في رحاب الأندلس: القصة كاملة من الفتح إلى ما وراء السقوط
7 د
الحقيقةُ إنّ اختصار ثماني قرون من التواجد الإسلامي في الأندلس مع كلّ ما يرافقه من أحداث وتداعيات ومظاهر حياةٍ متكاملةٍ بشقيّها الديني والدنيوي في سلسلة من المقالات، قد يبدو للوهلة الأولى أمرًا غير منصفٍ بتاتًا، غير أنّنا سنحاول من خلالها أن نلقي الضوء على الكمّ الممكن من مظاهر الحضارة آنذاك، في مختلف المجالات حتى تكون الرحلة شاملةً ممتعةً.
هنا الأندلس! نجوب في شوارعها، وبين جدرانها، ومعالمها ونسمع في أزقّتها الضيّقة القصّة الكاملة من الفتح إلى ما وراء السقوط.
لنبدأ الجولة معًا..
قصة البداية: الظروف قبيل الفتح
أطلق اسم الأندلس (سيأتي تفصيل لأصله بعد قليل) على شبه الجزيرة الإيبيرية، الواقعة غرب أوربا، والضامّة لكل من إسبانيا والبرتغال، وبعضٍ من جنوبِ فرنسا.
تتميز تضاريسها بكثرة السلاسل الجبلية، واختراق وديانٍ وأنهارٍ كثيرةٍ لأراضيها، ولعلّ أبرزها نهر الوادي الكبير المارّ بقرطبة وإشبيلية.
تقول كتب التاريخ أنّ السكّان الأصليين لها هم الإيبيريون، ثم لحقتهم أمم مختلفة من البلدان المجاورة بدءًا من الفينيقيين الذين أسسوا مدينة قادس، إلى اليونانييّن الذين كانوا أول من بنى برشلونة، إلى القرطاجينيين، الذين شيّدوا المدينة التي تحمل اسمهم: قرطاجنة.
ثم ما لبثت أن صارت جزءًا من الإمبراطورية الرومانية سنة 205 ق.م.
في بدايات القرن الرابع الميلادي، ظهرت قبائل جرمانية، عرفت باسم القوط الغربيين، وكانت دائمةَ الحرب مع الرومان شأنُها في ذلك شأنُ بقية الفصائل الاسكندنافية مثل الفايكنغ، والأنغلوساكسونيين، فحكمتها لمدة ثلاثة قرونٍ متوالية.
يسمّي المستشرق الفرنسي ليفي بروفسنال السّنواتِ الأخيرة من حكم مملكة القوط الغربيين بالـ “السنوات العجاف” التي سادها التعفّن في كل الجوانب، من التفكّك الذي أعقبته حركات التمرد، إلى ظلم الضرائب الكثيرة المهلكة للشعب، إلى المؤامرات داخل العائلة الحاكمة طمعًا في السلطة، إلى الطبقيّة السائدة (طبقة النبلاء، رجال الدين، الطبقة الوسطى، الطبقة الدنيا) وكل ذلك كان مؤشرًا واضحًا على قرب سقوطها، وفق نظرية ابن خلدون عن الحضارة:
اعلم أن أول ما يقع من آثار الدولة في الهرم انقسامها.
بعد وفاة الملك غيتشة، عيّن لُذريق بمباركةٍ من النبلاء ورجال الدين، وكانت مرحلة حكمه فيصلًا هامًّا في تاريخ الأندلس.
بوادر فتح الأندلس
بالمقابل، كان فتح الأمويين لشمال إفريقية (الجزائر، تونس، المغرب، ليبيا) بقيادة موسى بن نصير متزامنًا مع سنوات القوطيين العجاف ولعلّه كان عاملًا أساسيًّا، إلى جانب الرغبة في نشر العقيدة الإسلامية، في التشجيع على الفتح.
هذا إضافةً إلى ضرورة حماية المناطق المفتوحة من بلاد المغرب من هجمات القوطيين.
جاء في المصادر العربية أن “يُليان” والي طنجة والذي كان ساخطًا على لُذريق بسبب سوء معاملته لأتباع الملك السابق غيطشة، قد عرض على طارق بن زياد المساعدة في دخولها.
بعد موافقة الخليفة الأموي في دمشق، الوليد بن عبد الملك، تمّ إرسال أول حملة استكشافية استطلاعية، بقيادة مالك بن طريف، كي يتمّ من خلالها دراسة تضاريس المنطقة، وأحوالها، ووضعها العام.
بعد ذلك بسنة، تجهزت سريّةٌ بقيادة طارق بن زياد، يبلغ عددها ستة آلاف جنديّ، معظمهم من الأمازيغ، وعبرت جبل كالبي الذي عرف بعد ذلك بجبل طارق، بأربع سفن تجارية، تعود إلى يُليان، كحيلة تمكّنهم من الدخول دون لفت انتباه السكان.
ولا نذكر فتح الأندلس، من دون أن نذكر خطبة طارق التي اختُلف في صحتها:
أيها الناس أين المفر؟
البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحتهِ وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم.
سجلت معركة الوادي برباط، بين جيش طارق وجيش لُذريق، في 19 يوليو من السنة ذاتها كإحدى الأحداث المحورية التي غيرت مجرى التاريخ، وقد دامت سبع أيامٍ وانتهت بانتصار المسلمين.
توالى بعد ذلك فتح طليطلة التي كانت عاصمةً للقوط، ثم شذونة، وإستجّة، وإشبيلية، وقرطبة، وقرمونة وغيرها..
كان فتحُ الإسلام لإسبانيا فاتحةَ عصرٍ جديدٍ.. وبدأ تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية.
محمد عبد الله عدنان
أصل الحكاية: من أين جاءت الأندلس؟
نعود من حيث أتينا، لنعرّج قليلًا على قصة اسم الأندلس والأقوال المتضاربة في أصله.
هناك اختلافٌ في المدة الزمنية التي استُحدث فيها هذا الاسم، إذ تقول بعض المصادر أن أصله من كلمة فندالوشيا وترجع إلى قبيلة الوندال التي استقرّت في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وتقول أخرى أن أصل الأندلس يعود إلى أطلنطس وتقول ثالثة أن القوط الغربيين كانوا يطلقون عليها اسم لاندالوتس، وأن الأندلس مُحوّرة منها.
هذا هو الرأي الذي يميل إليه المؤرخ هاينز هالم.
ماذا عن نظام الحكم في الأندلس بعد الفتح؟
مرورُ حوالي 800 سنة (711 م – 1492 م) على حكم المسلمين للأندلس كان كفيلًا بإحداث تغييرات ومستجدات عديدة في نظام الحكم، والإدارة، تبعًا للظروف التي تفرضها موازين القوى، وتداعيات سياسة الحكم، وأحوال الدول القائمة والساقطة.
لكن دعونا نتفق كذلك، أنّ مظاهر أي دولة قامت في مكان ما، لا بدّ وأن تبقى شاهدة على ذلك العصر مهما فرضت التغييرات بعدها.
ثم إنّ الأمر ذاته، ينطبق على ما خلّفه المسلمون في الأندلس. وفي هذا يقول المؤرخ فرانسيسكو فلاسباسان:
إذا قُمنا بانتزاع الكلس عن جدران الكنائس الإسبانية، سنجد لا محالة، اسم الله مذهّبًا بحروفٍ كوفيّة. كما أنّنا سنُفاجأ بلون بشرة العرب إذا ما قمنا بخدش بشرتنا الأوروبية.
القومية الغربية مجردُ ظاهر. القومية الشرقية حقيقةٌ خالدة.
لذلك، فإنّ دخول المسلمين أعقبه بقاءٌ لمعظم التنظيماتِ الإدارية التي اعتمدها القوط الغربيون، وأضيفت لها تغييرات شكلية بما يتفق مع نظام الحكم.
شهدت الأندلس (بحكم المدة الطويلة لبقاء المسلمين فيها) توالي عهودٍ عدة، بدءًا من عهد الولاة، إلى عهد مملكة غرناطة، أو الأندلس الصغرى كما سميت..
دعونا نتعرف على خصائص هاته الأخيرة.
عهد الولاة
أصبحت الأندلس بعد الفتح ولايةً من ولايات الدولة الأموية، أي أنّ جميع القرارات التي تخص شؤونها، يتم إملاؤها من طرف السلطة في دمشق. كما ألغي خلالها نظام العبيد الذي كان ساري المفعول إبان حكم القوطيين.
ولندع المستشرق رينهارت دوزي يشرح لنا ذلك:
كان الفتح العربي خيرًا على إسبانيا، فقد أحدث ثورة اجتماعية خطيرة وقضى على شطر كبير من المساوئ التي كانت البلاد ترزح تحتها منذ عدة قرون.
أما سلطان أصحاب الامتيازات، والكهنوت والأشراف، فقد تضاءل إلى حدّ التلاشي… كذلك عمل الفتح على تحسين حال الطبقات الدنيا.
اتخذت من إشبيلية مركزًا لها، ثم تحولت إلى قرطبة.
عهد الإمارة الأموية (إمارة قرطبة)
بعد ضعف الدولة الأموية، انهارت في 25 كانون الثاني 750 م، عقب آخر معركة لها مع الدولة العباسية (معركة الزاب)، وكان عبد الرحمن بن معاوية هو الأمير الناجي الوحيد من سيف أبي العباس الذي لقب بالسّفاح من فرط ما قتل من أمويين إبان توليه للخلافة.
هاجر عبد الرحمن إلى الأندلس التي كانت تعاني من هجمات المسيحيين، وتمّت مبايعته من طرف السكان. لقب بصقر قريش، وأصبحت الأندلس في عصره وبعده منارةً عالميةً مستقلةً عن الخلافة العباسية.
عهد الخلافة الأموية (خلافة قرطبة)
لعلّ مصطلح الخلافة، قد بدا للوهلة الأولى غير مستساغ، لاستحالة وجود خليفتين (إلى جانب الخليفة العباسي)، غير أنها أجيزت فيما بعد باجتهاد العلماء، وتمّت مبايعة عبد الرحمن بن محمد سنة 912 م. وقد وصلت الأندلس في هذا العصر إلى حالة استقرار وأمن كبيرين إذ أصبحت الأوضاع الزراعية والصناعية أفضل بكثيرٍ مما كانت عليه.
ولعلّ عهد الحكم المستنصر بالله، الذي عرف بعهد الثقافة والعمران قد كان الأكثر تطورًا وترفًا وصار مسجد قرطبة منارةً علميةً عالميةً، يقصدها طلّاب العلم من جميع أنحاء العالم.
كما فتح المسلمون ثغر طولون ومناطق في سويسرا وإيطاليا. وفي السنوات الأخيرة لهذا العهد، حكم محمد بن أبي عامر بطريقة لا مباشرة، نظرًا لصغر سن خليفة الحكم المستنصر، وسمّي بالمنصور، وعرفت الدولة في عهده تطورًا وازدهارًا كبيرًا، وأطلق عليها لقب الدولة العامريّة.
عهد ملوك الطوائف
اتّسم هذا العهد بثورات داخلية واضطرابات كبيرة وفرقة تسببت فيما بعد بسقوط الأندلس، وتميز بانفراد كلّ مدينة بحاكمٍ خاصٍ بها. وقد تشكّلت المملكة من سبع دويلات رئيسية متباينة بين بني جمهور وبني عباد وبني هود وبني ذي النون، مما جعل المؤرخين يسمون العهد بملوك الطوائف.
بعد كل هذا الانقسام والتشتّت الكبيرين، دخلت الأندلس فيما بعد تحت جناح المرابطين، ثمّ الموحدين، وانتهى عهدها بمملكة بني الأحمر التي حكمت لقرنين كاملين، ثمّ انتهت بأفول سحيق سنة 1492 م، بعد اتحاد مملكتي قشتالة والأراغون عليها.
وبعد أن تطرقنا في هذا الجزء إلى قصة بداية الأندلس، والظروف قبيل فتحها، ونظام الحكم فيها، سنحاول في الأجزاء القادمة أن نلج سويًا إلى مظاهر الحياة فيها، من عمران، وفن، وتعليم وعادات وتقاليد، ونظام حكم..
تابعونا..
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.