رواية موت إيفان إيليتش: كيف يقضي المرء حياته سدى؟
6 د
وفجأة خطرت على باله هذه الفكرة؛ «أيُعقل أنني لم أعش حياتي كما ينبغي؟ ولكن كيف ذلك! وقد فعلت كل شيء كما ينبغي عليّ فعله»
بهذه العبارة الصادمة يمكننا الولوج إلى عقل إيفان إيليتش القاضي الروسي الذي عاش حياته «كما ينبغي».
تبدأ رواية موت إيفان إيليتش للكاتب الشهير ليو تولستوي بمشهد خاطف يعلن فيه زملاء إيفان من القضاة خبر وفاته، دون تعاطف أو أي قدر من الأسى، ولكنهم يناقشون الترقيات المحتملة لكل منهم بعد أن أصبح المقعد الذي شغله إيليتش فارغًا. ثم يتبعه تولستوي بقدوم بيتر صديق إيفان إلى منزله للتحدث مع زوجته براسكوفيا، وبدلًا من إظهار الحزن أو الأسى لفقدان زوجها إيفان إيليتش، تهتم الزوجة بمناقشة قضايا المعاش والميراث مع القاضي لتتعرف على الطريقة القانونية المثلى لتعظيم مكاسبها من موت القاضي.
اقرأ أيضًا: قبل الموت بلحظات: ماذا كانت أمنيات هؤلاء؟
المطبات الحياتية لتهدئة السرعة
يقول أرسطو:
«الإنسان بطبيعته حيوان اجتماعي، إن أي فرد غير اجتماعي لهو خارج منظورنا، أو أكثر من مجرد إنسان بشري. إن المجتمع سابق على الإنسان».
مثلما قال الفيلسوف الإغريقي، فإن الإنسان حيوان اجتماعي. ينشأ الإنسان منذ نعومة أظافره وسط مجموعة من القيم والأعراف والتفضيلات الاجتماعية التي يغذيه بها أقرانه من الأكثر خبرة بالمجتمع، سواءً كان هؤلاء الخبراء آباؤه أو أصدقاؤه أو المعلم بالمدرسة أو الجامعة. يسمي الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو هذه المنظومة الاجتماعية باسم الهابيتوس habitus، ويعرفه بورديو بأنه نسق الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه والعالم الذي يحيط به.
كان إيفان إيليتش منذ شبابه هذا الشاب الصالح، الذي سمع من أقرانه ومن يكبرونه سنًا أنه يجب أن يضمن لنفسه مكانة اجتماعية مرموقة، ومالًا بالآلاف لكي يكون إنسانًا ذا قيمة، وإلا سيحتقره الجميع وسيكون وجوده مثل عدمه.
سعى إيفان إلى وظيفة مرموقة في القضاء الروسي، وإلى الترقي، والانتقال إلى سان بطرسبرغ لكي يحصل على وظيفة ذات عائد مادي أعلى، لينال بذلك احترام وإجلال عائلته بعد أن وفر لهم المزيد من المال والرخاء الاجتماعي، فبعد أن لقّنه المجتمع كيف ينال محبة الآخرين عبر سبل معروفة ومحددة، فوجئ عند موته بأن حياته كانت سدى، وأن الجميع لا يعبأ بشخصه بقدر ما كان الاهتمام بما يحققه لهم، وعند وفاته تهتم زوجته بنفس المال الذي كان يوفره في حياته لتضمن استمراره بعد وفاته.
كان إيليتش يظن أنه يعيش حياته كما ينبغي، إلى أن اعترضه هذا المطب الحياتي، عندما اصطدم رأسه واختلف الأطباء على تشخيصه، حتى تدهورت صحته تدريجيًا وبدأ يحتضر، دون أن يدرك من حوله هول الموقف الذي وُضع فيه إيفان، وكأنهم ينتظرون وفاته ليطمئنوا بخلاصهم منه، أو كأن حياته لم تكن ذات معنى بالنسبة إليهم حتى يهتموا بمرضه بالطريقة التي تنقذ حياته. وهذا المطب الحياتي الذي جاء لإيفان إيليتش في أرذل العمر لا يفترض أن يعترض طريق الجميع في هذا الوقت، بل قد يصيبك منذ المراهقة أو الشباب، قد يكون هذا المطب وفاة شخص ما، أو التعرض للخذلان من إنسان عزيز عليك، أو أي موقف يثبت للإنسان أن رؤيته لنفسه والناس والعالم من حوله يعتريها القصور ويدفعه لمراجعة أفكاره واختياراته في الحياة.
الحياة والموت والإنسان بينهما
«لقد أثارت حقيقة موت شخص قريب منهم في كل من سمعوا الخبر، كما هو الحال دائمًا، شعورًا بالسرور لأنه مات ولم يموتوا هم»
يختلف التعامل الإنساني مع الموت والحياة تبعًا للشخص المعرض للموت أو المتمتع بالحياة، وتبعًا للمرحلة العمرية التي يعيش بها الإنسان. يرى المحلل النفسي ومؤسس علم النفس الفردي ألفريد أدلر في كتابه «معنى الحياة» أن الإنسان يعيش حياته بمسلمة تفترض أنه يعيش للأبد وأن الموت عارض في تفكير الإنسان، وإذا فكر فيه فإنما يفكر فيه بقلق، فلا إنسان يرغب بالموت إذا كانت الحياة بالنسبة إليه هبة.
يأمل كل إنسان في الخلود ما بعد الحياة، كاستمرار للحياة نفسها التي يعيشها المرء الآن وهنا، ولكنه في آن يشعر بالسرور كما يحكي تولستوي لوفاة الآخرين قائلًا الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا.
بالنسبة إليّ، أرى ثمة أفعال لا يمكننا أن نفصل إحداها عن الأخرى، فمثلًا، لا يمكن الفصل بين القراءة والكتابة؛ لكي يكتب المرء عليه أن يقرأ، ولكي يقرأ عليه أن يكتب. هكذا فإن الحياة والموت حدثان لا ينفصلان، أو كما يقول الشاعر تشارلز بوكوفسكي: «على المرء أن يموت عدة مرات قبل أن يبدأ حياته حقًا» ماذا يعني أن يعيش المرء حياته حقًا؟ أو كما يقول سقرط، ما هي الحياة التي تستحق أن نعيشها حقًا؟
الواقع الافتراضي، ماذا يريد الإنسان حقًا؟
يضعنا الفيلسوف الأمريكي روبرت نوزيك في تجربة فلسفية فكرية، قائلًا تخيل أنك ترتدي نظارات الواقع الافتراضي، أو يضعك الأطباء على جهاز إنعاش يضمن لك حياة لا تشوبها شائبة، ووعيك يمكنه خلق عالم كامل من وحي الخيال، تخيل أنك اخترت أن تكون طبيبًا واكتشفت علاجًا للسرطان، أو اخترت أن تواعد الفتاة التي تحب، أو اخترت أن تكون رئيسًا لأكبر دولة في العالم وحققت الحالة المثلى من السعادة وأنجزت «افتراضيًا» أكبر ما يمكن لإنسان أن يحققه، فهل هذه الحياة «السعيدة» حياة جيدة؟
والواقع أن هذه الفكرة تجسدت بالفعل في العمل الدرامي الأمريكي “ويست وورلد“، حيث يستطيع الناس ممارسة ما يبتغوه من أفعال دون عواقب اجتماعية لتلك الأفعال، فكانت تلك الحالة من الحرية المطلقة معبرة عن جوهر كل إنسان شارك في هذا الاختبار. وعبرت تلك الحالة عن مدى تأثر الإنسان بما يفرضه الواقع الاجتماعي عليه من معايير وقيم وقيود أمام ما يبتغيه، وهو ما عبّر عنه سيجموند فرويد وجاك لاكان وناقشه التحليل النفسي بصورة عامة، فكأن الإنسان يضع رادارً على أفعاله دون أن يراه أحد، ولا يرغب بشيء إلا ما سيجعله محل رضا الآخر الاجتماعي.
كيف يتجاوز الإنسان فخ الحياة المسلوبة؟
يقول تولستوي على لسان بطله:
«كذب. كل شيء عشت لأجله كان خداعًا، كذبة، خداع وكذب يخفي الحياة والموت عنك».
يتبادر للذهن السؤال البديهي: كيف تكون حياة الإنسان حقيقية، ليست كذبة أو خداعًا؟ ربما نستطيع العودة إلى موقف إيفان إيليتش في الرواية مع خادمه جيراسيم، الذي قضى مع إيفان كل الصباح والليل بعد أن أهمله أحباؤه وأعزاؤه، ويسمح لإيفان بوضع قدمه على أكتافه، موفرًا إياه العاطفة والأمان الذي يحتاجه أي إنسان، فما بالك بإنسان يحتضر. لقد أدرك إيفان إيليتش الكذب والنفاق وكيف كانا يكتنفان حياته، أدرك أن كل ما سعى إليه من طموحات اجتماعية ومادية لم توفر له العاطفة والأمان وقت مرضه واحتضاره، بل وفرها له إنسان بسيط عمل عنده خادمًا.
لقد شغل سؤال الحياة المبتغاة كل الفلاسفة منذ سقراط حتى اليوم، بين أرسطو الذي يرى أن الأفضل وسط بين نقيضين فالشجاعة فضيلة بين الجبن والتهور، وكانط الذي يرى أن الأخلاق ركيزة الحياة الجيدة، ونيتشه بنظرته عن الإنسان الأعلى، وصولًا إلى فلاسفة الوجودية ورؤيتهم عن صناعة المرء حياته بنفسه. يرى سقراط أن الركيزة الأساسية للحياة الجيدة التأمل بها، والخروج من أسر القيم سريعة التحضير التي تغذينا بها الحياة الاجتماعية، لصالح رؤية فردية للحياة يخطط بها الفرد حياته بنفسه ويكسر قيود الجاهز والمريح.
لن يفيد تتبع كلام الفلافسة عن الحياة الجيدة، ولا يهدف هذا المقال إلى توفير إجابات جاهزة عن الحيوات المحتملة التي كان يمكن لإيفان إيليتش أن يحياها ليشعر في نهاية حياته أنه عاشها على أكمل وجه ولم يفرط في وقته تفريطًا. ولكن المقال يهدف إلى إعادة التفكير والتأمل في مسلمات عشناها دون أن نراجعها، مسلمات عشنا بها ولأجلها ولا ندري إذا اقترب منا الموت هل سنعيش بنفس الطريقة أم سنراجع مسار حياتنا من أجل إنجاز ما يجعل الحياة مستحقة لأن نحياها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.