سلاسل روايات الجيب: كتب لا تموت تعلقنا بها صغارًا ونفتقدها كبارًا
9 د
بدأت سلاسل روايات الجيب في عام 1984 من إصدار دار نشر المؤسسة العربية الحديثة، كانت انطلاقة السلسلة على يد د. نبيل فاروق مع “رجل المستحيل” و “ملف المستقبل”. ذاع صيت هذه السلاسل واستحوذت على عقول ووقت أطفال ومراهقي وأحيانًا شباب فترة الثمانينات والتسعينيات، لكن قرب انتهاء العقد الأول بعد الألفية الجديدة تهاوت سلاسل الجيب الواحدة تلو الأخرى، إلى جانب اختفاء بعضها قبل الألفية الجديدة.
أهم ما ميز هذه السلاسل من روايات الجيب أن قراءها مهما مر عليهم من الزمن كلما ذكرت اسم سلسة منهم أو اسم مؤلفها لمعت عيونهم وهذا يدفعنا للتأمل في التعويذة التي ألقاها كُتاب هذه الفترة للاحتفاظ ببريق أعين الجمهور رغم اختلاف الخبرات، الأعمار، والظروف.
دوافع ظهور سلاسل روايات الجيب
قبل التطرق لعوامل النجاح والاستمرارية وكسب الجمهور من المفترض أن نفكر في أسباب إلقاء هذه التعويذة التي ذكرناها سلفًا؛ ببساطة إيمانهم بدورهم كأصحاب قلم ومثقفين دفعهم للقيام بذلك، بجانب إدراكهم لأهمية عقول الشباب ومحورية دورهم في المستقبل حتى أن شعار معظم السلاسل: “ثقافة الغد.. لشباب اليوم”.
آتت هذه التعويذة أُكلها فهولاء الشباب قاموا بثورات الربيع العربي، وصاروا حديث الأخبار العالمية والإقليمية، لكن تعويذة جيدة معدة بشكل متقن لا يضمن نجاحها بالضرورة، فقد يكون المتلقي محصنًا، وهذا ينقلنا للشق الآخر الجمهور؛ الجمهور كان متعطشًا للغاية للتسلية والمعرفة واكتشاف عوالم جديدة وغريبة.
ليس كالجيل الحالي متشبع بكل شيء، ولا يرغب في المزيد، ظنًا منه أنه وصل إلى حد تمام المعرفة، جيل الثمانينيات والتسعينيات عَلِم أنه في حاجة للمعونة؛ لذا عندما قدمت له أول يد للمساعدة تشبث بها.
وعليه يمكننا تلخيص دوافع التفكير في تحضير تعويذة الاستحواذ على عقول وقلوب الشباب بكتابتهم في “كاتب مدرك لقوة قلمه + جيل متعطش لكل جديد”.
تحول سلستا د. نبيل فاروق إلى سلاسل متنوعة
نجاح د. نبيل فاروق دفع آخرين للمشاركة فتحول رجل المستحيل وملف المستقبل إلى ما يفوق 20 سلسلة بمجالات وزوايا متنوعة، وما ضمن جودة المحتوى هو المنافسة والمنافسة مع أقوياء فكل كاتب منهم عند إعداد أعماله يعلم أن لا فرصة للزلل فالمحتوى غير الجيد سيسقط ويصعد غيره والقراء سينسونه وسط الأعمال الجيدة.
فالمنافسة مع الجيدين تجعلك ترغب دائمًا في أن تقدم أفضل ما لديك، أما إذا كانت المنافسة ضعيفة أو مع أطراف غير قوية ما الذي سيدفع الكاتب لبذل مجهود كبير فهو يعلم أن الساحة فارغة وأي محتوى متواضع سيلاقي رواج وصيت لذا ما الداعي للمشقة؟
قد يراودك سؤال منطقي: كيف تمكن الكتاب من الحفاظ على الجمهور فالمدة من 1984 حتى 2010 تقريبًا؟
لاكتشاف إجابة سؤالنا سنستعرض أبرز السلاسل من روايات الجيب في هذه الفترة، ولكننا لسنا بصدد الحديث عن ماهية كل سلسلة بل سنقف على ما جعلها مميزة وجعلك تشعر بفراغ بعد توقفها.
رجل المستحيل
هي سلسلة من سلاسل روايات الجيب غنية عن التعريف من ملفات المخابرات المصرية وبطلها أدهم صبري، لكن لماذا يتابع الفتيان والفتيات أدهم صبري طوال 160 عددًا؟
أدهم صبري جسد المثالية بكل ما تحمله من معنى، بطل يشبه الأبطال الخارقين بلا أي أخطاء أو سقطات ويتميز بعنصر جديد وهو كونه عربي، يتبنى قيمنا وعاداتنا يفكر كما نفكر نحن.
وسط بيئة وحقبة يتسلط فيها الكبار بنسبة كبيرة ويطالبون بالسمع والطاعة دون نقاش وجد هذا الجيل شابًا في الثلاثينيات من عمره يحترمهم ويشاركهم أفكاره ومنحهم ما احتاجوا إليه، ووجد فيه الفتية القدوة فطبيعة هذا السن أنه لا يرى المنطقة الرمادية بل يفكر بقطبية ويرغب في مثل أعلى بلا ثغرات وقدم لهم د.نبيل فاروق طلبهم على طبق من دهب، أما الفتيات وجدن فيه فارس الأحلام والقدوة أيضًا.
مطالعتهم لرجل المستحيل جعلتهم يشعرون بأنهم أنضج وأكثر وعيًا فالسلسلة تعج بالمعلومات في شتى المجالات وليست مجرد عرض معلومات عادي بل مؤثر في حبكة القصة وسياق الأحداث؛ مما يجعل نسيان هذه المعلومات أمرًا صعبًا.
ملف المستقبل
مغامرات خيالية من ملفات المخابرات المصرية العلمية ولكن البطولة جماعية مشتركة بين 4 أفراد نور الدين ضابط المخابرات المصرية العلمية، وزوجته مهندسة الاتصالات سلوى، ورمزي طبيب نفسي، وأخيرًا العالم محمود.
كان ملف المستقبل على النقيض تمامًا من رجل المستحيل فهنا لن نتحدث بمنطقية ومبررات عقلانية، بل سنطلق العنان لخيالنا وننطلق في كواكب ومجرات مختلفة ونبتكر اختراعات وكائنات فضائية، لكن سنُبقي على عنصري المثالية والتعليم بشكل غير مباشر.
فاعتمد د. نبيل فاروق على نفس الخلطة ولكن التغيير جاء في القالب، جدير بالذكر أن للكاتب سلاسل أخرى مثل سيف العدالة وفارس الأندلس و(ع2x) لكنهم لم يحصلوا على نفس الاحتفاء الخاص بالسلاسل السابقة.
ما وراء الطبيعة
ظهرت سلسلة ما وراء الطبيعة على يد د. أحمد خالد توفيق في منتصف التسعينيات تقريبًا وسدت فراغ آخر، شخصية البطل رفعت اسماعيل شخصية عادية للغاية لا تملك قدرات غير عادية جسدية أو فكرية ودائمًا يجمعه حظه العسر بمواقف مرعبة وخارقة للطبيعة ولكنه يبحث وراء هذه الخوارق حتى يكشف حقيقتها أو يهدمها ولكن ليس على نحو سيئ.
تميزت سلسلة ما وراء الطبيعة باعتمادها على التراث العربي الفلكلوري والمصري تحديدًا القصص والأساطير التي تجاهلها غالبية كتاب أدب الرعب وذهب ليكرر ويعبث بقصص الغرب رغم ثراء العالم العربي والأفريقي بمجموعة فريدة من الأساطير.
عنصر التميز الثاني هو رفعت اسماعيل ذاته شخص عادي جدًا يمكنه أن يكون أي شخص منا؛ فيقع في الأخطاء ويدركها لاحقًا ويتمتع بحس فكاهي سوداوي يدفعك للضحك من قلبك وفي نفس الوقت يحمل بين طياته معانٍ تستحق التأمل؛ كالسخرية من الجهل، أو الانصياع للأوامر دون تفكير، أو شر بعض الناس وأكثر من ذلك بكثير.
أحمد خالد توفيق
تفرد سلسلة ما وراء الطبيعة لم يقف عند الموضوعات والشخصيات وما إلى ذلك بل قدم تجربة جديدة لم تقدمها أي رواية عربية أخرى؛ وهي الرواية التفاعلية مثل عدد “في كهوف دراجوسان” فأنت ستحدد مصير البطل وقرارته وقد تختلف الرواية باختلاف مزاجك في هذا اليوم أو باختلاف تاريخ اليوم.
ستحتاج فقط إلى ورقة وقلم حتى تنظم أفكاركك وتعلم كيف ستتصرف، وبهذا منح المؤلف كل القراء فرصة أن يصبحوا كتابًا معه ويقضوا يومًا كاملًا كرفعت اسماعيل.
اقرأ أيضًا:
- رفعت إسماعيل بطل ما وراء الطبيعة: حديث عن أظرف شيوخ الأرض وأذكاهم
سافاري
هي عبارة عن مرجع طبي بلا مصلحات معقدة أو أسلوب نمطي، فهي تحكي عن طبيب في وحدة سافاري بأفريقيا التي تقدم الرعاية الطبية لمختلف أنحاء أفريقيا، في الأدب نادرًا ما تجد كاتبًا يولي اهتمامًا للقارة السمراء ولشباب هذا الجيل كانت قارة أفريقيا منطقة مجهولة لكن بعد سلسلة سافاري اختلف الأمر تمامًا.
نظرًا لأن الكاتب واحد فالتيمة واحدة والكوميديا السوداء موجودة بشكل واضح وستجد تشابهًا كبيرًا بين الاثنين، لكن تميزت السلسة بشيء جديد وهو سعيها لإزالة الوصم عن بعض الأمراض مثل الجذام ولم يكن الخطاب عن الأمراض الموصومة تلك مليء بالنصائح بل تحدث بما يجول في عقول الناس العاديين.
فانتازيا
سلسلة شهيرة من سلاسل روايات الجيب هي أيضًا للدكتور أحمد خالد توفيق ولكنها أقل عمقًا من السابقين وليست أقل متعة، فتميزت ببطلتها عبير عبد الرحمن العادية جدًا ولا تملك أي شيء مميز سوى خيال خصب وتستخدم آلة تنقلها لعوالم مختلفة من القصص والأساطير ولكن ليس بطريقة تقليدية بل ستتفاعل عبير مع الأبطال والأحداث وستغير مجراها.
من أكثر الأجزاء تسلية في سلسلة فانتازيا استعانة المؤلف بالمغامرون الخمسة ورفعت اسماعيل وأدهم صبري كمحطات ستزورها عبير وسخر الكاتب من أعماله ومن أدهم صبري مما أضاف على السلسة نكهة مميزة، وشجعهم بشكل غير مباشر على مبدأ “لا شيء فوق النقد”؛ فكان الكتاب المنافسون يتقبلون هذا النقد بصدر رحب مما منح القراء الشعور بأنهم وسط عائلاتهم فزادت الألفة بينهم وبين الكتاب وأبطالهم.
كانت فانتازيا تحقق رغبة مدفونة في نفوسنا مهما كبرنا ماذا سيحدث إذا قابلت فلان وأخبرته عما حدث للعالم أو ناقشته في أفكاره وما قام به؟
الخبر السعيد في كل ما سبق أن مؤلفات أحمد خالد توفيق تُمتعك في أي سن، على عكس رجل المستحيل وملف المستقبل فبهم بعض المبالغات التي قد لا تتقبلها حاليًا.
الشياطين الـ 13
سلسلة من سلاسل روايات الجيب غنية عن التعريف بالطبع فتحكي عن 13 شابًا وفتاة في عمر المراهقة من دول الوطن العربي المختلفة، يكافحون الشر والمؤمرات ضد العالم العربي.
هذا النهج زرع في نفوس مراهقي هذه الفترة الإيمان بمبدأ الوحدة والتكاتف، وخلق مساحة مشتركة، ولغة بين مراهقين الدول العربية المتنوعة، وساعد على إذابة بعض الفوارق التي قد يزرعها خطاب بعض الدول، كما تفتحت أعين هذا الجيل على العالم العربي فلم تعد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أرض المغامرات وكل مختلف وجديد فوجودوا أن وطنهم العربي مكتظ بالقصص والمغامرات ولكن لمن ينتبه لها.
تمكن الشياطين من إقناع هذا الجيل أن بداخل كل فرد منهم بطل خارق فقط بالسعي والعلم والتدريب وعلى أرض وطنك، فالشياطين ليسوا من كوكب آخر أو يملكون قدرات غير طبيعة هم مجموعة مراهقين يستفيدون أقصى استفادة من قدراتهم البشرية.
المغامرون الخمسة
حالها كحال الشياطين الـ 13 تخاطب شريحة سنية أصغر من مثيلاتها ولا تتسم بالعمق الشديد أو المعلومات والمغامرات المعقدة لكنها استلهمت مغامراتها من الأحداث العادية اليومية، فتجعل كل مشهد تصادفه يدفعك للتفكير في ما ورائه وتحفز التفكير النقدي في عقول المراهقين واستخدام المنطق والاستنتاج.
لعل أهم دور لعبه المغامرون الخمسة والشياطين الـ 13؛ هو تأهيل جيل هذه الفترة للصعود إلى مرحلة أدهم صبري ورفعت اسماعيل وغيرهم.
زهور
سلسلة من سلاسل روايات الجيب كانت من تأليف د. نبيل فاروق و د. شريف شوقي وبعدها تُرِكت بالكامل للأخير، تمثل زهور رمزًا لاستيعاب الكتاب لاختلاف الأذواق وسعيهم لجعل كل الشرائح تقرأ.
فكونك غير محب للفانتازيا أو الرعب والمغامرة يعني حرمانك من القراءة بالطبع لا؛ فزهور كانت تقدم روايات رومانسية تقليدية أو نمطية كقصص الحب رغم الاختلاف الطبقي، وقصص الخيانة وما إلى ذلك.
لكن لا يمكننا أن ننكر أنها حصدت شريحة كبيرة من قراء سلاسل روايات الجيب وساعدت فئة من غير المهتمين بالقراءة على المتابعة واكتساب عادة القراءة.
فلاش/سماش
عدم حبك للقراءة أو الروايات لا يعني أنك ستُحرم من التسلية هذا هو شعار خالد الصفتي عندما أطلق فلاش وسماش؛ فهم عبارة عن قصص قصيرة للغاية لا تتجاوز الصفحتين مع عدد ضخم من الألعاب والألغاز والمعلومات العامة، واستطاع بهذه الخلطة أن يجذب عددًا ضخمًا من المتابعين الذين وجودوا في سلاسل خالد الصفتي ألعاب وتسلية بتكلفة بسيطة ودون الحاجة لمطالعة مئات الصفحات لمعرفة حل الألغاز داخل كل رواية.
هل يمكن ظهور سلاسل روايات الجيب حاليًا؟
لا أؤيد التفكير القائل بأن لا جمهور الآن لهذه الأشياء؛ فالمراهقون هم المراهقون متعطشون لكل مختلف وجديد الفارق أنهم في وقتنا هذا يفضلون التسلية السهلة أو السريعة والتلقي دون تفكير.
فإذا وُجِد الكتاب القادرون على دراسة تفكيرهم حاليًا ومعرفة كيفية تقديم محتوى يبهرهم مع كل المحتوى المميز المتاح على الساحة فسيتابعون حتى لو لم يكن هذا المحتوى هو سلاسل تقليدية في أجزاء فلكل فترة ما يناسبها، المهم هو التأثير وليس الطريقة.
والدليل على انجذاب الجيل الحالي لمجموعة سلاسل روايات الجيب السابقة هو الإقبال الشديد على مشاهدة ما وراء الطبيعة والمغامرون الخمسة عندما تم تحويلهم إلى أعمال درامية مما يعني أن الرغبة موجودة لدى هذا الجيل للتعلم واكتشاف عوالم جديدة، لكننا نحتاج لوسيط يناسب الطرفين المنتج والمتلقي.
لك أيضًا:
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.