ما الحرية وهل نحن مخيّرون أم مسيّرون؟ سألناكم فكانت الإجابة في هذا المقال
إن التساؤل عن الحريّة عامة وعن حريّة الإرادة خاصةً تساؤل مركزي وُلد مع الفلسفة نفسها وظلّ يلازمها منذ بداياتها الأولى، حتّى وجدنا في السؤال عن ماهية الإنسان سؤالًا عن مصيره وبالتالي عن مدى حريّته وتقريره لهذا المصير، وقد طرح المفكر والفيلسوف الماركسي “أنطونيو غرامشي” ذو النظارات الدائرية والكتابات الثورية والمذهب الشيوعي هذه الأسئلة أو التساؤلات فقال:
” هل يمكن أن يتحكم ويسيطر الإنسان على مصيره الخاص؟ هل هو حرٌّ بما يكفي؟ وهل يمكن أن يصبح حرًّا أكثر وبالتالي ما السبيل إلى تقليص الموانع وتوسيع دائرة حريته؟”
السؤال هو الخطوة الأولى للوصول إلى الإجابة وهو المحدد الأهم في عمليّة الفهم التي قد لا تتكلل نتائجها بالعثور على ردٍّ يروي ظمأنا، ولكنها قد تحملنا إلى أسئلة وقناعات ومدارس أخرى لم نخمن فيها أو لم نقترب منها من قبل، كما أنه الوسيلة الأنجع للوصول إلى الحقيقة على نسبيّتها؛ لهذا اخترنا أن ننطلق من تعريفكم للحريّة ومن ما إذا كنتم ترون أننا مخيّرون أو مسيّرون حتى تكون عمليّة التفكير جماعيّة من باب نفعيٍّ وتشاركيّ.
سألناكم عن الحرية فأجبتم، وحان دورنا لنجيب عن السؤال
كرّر الكثير من متابعي أراجيك نفس التعليق المدافع عن العلاقة الشرطيّة بين الحريّة وترك المضرّة، بينما عرّفها آخرون بنقيضها فقالوا إنها الحالة التي يغيب فيها الإكراه والإجبار والضغوط الخارجية، فلا نكون فيها عبيدًا أو سجناء لشيء (فكر أو نمط عيش أو وظيفة أو مال) أو لشخصٍ ما، مع احترام خيارات الأفراد ضمن المجتمعات.
لكن ما لفت انتباهي في الحقيقة هما تعليقان أولهما لمتابع يقول بأنه لا يراها أكثر من ثمرة غير ناضجة سقطت من شجرة طوباوية، والثاني لآخر يقول أنها أول خمس دقائق بعد الولادة. فما مدى صحّة هذين التعليقين؟
يأتي السؤال عن الحريّة كما ذُكِر في كتاب “الحريّة دفاتر فلسفية ونصوص مختارة” الذي ترجمه كلًّا من الأستاذين محمد الهلالي وعزيز لزرق والصادر عن دار النشر المغربية دار توبقال للنشر نتيجة لثلاثة أسئلة: هي السؤال المعرفي والسؤال الوجودي والسؤال العلائقي.
الحرية عند كانط: ما الذي يمكنني معرفته
يحيلنا السؤال الأول إلى “كانط” حين قال: “ما الذي يمكنني معرفته؟”، فالسؤال عن الحريّة وعن معناها هو سؤال نبحث من خلاله عن معرفة ما، أما السؤال الثاني ففيه عودة إلى ماهية وكينونة الإنسان، إذ كما سبق وأشرنا، التفكير في الإنسان هو تفكير في حريته والعكس صحيح، والسؤال الثالث هو بحث عن تعريف الحريّة من خلال فهم تداعياتها على الفرد وعلى المجتمع في مجالات حياتية مختلفة منها الاقتصاد والدين والفن والأخلاق والتربية والتعبير والجنس.
بالإضافة إلى هذه الروابط التي تجعل من معالجة سؤالٍ ظنّ البعض أنه سهل الإجابة، تظهر روابط أخرى أوّلها الارتباط الوثيق بين السؤال عن الحريّة والسؤال عن علاقة الإنسان بالله، فكيف يمكن للفرد أن يكون حرًّا مادام مصيره محددٌ سلفًا من قبل الله؟ ولِمَ تظهر مسألة الحِساب والعقاب والثواب في حين أن الله يعلم مسبقًا يوميّ الإنسان ويقررهما له؟ وهل الدين عنصرٌ مقيّد للحريّة؟ وثانيها علاقة الانسان بالطبيعة باعتباره عنصرًا من عناصرها وجزءًا خاضِعًا لقوانينها.
وتتواصل معاجلة هذه المعضلة بمعالجة علاقة الإنسان بذاته أي بما يكوّنه من وعيٍ ولاوعي ومن هرمونات وتفاعلات كيميائية يدرسها علم الأعصاب وعلم الإدراك، وقد تتحكم في سلوكياته. هذا على المستوى الفردي. أمّا على المستوى الجماعي فهي على صلة بمفهوم الدولة والسياسة والعنف الشرعي وحقوق الغير وبعلاقة الإنسان بهذه المفاهيم.
الحرية على عدة مستويات
تعرّف الحريّة بكونها حالة تغطّي عدّة مستويات: على مستوى بيولوجي، هي الحالة التي توصف بالصحة الجسدية والنفسية الجيّدة، إذ لا يحسّ المريض نفسه كائنًا حرًّا بقدر اعتقاده بأنه عبدٌ لمرضه ولتجارب الألم التي يعيشها فيه وسجين جسده أو عقله.
على مستوى نفسي، يعتبر الإنسان حرًّا حين يمارس عفويته ويتصرف على طبيعته ويقول هنري برغسون في كتابه الذي كان تحت عنوان “بحث في المعطيات المباشرة للشعور” في هذا السياق: “إننا نكون أحرارًا عندما تصدر أفعالنا عن شخصيتنا الكاملة، عندما تعبر عنها، عندما تكون مشابهة لها في شكلٍ كبيرٍ جدًا، مثل تلك العلاقة التي تجمع أحيانًا بين العمل الفني والفنان”، لكن هذه العفوية نفسها مقيّدة ببند احترام الآخر أو عدم إلحاق الضرر به.
أما على مستوى الوعي، قد نلخص الحريّة في إمكانية حريّة الاختيار مما يعني وجود خيارات مختلفة، وبالتالي وجود أفعال ونتائج وأسباب مختلفة قد تدفعنا نحو خيار دون آخر وإلّا وجدنا أنفسنا في وضعية حمار بوريدان أو ما يسمى بمفارقة الحمار.
من منظور أشمل، تعرّف الحريّة كما عرفها كانط سابقًا باعتبارها حالة طوعية وإرادية ناتجة عن خيار شخصي عقلاني ومبرر في أعين المجتمع.
هكذا، نصل إلى أطروحة قد لا ترضي الجميع وهي أطروحة ديكارتية تدعم فكرة كون الحريّة لا تكمن في ما نفعله فقط، بل في الطريقة التي نمارس بها ذلك الفعل، فنحن جزء من عالم يكبرنا ومن نظم لا ترانا ومن قوانين طبيعية مازلنا إلى اليوم نحاول فكّ ألغازها ورسائلها المشفرة، ويعود سارتر الوجودي وقبله كيركجارد إلى هذا الطرح ليختصرا الحريّة في قدرة الإنسان على تحقيق ذاته بالعمل، لا بالمعاناة من خلال الرفض والوقوف عند هذا الرفض.
العيش الهانئ ليس حرية: هكذا قال جبران
قال جبران خليل جبران في كتابه النبي أن خطيبًا قال له:
“هات حدثنا عن الحرية” فأجاب قائلًا: “قد طالما رأيتكم ساجدين على ركبكم أمام أبواب المدينة وإلى جوانب المواقد تعبدون حريتكم وأنتم بذلك أشبه بالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العسوف الجبار يمدحونه وينشدون له وهو يعمل السيف في رقابهم. نعم، وفي غابة الهيكل وظل القلعة كثيرًا ما رأيت أشدكم حرية حمل حريته كنير ثقيل لعنقه وغل متين ليديه ورجليه. رأيت كل ذلك فذاب قلبي في اعماق صدري ونزفت دماؤه لأنكم لا تستطيعون أن تصيروا أحرارًا حتى تتحول رغبتكم في السعي وراء الحرية إلى سلاح تتسلحون به وتنقطعوا عن التحدث بالحرية كغايتكم ومهجتكم”.
الحرية هي حالة آنية تشبه الفرح الذي لا يجب أن نتذكر خيانته السابقة حين يطرق أبوابنا من جديد، وهي بذلك مرتبطة بحيّز زمني معيّن لا يمكنه أن يستمر طويلًا. نحن أحرار متى كسرنا قيود فكرة الحرية المطلقة التي ليست إلّا نقيض الحريّة، ومتى تمعنا في اختياراتنا وتسلحنا بقوة الإرادة والعزيمة. نحن أحرار حين نحب بعفوية ونكتب بصدق ونتصرف بمسؤولية. كل ما في الأمر أننا انتقلنا مع مرور الزمن من الحرية الطبيعية إلى الحرية المدنية، وبمقتضى البند السادس من الإعلان عن حقوق الإنسان صرنا نتحدث عن حرية المواطن لا عن حرية الإنسان وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.