وفقًا لسيجموند فرويد: تحليل شخصية سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب
8 د
في الواقع، حاولت أن اخلع الزي التقليدي لمناقشة رواية أو شخصية في روايات نجيب محفوظ وأن أقوم بتحليل شخصية سعيد مهران من منظور آخر وهو الأدب النفسي.
وكثيراً ما أجد لذة خاصة في كتابة أو قراءة أي شيء يخص نجيب محفوظ ولكن عادة ما ترهقني السطور التي أكتبها حوله، ذلك لحرصي الشديد على أن تكون الأفكار والكلمات بالسطور متسقة ومثالية كصاحبها.
سنتحدث عن شخصية سعيد مهران في رواية اللص والكلاب والتي كتبها نجيب محفوظ في مرحلته الواقعية النقدية التي جاءت بعد الثورة وحطمت طموحات الكثير من الأشراف والشباب وكان من بينهم نجيب محفوظ. من ضمن الروايات التي كتبها في تلك المرحلة أيضاً: ثرثرة فوق النيل والكرنك وميرامار، (قمت بكتابة مقالة حول رواية الكرنك يمكنك الاطلاع عليه من هنا).
شخصية سعيد مهران والأدب النفسي
قد يظن البعض للوهلة الأولى بأن هناك علم يسمى علم الأدب النفسي يتكون من علم النفس وعلم الأدب، ولكن لا. الأدب النفسي يعد نظرية من النظريات التي يستعملها الباحث في الأدب لإبراز الجوانب النفسية لشخصية من الشخصيات التي تمت كتابتها بواسطة الكاتب.
وتلك الدراسات النفسية المتخصصة في مجال الأدب لها دور فعال في تعميق الدلالات والأهداف المقصودة للكاتب، وتبرز للنقاد والمحللين التوغل في عوامل الكاتب وتفاصيل شخصيته الباطنة، لذلك تلك الدراسات تضيف للنص الروائي بشكلٍ كبير.
وفي ضوء ذلك، قمت باختيار شخصية سعيد مهران في رواية اللص والكلاب التي كتبها نجيب محفوظ ليبرز بعضاً من واقعه الذي تغير كثيراً بعد الثورة. فنجد أن سعيد مهران يخرج من السجن ليتلقى أول صدمة وهي زوجته التي تزوجها عليش سدرة صبيه قبل دخوله السجن، وعندما يطلب رؤية ابنته يلقى جفاوة إنكارها له.
خيانة وإنكار بعد محبه وإخلاص كل هذا التغير وهو بالسجن. ذاك المشهد الذي شكل الرؤية الأولية للشخصية ودوافعها للانتقام. ثم يقرر الذهاب لصديقه “رؤوف علوان” الذي كان يسرق معه، فيجده هو الآخر قد تغير، فأصبح صاحب جريدة تسمى (الزهرة) تدافع عن سياسة الحكومة الجديدة وبفضلها استطاع أن يكون من رجال الدولة المعروفين والمقربين من السلطة.
هكذا تلقى سعيد مهران صدمته الأخرى التي حطمت آخر سطر في مبادئ “رؤوف علوان” التي كانت مبادئه هو الآخر. فكيف له أن يجد صديقة الذي كان يسرق معه، ويؤمن بنفس مبادئه الاشتراكية ودوافعه نحو السرقة، قد تحول وتغير وأصبح يمارس سلطاته ويُهيمن على أموال لا حق له فيها.
وهنا اكتملت ثنائية الخيانة والانتقام في شخصية البطل سعيد مهران، الذي تجرد من كل معاني الإنسانية حتى في محاولته الأولى التي أخفقها في قتل صديقه وأصابت الرصاصة البواب، لم يتوقف عن متابعة خططه للانتقام. فأصبح لديه ذلك المبدأ الأناني الميكافيلي الذي تبناه صديقه للوصول لهدفه، وهو الانتقام تحت أي ظرف ومهما كلفه الأمر حتى لو كانت أرواحاً بريئة.
الشخصية عند سيجموند فرويد
تتكون الشخصية عند سيجموند فرويد من ثلاثة نظم وهم: الهو- id، الأنا- Ego، الأنا العليا- Super ego والسلوك الفردي للشخصية هو نتيجة تفاعل تلك النظم مع بعضها البعض.
سيغموند فرويد
- أولاً – الهو id: وهو القسم اللاشعوري في الجهاز النفسي الذي يعبر عن رغبتنا ودوافعنا تجاه الأشياء التي تحقق لنا لذة. فالهو هو المحرك الأول لدينا تجاه الأشياء التي في مخيلتنا أن تجلب لنا سعادة (طعام – شراب – جنس). فهي دائمة الوجود بداخل الإنسان وتحاول التعبير عن نفسها بشتى الطرق من بين هذه الوسائل الاشعورية الأحلام وفلتات اللسان والتعبير وغيرها.
- ثانياً – الأنا Ego: هو الجزء المسؤول عن تنظيم عملية الرغبات تلك وفقاً للفرص والعقبات الموجودة بالعالم الحقيقي والأنا الأعلى. فهي في حالة من التفاوض الدائم مع الهو حول الفرص المتاحة وإمكانية تحقيق تلك الرغبات على أرض الواقع.
- ثالثاً – الأنا العليا: هو النظام المعاكس للهو، فالأنا الأعلى هي التي تظهر لنا جانب الشخصية الاجتماعية، فهي تجسيد للقيم في المجتمع وتعاليم الطفولة والموروثات بشكل عام. وظيفتها الأساسية هو تحديد ما هو الصواب وما هو الخطأ، لكي يتمكن الشخص من التصرف وفقاً لمعايير المجتمع. حسناً يمكن أن نعتبرها الضمير والنظام الحاكم بين الهو والأنا.
تمتلك شخصية سعيد مهران تلك النظم الثلاثة، ونتيجة تفاعل تلك النظم في مختلف المواقف السلبية التي مر بها في الرواية من خيانة زوجته وصبيه أو إنكار ابنته له أو حتى مطارده الشرطة له؛ شعرت الأنا لديه بالإرهاق حيث التوتر والقلق الدائم الذي كان مُلازم له طوال الرواية.
فعندما لا تستطيع تحقيق الرغبات أو الأهداف التي تريدها؛ يصبح الواقع أكثر سوءاً ولا يوجد مفر من تقليل تلك الضغوطات سوى من خلال مجموعة من السلوكيات التي تعيد التوازن لدى الأنا، تلك السلوكيات التي نطلق عليها آليات الدفاع النفسي.
وفي رأيي الشخصي، عبقرية نجيب محفوظ في رسم شخصية سعيد مهران، تكمن في أنه رغم كل المطاردات والجو العام للرواية من توتر وقلق وعدم الراحة، لم يشعرك بذلك القلق أو التوتر في شخصية سعيد مهران نفسها، وكأنه يُخبر قارئه بأنه أمام مريض نفسي في المقام الأول وليس لصاً!
اقرأ أيضًا:
شخصية سعيد مهران وآليات الدفاع النفسي
أول من صاغ ذلك المصطلح هو سيجموند فرويد ومن بعده ابنته -آنا فرويد- التي أكملت مسيرته وأضافت العديد من آليات الدفاع النفسي الأخرى. ثم لحقها بعد ذلك عدد من الباحثين وأصبح يتم العديد من الأبحاث على تلك الآليات. وسنركز في ذلك المقال على أربع آليات استخدمهم سعيد مهران بشكلٍ ملحوظ في الرواية.
التبرير – Rationalization
التبرير هو تلك المحاولة لإيجاد حجة مقبولة للنفس لتتابع السير فيما هي تفعله، التبرير هنا لا يعني الصدق بالضرورة ولكن يكفي أن يكون سبب فعل الشيء مُقنع لديه حتى لو في الأصل فعلاً غير أخلاقي. استخدم سعيد مهران التبرير في العديد من المواقف أبرزها السرقة.
فصديقه “رؤوف علوان” الذي شجعه على السرقة باعتبارها (فعلاً بطولياً) مادامت من فيلات الأغنياء، وقد جاءت أفكارهما عن السرقة لتتواءم مع الأفكار الرائجة آنذاك في السياق الواقعي، حيث الثورة توزع ثروات الأغنياء على الفقراء، للقضاء على الإقطاع والاحتكار وكافة أشكال الاستغلال. فظل ذاك المبدأ موجود مع شخصية سعيد مهران في جميع سرقاته.
حتى عندما قرر سرقة أحد الأشخاص بمساعدة نور كان حريصاً على أن يكون من هؤلاء الأشخاص الأغنياء.
التكوين العكسي – reaction formation
التكوين العكسي هو إظهار مشاعر كاذبة عكس التي يجب أن يظهرها الشخص في الواقع. تلك التي ظهرت في بداية الرواية بشكلٍ واضح مع بداية ذهابه إلى عليش سدرة.
“وجاءه صوت من ورائه يقول: سعيد مهران! ألف نهار أبيض.. توقف عن المسير حتى أدركه الرجل فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية بابتسامة باهتة” ص 7
حتى بعد مشهد إنكار ابنته له، تمالك نفسه حتى لا يُظهر ما بداخله من انكسار فكان رده عليهم:
“سأعاود التفكير في الأمر كله، ولا شك أنه خير أن أنسى الماضي، وأن أبحث عن عمل حتى أهيئ للبنت مكاناً طيباً في الوقت المناسب” ص 15
ولكن هل تناسى سعيد الماضي؟ لا.. بل ظل أسير الماضي، الذي كان المُحرك الأول لديه في جميع محاولاته للانتقام. فقد كان يظهر ألامه بالحديث عن الانتقام من الجميع بشكلٍ مستمر، ولم تذرف دموعه ولو لمرة واحدة في الرواية.
الأسقاط – Projection
“أنت يا رؤوف وراء كل ذلك” ص 96
الأسقاط هو إلقاء الخطيئة على الآخرين كما لو أن الشخص خالي من الأخطاء. تلك الآلية التي لازمت سعيد مهران في الرواية، فلا يوجد مشهد واحد في الرواية اعترف سعيد مهران بأنه مُخطئ أو حتى فكر في ذلك، بل كان يلقى اللوم دائماً على الخونة.
بداية من صديقة “رؤوف علوان” الذي استضافه في منزله واعطاه ورقتين من ذات الخمسة جنيهات، وعرض عليه أن يعمل مُحرر في الجريدة. ومع ذلك قرر الانتقام منه رغم أنه صديقه الذي تحول إلى أصحاب السلطة وخان المبادئ التي كانا يدافعان عنها سوياً. ولكن أي خيانة تلك التي يتحدث عنها، وقد قرر التسلل لمنزله وقتله! ولن يكتفي بمحاولة واحدة بل محاولة أخرى رمياً بالرصاص.
أياً منهم الذي خان الآخر حقاً؟ هل ذاك التحول الذي حدث لعلوان كان يستحق من سعيد أن يفكر في قتله؟ بل ومقارنة بالمقابلة الأولية لكل من “رؤوف علوان” وعليش سدرة، فقد استقبله رَؤُوف استقبالاً أكثر تقديراً من الآخرين. كل هذا أنكره وقرر أن يجعله هو الآخر من الخونة.
الإنكار- Denial
من أكثر آليات الدفاع النفسي التي نستخدمها وكانت بارزة في شخصية سعيد مهران. فلا يكاد مشهد يخلو فيه إلى نفسه ولا يستخدم الإنكار.
عاد إلى شاطئ النيل وهو لا يصدق أنه نجا… وعجب تحت أنفاس الفجر الطيبة كيف أنه لم ينتبه إلى هوية الحجرة التي ضبط فيها وأنه لم يكد يرى منها إلا بابها المزخرف وأرضها الشمعية. ص 43
“أقنع نفسه بأن نجاة عليش سدرة ليست هزيمة مادام سينزل عقابه برؤوف علوان، إذ إن رَؤُوف هو رمز الخيانة التي ينضوي تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة في الأرض” ص 106
فقد كان يحاول أن يداري إخفاقه في المحاولة الأولى له في اغتيال صديقه حتى لا يشعر بالحرج أمام نفسه، فهو ليس فاشلاً ولكن بسبب تلك الغرفة قد أخفق في المحاولة الأولى. ولكن هيهات، فالرواية ما هي إلا تسلسلاً لمراحل فشل شخصية سعيد مهران في محاولات الانتقام والتي انتهت بالاستسلام (بلامبالاة)، وكأن محفوظ يخبرنا بأنه ليس لصاً ولكنه مريض نفسي من الدرجة الأولى وضحية من ضحايا المُجتمع.
في النهاية، شخصية سعيد مهران أو رواية اللص والكلاب للكاتب نجيب محفوظ تطرح العديد من الأسئلة لتجعلك تفكر قليلاً في ماهية الرواية والواقع مثل: هل كان يستحق سعيد تلك النهاية؟ ماذا لو كان قد خرج ووجد ابنته معه، كيف كان سيكون مصيره؟ هل كان سيفكر في الانتقام من “رؤوف علوان” أم كان سيقبل بوظيفة المُحرر حتى يستطيع أن يأوي ابنته؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.