رواية الطريق لمؤلفها كورماك مكارثي: هكذا يكون شكل الحياة ما بعد الكارثة
5 د
منذ فجر التاريخ ومشكلة الموت والفناء كانت تورق الإنسان، وهي أحد المعضلات التي أسست وافترقت عليها الأمم والحضارات، وبالتأكيد يعرف كل إنسان بأن الطريق إلي النهاية هي شيء مؤكد، ويحاول نقل إحساسه بالفلسفة والأدب.
لم ينتهِ الإنسان عند فكرة فنائه، بل ومن خلال المشاهدة والملاحظة يشاهد نهاية وفناء الموجودات من حوله، فيرى موت البشر والحيوانات والنبات، بل حتى فناء واهتراء أدواته، وكلما زاد الوقت وتقدم البناء الفكري والثقافي للإنسان زاد معه تعقيد الفكرة، وحتى أصباغها على الكون كله بشكل عام، والحياة على الأرض بشكل خاص.
رواية الطريق من أدب نهاية العالم
وهنا يجدر بالذكر بأن الأدب الروائي قد أصبح مع الوقت زاخرًا بهذه الفكرة، فمع انتشارها بالأساطير ويكاد لا دين يخلو من فكرة النهاية (القيامة)، فحاول العديد من الأدباء مجاراة الفكرة، ونقل القصة من إطار الأساطير إلى حيثيات أكثر علمية، فنذكر في هذا المقام الروائي والسينمائي “Cormac McCarthy – كورماك مكارثي”، الذي قام بكتابة رائعته “The Road – الطريق”، والتي تعتبر من أحد الأفرع الرئيسة في أدب الخيال العلمي يدعى post- apocalyptic function، والذي يصف شكل الحياة ما بعد الكارثة، والتي تكون بدائية، ويتطرق على كيفية النجاة من الأهوال والصعوبات التي ترافق الثلة الباقية.
حازت رواية الطريق لمؤلفها كورماك مكارثي على جائزة بوليتزر عن فئة الأعمال الخيالية عام 2007، وأيضًا تم نقل الرواية إلى فيلم سينمائي، يعتبر الروائي كورماك مكارثي من أعظم الكتاب الأمريكيين في العصر الحديث، وله أعمال كثيرة منها: ثلاثية (الحدود) والتي حولت أيضًا إلى أفلام سينمائية هي: (كل الجياد الجميلة عام 1992، وأما الجزء الثاني فهو العبور عام 1994، والجزء الأخير هي رواية مدن السهل عام 1998) ومن رواياته أيضًا (لا مكان للرجال المسنين) عام 2006، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي أيضًا.
تبدأ رواية الطريق لمؤلفها كورماك مكارثي بداية كئيبة، عن رجل وطفله الوحيد (مجهولي الاسم)، الذي ولد في ظروف لا تدعم الحياة، ولا يوجد إلا ثلة قليلة من البشر تصارع فيما بينها للعيش ولو ليوم إضافي، ويترك الكاتب سبب هذه الكارثة مجهول، فقط امتداد رمادي وبيوت متناثرة. يصارع والد الطفل من أجل إنقاذ طفله، من كل خطر يحيق به، هائمين على وجوهم بحثًا عن الساحل، الذي يظن الأب بأنه الملجأ والمنجى الوحيد في ذلك العالم المتهاوي.
عثرات الطريق وتحولاته
يتموج بنا كورماك مكارثي في ثنايا روايته بجو من الكآبة المفرطة، مغامرة كان وجود الصبي غاية لا بد من الحث عليها بشكل ضروري بالنسبة لوالده، الذي كان حواره الداخلي متصارعًا بشكل جنوني، بين إنقاذ طفله وإفناء ذاته، ولا يجب أن يغيب عن بالنا زوجته، التي كانت في كثير من الأحيان تزوره في أحلامه، تطلبه بالمجيء لعندها (بعد قيامها بالانتحار)، وعدم وجود سبب واضح للبقاء في هذه الحياة المصنوعة من لونين فقط.
وأيضًا سبب أكبر للقضاء على حياته وحياة صغيره، ألا وهي تحول معظم البشر لقاطعي طريق، غذاؤهم المفضل اللحم البشري الطازج منه، فكيف بطفل ما يزال في مقتبل عمره، وبالفعل لبرهة كان الاثنين سوف يلحقون بعزيزتهم الغائبة، وفضل الأب أن يؤكل ابنه ميتًا خير له بألف مرة من أن يشاهد ذلك الطفل الرقيق لحم جسده يمزق ويرمى في المرجل.
بالتأكيد ليس كل البشر قد تحولوا إلى أشرار، وما زال بعضهم يبحث عن الحب والخير ومساعدة الغير حتى بدون مقابل، ولكن كيف يعرف الأب نوايا الناس، فليس لديه أي احتمال بالمخاطرة، فربما يكون الخطأ الأول هو الأخير بالنسبة لطفله فيسعى الأب جاهدًا لتجنب الناس وحتى من كان بحاجة إلى المساعدة، فالحذر واجب بدرجة كبيرة، ومع هذا الحذر يبدو ابنه الراشد لديه أقوال أخرى، فيبقى في معظم التقاءهم بالغير يطلب من أبيه مساعدتهم لعل وعسى أن يكون هذا الشخص أو تلك يستحقون المساعدة.
التناقضات التي لا تغيب
من الملاحظ بأن كورماك مكارثي استطاع بقدراته الفذة الجمع بين التناقضات بالفصل الواحد، فبين الرغبة بالموت وضرورية الحياة والكفاح لأجلها، وبين الشر الشبيه بالشر المطلق وأكل اللحوم للبشر وهم أحياء، والخير المبذول وتقديم المساعدة ولو كان ذلك خسارة للحياة أو الغذاء، وبالتأكيد لا يغيب عن المشهد اليأس المفرط والكآبة المؤلمة للأحداث جمعها مكارثي من لمسة أمل في كثير من الأحيان وخاصة عندما وجد الأب الكنز الأكبر من غذاء مخبأ مد عمره وعمر طفله لأسابيع عدة بعد أن كان الموت جوعًا هو المحقق بكل تأكيد، ومشاهد أخرى تبعث في جو الرواية الشد المطلوب لإكمالها.
الرحيل والتعلق بنوايا الناس
بعد غمار تلك الرحلة التي يتبين للقارئ بأن الروائي لا يريد أن ينهيها بل يترك مصير الطفل والبشرية جمعاء معلقًا وصناعة مخيلات القراء، وفي مجريات أحداث القصة يبين لنا مكارثي بأن الأب قد أصبح مريضًا عليلًا وأصبح شبه هيكل عظمي مستور بالجلد لحماية العين من رؤيته، ويشاركه بالأمر طفله، ومن ثم يزداد تدهور الحالة الصحية للأب إلى أن يصل لنهايتها، محاولًا بأقصى جهده البقاء حيًا من أجل فلذة كبده، لكن دون جدوى، فقد فعل المرض فعلته بجسده ورئته.
وبعد ترجل الأب عن الحياة التي يحتاج أن يحيها لأجل طفله، يهيم الطفل على وجهه، بدون سند بدون أمل، فينقل هنا الكاتب الصورة النهائية لحياة الطفل، وكأنه يؤكد لنا بعدم قدرة الكائن البشري الصغير على الحياة بدون رعاية، حتى تحنو منه عائلة كل الخير في قلوبهم، كانوا يراقبون الطفل ووالده منذ زمن لا يريدون مسهم بسوء. ليكمل الطفل رحلته بمساعدة العائلة السعيدة بحثًا عن فرج أو حياة، يستطيع القارئ أن يبني النهاية التي يريدها.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.