قهوته المصرية ليذهب للسويد ليتلقى جائزة نوبل بنفسه وأرسل إحدى بناته لتستلمها له وعندما سأله أنيس منصور عن هذا في لقاءٍ له، قال: “لا أحب السفر، يلخبط حياتي”[11].
يمكننا أن نسميها بساطة، أو “جبنًا” كما كان يسميها جمال الغيطاني، ولعل هذا الجبن أو هذه البساطة هي ما جعلته يحذف العديد من الفقرات أو يسمح بحذفها عند نشر الرواية بجريدة الأهرام.
كان الاتفاق الذي وصل له هيكل مع عبد الناصر هو أن الرواية ستمنع من النشر بعد أن تنتهي في غضون 10 أيام، ولكن سيتمكن محفوظ من متابعة نشرها ولكن ذلك خارج حدود “البلد” لذا اتجه محفوظ لدار الآداب اللبنانية ليعيد نشر الرواية، ولكن هل كانت نفس الرواية؟
الإجابة الأوضح على هذا السؤال تقول: لا، وهي ترجعنا لترجمة فيليب ستيورات التي نشرها كرسالة دكتوراه في الأدب العربي بجامعة أوكسفورد عام 1976، وعندما فاز محفوظ بنوبل 1988 قام ستيورات بإعادة تنقيح ترجمته للنشر مرة أخرى، وجلب هنا نسختي النشر المعتمدتين: طبعة الأهرام وطبعة دار الآداب، ويحدثنا ستيورات: “وجدتُ جملًا كثيرة غير موجودة في طبعة الأهرام، وكذلك فقدت طبعة بيروت العديد من الجمل[12]“.
“يوجد هناك 961 اختلافًا بين نص الأهرام ونص دار الآداب بالزيادة والنقصان”[13] – فيليب ستيورات مترجم رواية أولاد حارتنا.
بداية الهجوم من الجهة المعاكسة!
على عكس المتوقع، لم تكن بداية الهجوم على محفوظ قادمة من السلطة الدينية أو الجماعة الإسلامية، بل كان مصدرها (بدايةً طبعًا) في أغلب الحالات من أصدقاء أدباء ومن مجلات أو من قراء عاديين، يبدأ الأمر عندما أُرسلت مجموعة رسائل للنيابة العامة، وكان لنجيب صديق له شقيق يعمل سكرتيرًا في النيابة العامة (وهو شقيق رجاء النقاش) أخبر محفوظ أن من أرسل تلك الرسائل للنيابة هم “أدباء”، ولكن محفوظ آثر عدم ذكرهم[14].
لم قد يساهم أدباء في التبليغ عن نجيب؟ لا نعلم السبب تحديدًا، ولكن محفوظ كان قد ذكر في حوارٍ له مع جمال الغيطاني مشكلة مع أحد الأدباء (لم يذكر اسمه)، قال له أن هذا الأديب سمعه وهو يتحدث عن فكرة الثلاثية “رواية أجيال” فقام ذلك الأديب بعد أشهر (بينما كان محفوظ منهمكًا في التفكير في روايته) بنشر رواية مأخوذة عن الفكرة التي سردها محفوظ أمامه ويبدو أن محفوظ واجهه بهذا ما خلق مشكلة بينهم[15].
لعل صالح جودت هو أبرز أديب ظاهر في الهجوم على محفوظ، كان لجودت مشاكل عديدة سابقة ولاحقة مع محفوظ مثل هجومه العنيف عليه لتوقيعه بيان توفيق الحكيم 1972، وفي وقت نشر “أولاد حارتنا” كان جودت محررًا في جريدة المصور، وكان قد بدأ هجومه بنشر مجموعة من “أراء القراء” عن رواية نجيب محفوظ الجديدة التي تتحدث عن “الأنبياء”، وبالطبع كانت تضم سبًا واضحًا ولعنًا لشخص محفوظ، ومن الواضح أن جودت كان ينتقي الرسائل التي يختارها للعرض دون غيرها، لدرجة جعلت أحد أصدقائه يسأله إذا كان “السيد محمد أمين (وهي شخصية نشرت في المصور نقدًا لأولاد حارتنا) شخصية حقيقة بالفعل أم أنه صالح جودت مستتير؟”[16].
الطرفين الآخرين المشاركين بالهجوم كانا جريدة الجمهورية المصرية ومجلة “الإذاعة”، أما الأولى فكان هجومها غير عنيف، فكانت ترغب فقط في منافسة أختها “الأهرام”، وعندما حصلت على يوسف أدريس لينشر بها أوقفت الهجوم، أما مجلة الإذاعة فقد كانت أعلنت قبل الأهرام أن “أولاد حارتنا” سوف تنشر عندهم (وكان محفوظ قد اتفق معهم بالفعل ولكنه أخلف وعده)، تسبب هذا بموقف محرج لإدارة المجلة أثناء نشر الرواية، لذا انضمت بالتبعية للهجوم على محفوظ[17].
رواية أولاد حارتنا وقراءة سياسية
“كتب نجيب محفوظ أولاد حارتنا، جاعلًا من الاشتراكية محورًا أساسيًا للرواية” – غالي شكري[18]
يقول محفوظ: أنا لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بيني وبين المجتمع، قلق وشعور من عدم الرضى؛ بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، ومن هنا بدأت كتابة رواياتي الكبيرة أولاد حارتنا التي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات.. كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات؟ وكان السؤال الذي يحيرني، هل نحن نسير حقًا نحو الاشتراكية؟[19]
تفسر لنا جملة “لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بيني وبين المجتمع”.. الوقت الغريب الذي ظهرت فيه “أولاد حارتنا” بعد خمول طويل استمر 5 سنوات لنجيب محفوظ توقف فيه عن الكتابة والنشر، ولعل هذا الوقت هو وقت سعادته بالثورة التي لا طالما انتظرها فكما كان يقول دائمًا: لو خيرت بين الرأسمالية والماركسية والاشتراكية لما ترددت لحظة واحدة في الاختيار، أختار الماركسية طبعًا[20]. إلا أن مجلس قيادة الثورة لم ينل إعجاب محفوظ كثيرًا، وهنا حصل “الانفصام” بينه وبين المجتمع، لتخرج لنا أولاد حارتنا.
وعلى ذلك، نستطيع أن نقرأ الرواية على أن الطبقة المتسلطة من الفتوات هي مجلس إدارة الثورة والعسكر، وهي القوة التي تتميز بقوتها وبطشها، وهناك دوما الناس المطحونين تحت أيدي الفتوات -وهم الشعب- ويحدث أحيانًا أنهم يتحررون من يد الفتوات عن طريق أُناس -ويمكننا أن نفرض أنه يقصد سعد زغلول أو عرابي وقادة الثورات- يأتون ليرفعوا أسمى المبادئ ويقوموا بالثورات، ولكن “آفة حارتنا النسيان”، فما تلبث أن تُحقق الثورة إلا وأن ترجع طبقة الفتوات للهرم الاجتماعي مرة أخرى لتحكمه.
الله ما بين جبلاوي وزعبلاوي
يمكنني أن أصف بوضوح أن ترميز محفوظ لله في شخصية الجبلاوي كان القشة التي قسمت ظهر البعير، خصوصًا أنه جعله يموت في النهاية على يد عرفه (رمز العلم والمعرفة (وكأنه انتصار من المادية على الوجود الآلهي، وقد يكون بعض رجال الدين قد قرأوا رمز ترك الناس للجبلاوي وقيمه وقول “لا شأن لنا بالماضي، لا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر، لاخترنا السحر”[21] على أنه تحدٍ من محفوظ لرجال الدين الذين قد أصبحوا مهجورين في المجتمع الحديث، وأنهم لن يغدوا قادرين على الاسترزاق من الدين.
زعبلاوي ومجنون نيتشه
لنستخلص سريعًا النهاية والمغزى العام من رواية أولاد حارتنا لمؤلفها نجيب محفوظ الكاتب الشهير: يقتل عرفة (العلم) الجبلاوي (الله)، ولكن بعد هذه الفعلة فإن عواطف (يقصد بها غالبًا القيم والمشاعر والأشياء التي لن يستطيع العلم أن يفسرها) تتخلى عن عرفة، ويدخل عرفة في موجة من الغم والحزن دونها، يستغل الناس سحر عرفة في تحقيق ما يبغون إلا أنهم يطغون على بعضهم البعض مجددًا، وتعود الحارة لسابق عهدها من فساد كما يحدث كل مرة، لأن آفة حارتنا النسيان.
إلا أن الحكاية لا تنتهي هنا، بل تنتهي ببصيص من الأمل:
أما الناس فتحملوا البغي في جلدٍ ولاذوا بالصبر واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.
وعلى أنه لا يوجد جزء آخر من الرواية يستكمل ما حدث لهذا الأمل، إلا أن محفوظ نشر بعد انتهائه من أولاد حارتنا بعامٍ واحد، قصة قصيرة هي من أشهر قصصه القصيرة على الإطلاق، وهي القصة التي اختارها لُتنشر في دار الهلال بمناسبة فوزه بجائزة نوبل 1988: قصة زعبلاوي.
قبل أن نشرع في محاولة تحليل زعبلاوي نجيب محفوظ، لنلقي نظرة على أول قصة برزت فيها عبارة “إن الله قد مات”، وهي قصة مجنون نيتشه من كتاب “العلم المرح“.
فريدريك نيتشه
تحكي القصة عن شخص مجنون، يبحث في الأسواق عن الله، ويصيح في كل من يجده أمامه: أين الله؟! أنا أبحث عن الله أين هو؟ ويبدأ الناس في السخرية منه لأنه يبحث عن الله كما ولو أنه يبحث عن طفلٍ ضائع، ولكنه يصرخ مرة أخرى: أنا سأخبركم أين هو! لقد قتلناه، أنا وأنت ونحن! نحن جميعًا قتلة!
اقرأ أيضًا:
الآن فلنعد لزعبلاوي محفوظ، يقول راوي القصة إنه كان يسمع عن الشيخ الزعبلاوي منذ طفولته، وعندما سأل أباه “من هو الزعبلاوي يا أبي” قال له: فلتحل بك بركته، إنه ولي صادق من أولياء الله الصالحين.
ويمر الوقت براوينا حتى يكبر ويصاب بداءٍ لا دواء له عند أحد، فيتوجه للبحث عن الزعبلاوي، ويتضح هنا أن الزعبلاوي ما هو إلا رمز لله، وأن بطلنا هو في رحلة للبحث عن الله الذي يسمع عنه منذ طفولته.
يبدأ بطلنا رحلة البحث بأن يسأل كل من يجده عن طريق زعبلاوي، أين هو؟ من يعلم أين هو؟ ولكن كل ما يسمعه “زعبلاوي! ياسلام! والله زمان! كان يقيم في هذا الربع حقًا عندما كان صالحًا للإقامة.. ولكن أين زعبلاوي اليوم؟”
“هذا الزعبلاوي يتعب كل من يبحث عنه، كان أمره يسيرًا في الزمن القديم، عندما كان يقيم في كل مكان، اليوم الدنيا تغيرت، وبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتهمة الدجل..”
إذًا فمصير زعبلاوي أشبه بمصير الله في قصة نيتشه، أصبح مطاردًا، ولعل “البوليس” مقصود به المادية التي حكمت الغرب، ولكن نتابع القصة نجد أن هناك شخصية جديدة تدعى “ونس الدمنهوري” وهو سكير، وهو الوحيد الذي يتردد عليه زعبلاوي، ولكن كيف يتردد زعبلاوي (الذي هو ولي من أولياء الله الصالحين) على حانة سكير؟ سيتضح لنا هذا عندما لن يسمح لصديقنا بأن يتحدث إليه حتى يسكر، فيقول له: تفضل بالجلوس أولًا، واسكر ثانيًا!
ثم يقول له “في مجلسٍ كمجلسي هذا، لا أسمح بأن يتصل بيني وبين أحد كلام إن لم يكن سكرانًا مثلي، وإلا خلا المجلس من اللياقة”
حتى الآن نحن نلحظ ميراثًا كبيرًا من أولاد حارتنا، فليس فقط أن الزعبلاوي على وزن الجبلاوي نطقًا، وليس فقط أن كلاهما شخصيتان مجهولتان، اختفيا عن عالمنا وآثرا العزلة بعيدًا، ولكن أيضًا فإن من يقابل الجبلاوي ويتبعه من فتوات هو حشاش غالبًا في أولاد حارتنا، وهنا نجد الحاج ونس الدمنهوري سكير، وكأن نجيب يحاول أن يخبرنا بوضوح: نعم الدين أفيون الشعوب، أو أن المؤمنين لا يستطيعون أن يحاوروا الواقعيين إلا بالتخلي عن يقظتهم وواقعتيهم.
يدخل صاحبنا بعد ذلك في حلم جميل أشبه بالجنة، ويستيقظ على رأسه مبتل، فيسأل ونس، فيقول له:
– نعم صاحبي حاول تنبيهك
– أرآني أحد هكذا؟!
– لا تزعل، إنه رجل طيب، ألم تسمع عن الشيخ زعبلاوي؟
– زعبلاوي؟! أين هو؟! ما جئتك إلا لألقاه، ساعدني على اللحاق به!
يخرج صاحبنا للبحث وينادي في كل مكان، ولكن “لم يفدني النداء” ويسهر مع ونس الليلة التالية، ولكن ونس يسافر للقاهرة ويخبره “لا تقلق، لقد كان معي أمس وأول أمس وأول أمس.. إنه يأتي كل ليلة، يجب عليك أن تنتظر” وينتظر صديقنا ثم ينتظر، ولكن لا يأتي أحد ويسأم صاحبنا من الانتظار ومن البحث، ولكنه يدرك في عقله أنه يجب عليه أن يجد زعبلاوي، ويختم نجيب القصة بقوله “نعم، عليَّ أن أجد زعبلاوي“.
فكرة وجود الإله في العمل: خرافة وأفيون أم أمل حقيقي؟
“عندما أنهيت أولاد حارتنا، شعرت أنني وجدت إيماني” – نجيب محفوظ في حوار مع فليب ستيورات
لو أردنا أن نوضح الفرق الأكبر بين قصة محفوظ وبين قصة نيتشه، سواءً في موت الإله في حارتنا أو في البحث عنه في قصة زعبلاوي هو أن نيتشه تنتهي حكايته -أو قُل أطروحته- بموت الله في كل مرة، بينما يقف الأمر في قصة محفوظ على انتظار الأمل دائمًا، ففي أولاد حارتنا كانت نهاية قول الحاكي هي أن حارتنا سوف ينصرع فيها الطغيان ويشرق النور والعجائب، وفي نهاية الزعبلاوي، علم الراوي أنه يجب عليه فقط أن يستمر بالبحث عنه، وهذا ينافي تمامًا فكرة أن رواية أولاد حارتنا لمؤلفها نجيب محفوظ تروج للنتشاويه وموت الله.
لك أيضًا:
الحشيش في الرواية العربية: إذا حضر اجتمع حوله الجميع
أما أفيون الشعوب، أو بشكل آخر الحشاشين والخمر، وكذلك صورة الجبلاوي وزعبلاوي المرموزة، فقد فسرها محفوظ بنفسه قائلًا: أما ما يتعلق بالجبلاوي، فالماركسيون هم الذين تصوروا في نقدهم أني أدعو إلى موت الإله، والجبلاوي بالعقل ليس هو الله المطلق الخالد، وإنما هو الإله في أذهان بعض البشر.
لمزيد من المراجع والمصادر:
[1] مجلة الجيل، 20 مارس 1959، نقلًا عن: محمد شعير، أولاد حارتنا، سيرة الرواية المحرمة، دار العين للنشر 2019، ص23.
[2] جمال الغيطاني، نجيب محفوظ يتذكر، دار المسيرة، بيروت 1980م، ص80.
[3] من حوار نجيب محفوظ مع د. أحمد كمال أبو المجد.
[4] نجيب محفوظ يتذكر، مصدر سابق، ص77.
[5] من سلسلة النجيب.
[6] رجاء النقاش، عبدالناصر يقرأ ثرثرة فوق النيل، مقال مؤرشف.
[7] أولاد حارتنا، سيرة الرواية المحرمة، مصدر سابق، ص38.
[8]المصدر السابق، ص37.
[9] المصدر السابق، ص38.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق، ص21.
[12] المصدر السابق، ص115.
[13] المصدر السابق.
[15] نجيب محفوظ يتذكر، مصدر سابق، ص63.
[16] أولاد حارتنا، سيرة الرواية المُحرمة، مصدر سابق، ص47.
[17] المصدر السابق، ص59.
[18] غالي شكري، معنى المأساة في الرواية العربية، دار الأفاق، بيروت، ج1 ص32.
[19] فاطمة محمد سعد، الرمزية في أدب نجيب محفوظ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، القاهرة، 1981، ص135.
[20] السيد أحمد فرج، أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام، القاهرة، 2000، ص36.
[21] أولاد حارتنا، نجيب محفوظ، دار الشروق 2012، ص549.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.